بقلم: جمال زحالقة
حقّق يائير لبيد، نهاية الأسبوع الماضي، حلمه بأن يصبح رئيسا للحكومة الإسرائيلية، ولو كمرحلة انتقالية لفترة محدودة لا تتعدّى ستة أشهر، إلّا إذا أفضت نتائج الانتخابات عن مفاجآت، تبدو بعيدة في المرحلة الحالية. ووفق تصريحاته، التي تلت تسلّمه المنصب الجديد، بأنه لا ينوي إحداث أي تغيير في السياسات الحكومية القائمة، ومن الواضح أن جل اهتمامه سينصب على إقناع الناخب الإسرائيلي بأنّه يستطيع القيام بمهمّة رئيس الوزراء بشكل أفضل من بنيامين نتنياهو، المنافس القوي وصاحب الحظوظ الأكبر للفوز بالانتخابات، كما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة.
من موقعه الجديد في رئاسة الوزراء، سيحاول يئير لبيد استغلال واستثمار رضا أوروبا وأمريكا وبعض العرب عن وجوده في هذا المنصب وخشية هذه الأطراف من عودة نتنياهو، ساعيا للحصول على «مكاسب» إسرائيلية تحسب لصالحه في المعركة الانتخابية. علاقة لبيد مع الإدارة الديمقراطية في واشنطن قويّة وحميمية، وهو أكثر استعدادا للانسجام مع سياساتها من نتنياهو، المندفع نحو العودة للسلطة وحتى من بينيت، الذي اعتزل السياسة مؤقّتا. ويعتقد الديمقراطيون أن عودة نتنياهو لرئاسة وزراء إسرائيل ستكون هدية للجمهوريين، لذا سوف يفعلون الكثير من أجل دعم بقاء لبيد في الحكم ولن يبخلوا عليه بالهدايا السياسية، بما فيها هدايا «عربية» ثمينة.
الأسبوع الأوّل: أطلق لبيد سلسلة من التصريحات السياسية، التي قال فيها إنّه سيواصل عمليا سياسة الحكومة، التي يشارك فيها منذ إقامتها، ومع ذلك حملت بعض تصريحاته صياغات مختلفة عما درج سلفه، نفتالي بينيت، على القول. فخلال زيارته لباريس هذا الأسبوع، صرّح للصحافيين الإسرائيليّين، الذين رافقوه، بأنّه يؤيّد مبدئيا ويعارض عمليا لقاء الرئيس الفلسطيني محمد عبّاس، وعلل كلامه بالقول بأنّ اللقاء ممكن فقط إذا كان «يحمل نتائج إيجابية لإسرائيل والوضع ليس كذلك الآن» ومن المعروف أن بينيت عارض أي حديث عن لقاء أبي مازن، رافضا إيّاه تحت أي ظرف كان. وكذلك جاءت تصريحات لبيد بالنسبة للاستيطان أقل حدّة من موقف سلفه، الداعم بقوّة للتوسّع الاستيطاني، مؤكّدا على الموقف المتفق عليه مع الإدارة الأمريكية وهو أنّ «البناء في المستوطنات سيكون فقط لتلبية احتياجات النمو الطبيعي للسكّان ولن تقام مستوطنات جديدة». في الحقيقة هذه صياغات كلامية لآذان أوروبية وأمريكية، لكنّها لن تنعكس على الواقع من الناحية العملية، حيث لن يحدث أي تغيير سياسي في فترة لبيد، فهو لا يريد ذلك لأسباب انتخابية، ولا يستطيع ذلك لأسباب ائتلافية.
نقاش حول إيران
لا يستطيع لبيد تجاهل التطورات في المفاوضات النووية، والحاجة إلى تفاهم وتنسيق مع الولايات المتحدة من جهة، والنقاش الحاد بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول الموضوع من جهة أخرى، فرغم أن إسرائيل الرسمية تعرض موقفا موحّدا حول المسألة الإيرانية وهو، رفض الاتفاق النووي، الذي جرت وتجري حوله مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، ورفض تخفيف العقوبات على إيران، والدعوة لتجهيز ما يسمّى «تهديد عسكري له مصداقية» لإجبار إيران على الخضوع للمطالب الدولية، كما تراها إسرائيل، التي هي بالأحرى مطالب إسرائيلية. ويدور نقاش حاد في الكواليس بين شعبة المخابرات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي، التي ترى أن الاتفاق خير من عدمه، والموساد الذي يعارض بشدّة الاتفاق ويدعو إلى تصعيد الخطوات التخريبية على المشروع النووي الإيراني، وإلى ضم قوى دولية أخرى إلى هذا المجهود. تتبنّى القيادة السياسية الإسرائيلية رسميا موقف الموساد وتدعو إلى رفض الاتفاق، لأنّه حسب قولها لا يضع شروطا مشدّدة بما فيه الكفاية لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية.
لكن يبدو في الفترة الأخيرة أن ما يقضّ مضاجع إسرائيل أكثر من المسألة النووية هو إمكانية رفع العقوبات عن إيران، وضخ مليارات الدولارات لمشاريع تطوير وتدقيق أسلحة الصواريخ والمسيّرات الهجومية، إضافة إلى تقوية سلاح البحرية والقدرات السيبرانية الإيرانية. وعليه فإنّ لبيد سيحاول إقناع الأمريكيين بعدم التوصل إلى اتفاق مع إيران، وتبنّي ما سماه «مسارا بديلا» يرتكز على تشديد العقوبات والتهديد بضربة عسكرية قوية. ومع ذلك، وفي كل الأحوال، يبقى لبيد مريحا للإدارة الأمريكية الحالية، إن هي توصّلت إلى اتفاق مع إيران، لأنه لن يتحدّاها علنا، ولن يفعل ما فعله نتنياهو حين توجّه إلى الكونغرس وإلى الرأي العام الأمريكي ضد إدارة أوباما.
تقع المواقف السياسية لحزب «يش عتيد»، الذي يرأسه يئير لبيد، والذي هو فيه الآمر الناهي، وصاحب القرار الأول والأخير، في مكان ما بين اليسار الصهيوني واليمين الإسرائيلي التقليدي، وهذا ما يسمّى في إسرائيل «الوسط». هذا الوسط هو وسط إسرائيلي وبالمعايير الإسرائيلية المشوّهة والمتطرفة، وليس بالمعنى المتعارف عليه من اقتران بالاعتدال. إنّه وسط متطرف، إذا جاز التعبير، كما يظهر ذلك في البرنامج السياسي الرسمي لحزب لبيد، الذي يشمل مثلا «القدس ستبقى موحّدة تحت السيادة الإسرائيلية، وأيضا «الكتل الاستيطانية الكبرى ستبقى جزءا من إسرائيل.. والمستوطنون هم صهيونيون حقيقيون»، وكذلك اشتراط أي حل سياسي بأن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح مع الاحتفاظ بحق إسرائيل في حريّة «العمل من أجل الدفاع عن أمنها بكل الوسائل وبلا قيود».
أما بالنسبة لقضية اللاجئين فموقف حزب لبيد واضح وحازم «حل قضية اللاجئين يكون في الدولة الفلسطينية، ولا بأي حال من الأحوال في حدود دولة إسرائيل». كما يزايد حزب لبيد على نتنياهو بكل ما يخص قطاع غزّة، حيث يضع «اشتراطا واضحا بين إعمار غزة ونزعها من السلاح، فلن نقبل بالإعمار بلا نزع السلاح». لكن حتى هذا البرنامج غير صالح للاستعمال السياسي في المستقبل المنظور، لأنّه لا تلوح في الأفق حكومة إسرائيلية ممكن أن تقبل بحل الدولتين، ولا حتى بشكله المشوّه، كما يعرضه حزب «يش عتيد». ويبقى برنامج لبيد السياسي على الرف، لسببين الأول أنه يؤمن مثل غيره من الساسة الإسرائيليين بأن القضية الفلسطينية لم تعد ملحّة، والثاني أنه لا توجد تركيبة ائتلافية تقبل حتى بالتفاوض على أي حل كان. حال لبيد وحزبه وبرنامجه، خير دليل على أن أبواب الحل السياسي للقضية الفلسطينية مغلقة ومحكمة الإقفال، وحتى الساحر «هوديني» لا يستطيع فتحها.
ماذا يفعل لبيد في فيلا سلامة؟
عارض الشاباك الإسرائيلي بشدّة انتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد إلى المقر الرئاسي المعهود وهو «بيت أجيون»، الذي بناه عام 1938، الثري المصري، اليهودي الأصل، إدوارد اجيون وباعه للحكومة الإسرائيلية عام 1953. وسبب المعارضة هو عدم صلاحية البناية من الناحية الأمنية، حيث تجري فيها أعمال ترميم وتعديل واسعة ومكثّفة. وبسبب إصرار لبيد على السكن في القدس وبالقرب من المقر الرسمي لرئاسة الوزراء، جرى نقله إلى «فيلا سلامة» الملاصقة لبيت «أجيون»، التي بنيت عام 1932 لرجل الأعمال الفلسطيني حنا (جون) سلامة، وكان وكيلا لشركة جنرال موتورز في فلسطين والأردن. هذه ليست رمزية فحسب، بل تلخيصا لقضية فلسطين: رئيس الوزراء الإسرائيلي يسكن في بيت فلسطيني جرى تهجيره بالقوّة عام 1948. في السابق رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون السكن في بيت عائلة جمل، وكذلك لم يقبل خلفه ليفي أشكول السكن في بيت عائلة عبد الغني في القدس الغربية. والسبب أنهما خشيا من مشهد سكن رأس الهرم السياسي الإسرائيلي في بيت عربي، وبالطبع هما دعما التهجير والسطو على الممتلكات الفلسطينية، لكن حاولا تفادي «المشهد». أمّا لبيد فهو فاقد لهذا «الوعي التاريخي»، ولم يجد حرجا في التفاخر بالسكن في البيت العربي العريق. إنّ المهمّة المركزية لأي رئيس وزراء في إسرائيل، ليست الدفاع عن النفس كما يدّعون، بل المحافظة على ما سلبه وما سطا عليه المشروع الصهيوني عبر التاريخ، ودخول فيلا سلامة ينسجم تماما مع هذه المهمّة.
لقد سكن منطقة جنوب غرب القدس حوالي 22 ألف نسمة، وفق إحصائيات عام 1947، غالبيتهم الساحقة من العرب الفلسطينيين، بينهم حوالي 500 يهودي فقط. وكانت المنطقة مكانا لسكن البورجوازية الفلسطينية الصاعدة، وفيها تحف معمارية مذهلة بجمالها وخطوطها، التي تمزج الحداثة بالأصالة، ومنها بناية تراسنطة التي تطل على ساحة باريس وبناية قسطنطين سلامة (أخو حنّا)، الذي حاول إقناع الهاجانا بإبقاء العائلة في منطقة الطالبية، وبعد أن تلقّى وعودا بإبقاء العائلة، جاءت الأوامر العسكرية بطرده وتهجير العائلة وكل الفلسطينيين من المنطقة. لقد تفاخر لبيد هذا الأسبوع بأنّه يمثّل دولة ديمقراطية تتبنّى القيم الإنسانية، لكنّه تجاهل القيم الحقيقية التي يعمل على هداها هو ودولته، التي تسمح بطرد الناس والاستحواذ على ممتلكاتها. لكن لبيد، الذي دخل فيلا سلامة ضد رغبة أصحابها الحقيقيين، لن يستطيع النيل من الحضور المعماري الطاغي، الرمزي والفعلي، للبيت العربي الذي اقتحمه. هو يتكلّم عبري لكن «البيت بيتكلّم عربي» – مع المعذرة لسيد مكاوي.
٭ رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48
المصدر/ القدس العربي