ترى بعض مراكز الدراسات في الغرب بأن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط ليس تغييرا في الإستراتيجية، انما تحول في نهج واشنطن من التدخل المباشر وواسع النطاق إلى بناء التحالفات والاستفادة من قدرات الحلفاء، بحيث يمكن للبيت الأبيض تخصيص المزيد من الموارد لمواجهة القوة الصينية.
في الوهلة الأولى، يبدو تغيير سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أمرا حقيقيا، غير انه ومن الناحية العملية، فإن القول بتغيير إستراتيجية الولايات المتحدة الشاملة في المنطقة لهو قول خاطئ. فقرار واشنطن بتغيير الأولويات ليس جديدا، وقد ظهر منذ رئاسة باراك أوباما، وتم تعزيزه في إدارة ترامب، ويتم تنفيذه اليوم على يد بايدن. على الساحة قد غيرت عوامل مختلفة وجهة نظر البيت الأبيض. إذ ومع تنامي قوة الصين ونفوذها في المنطقة والعالم، تشعر واشنطن بالقلق من هزيمتها أمام بكين وتحاول تغيير أسلوب التعامل مع الصين من التنافس إلى المواجهة المدروسة. وفي هذا السياق، يرى البيت الأبيض أنه يجب تخصيص المزيد من الموارد العسكرية والاقتصادية لآسيا؛ لذلك قررت تقليص قوتها ومعداتها العسكرية في أجزاء أخرى من العالم ونقلها إلى شرق آسيا.
على هذا تبدو الإستراتيجية الجديدة مصيرية إلى حد ما، فخلافا للعديد من السياسات الشاملة للولايات المتحدة، يبدو أن كلا الحزبين في الولايات المتحدة ورؤسائهما يتفقون مع هذا القرار. لكن الانسحاب المتسرع للولايات المتحدة من أفغانستان زاد القلق بشأن القرار وكيفية تنفيذه. إذ قامت واشنطن بالفعل بتخفيض ونقل الكثير من معداتها وأنظمتها الصاروخية وقواتها المتمركزة في الخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فإن التطورات في الشرق الأوسط معقدة. فمن ناحية، لم تفكر واشنطن بعد في ملامح النظام الجديد، ومن ناحية أخرى، يواجه الشرق الأوسط ضغوطا اقتصادية واجتماعية شديدة جراء تفشي كورونا.
تبني مقاربة التوجه إلى الشرق
ان القرار الجديد يعبر عن إجماع كبير في سياسة واشنطن الخارجية وكذلك العمليات المهمة عند الرأي العام الأمريكي، فكلا الحزبين يتفقان حول هذا القضية بان الشرق الأوسط ليست بمنطقة تحظى بأهمية قصوى للمصالح الأمريكية، ومع هذا فان الحزبين كانا مختلفان حول توظيف الخطاب والمفردات فيما يتعلق بالشرق الأوسط، لكنهما متفقان حول التدخل الكبير والمبالغ فيه لأمريكا في الشرق الأوسط، وفضلا عن هذا كان الحفاظ على تدفق الطاقة من الخليج بأسعار منطقية، وضمان بقاء الكيان الصهيوني يشكلان الأولوية للبيت الأبيض سابقا، لكن اليوم فان الأمرين لا يدران باي نفع لأمريكا، وهناك دافع آخر يكمن وراء تغيير مقاربة أمريكا تجاه المنطقة، وخاصة الخليج وهو قوة الصين المتزايدة على الساحة العالمية وتخلف واشنطن عن بكين في الكثير من المجالات الاقتصادية والسياسية.
ما يثير قلق واشنطن هو ضعف أربعة حلفاء تقليديين للولايات المتحدة في المنطقة، وهم إسرائيل ومصر وتركيا والسعودية، لأنهم يعملون كمنافسين أو معارضين للأولويات الإستراتيجية للولايات المتحدة.
هناك إجماع في الولايات المتحدة حول أسلوب التعامل مع الصين وروسيا وهو تغيير المقاربة من سياسة التنافس إلى المواجهة المدروسة، كما أشار وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى ضرورة إعادة النظر في أولويات أمريكا خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأكد على ان أمريكا تعاني من قلة المصادر في بعض المناطق على غرار آسيا، وفي نفس الوقت أنها تخصص المزيد من الإمكانيات لمناطق مثل الشرق الأوسط.
فراغ السلطة في الشرق الأوسط
كان جو بايدن على دراية بسياسات الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، وهو يدرك جيدا أن إدارة شؤون المنطقة مرتبطة بسمعة واشنطن العالمية. سيكون للانسحاب المفاجئ وغير المخطط من الشرق الأوسط عواقب أكبر بكثير مما حدث في أفغانستان. ان ارتكاب أخطاء مماثلة يمكن أن يزيد من جرأة خصوم الولايات المتحدة الإقليميين والعالميين، ومن قوتهم ونفوذهم. كما تشكل تكثيف المنافسات الإقليمية، وإحياء قوة روسيا، ودور الصين المتنامي في الشرق الأوسط بعض التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، إن ما يثير قلق واشنطن هو ضعف أربعة حلفاء تقليديين للولايات المتحدة في المنطقة، وهم إسرائيل ومصر وتركيا والسعودية، لأنهم يعملون كمنافسين أو معارضين للأولويات الإستراتيجية للولايات المتحدة.
بناء تحالف أمني لحماية مصالح واشنطن في الشرق الأوسط
يرى الكثير من الخبراء ان اخفاق الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين يعود الى القطيعة الكاملة مع النموذج التاريخي لتدخل الغرب في ادارة القضايا الامنية في الشرق الاوسط خلال القرن المنصرم. ومع ذلك، تحاول الولايات المتحدة تحقيق أهدافها من خلال تقوية دول المنطقة بتكلفة أقل كي تقوم بمساعدة نفسها بنفسها. ورد في استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2015 فكرة استقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط بالتعاون مع الشركاء الذين يمكنهم الدفاع عن أنفسهم.
اخيرا وليس آخرا، حاولت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا استخدام الوسائل العسكرية لتحقيق نتائج غير قابلة للتحقيق في الشرق الأوسط، ولكن اليوم تريد استخدام الدبلوماسية العدوانية لتحقيق نتائج أكثر ديمومة. القضية التي تعمل الولايات المتحدة على تنفيذها في الشرق الأوسط هي تحويل دور واشنطن الأمني في المنطقة من ضامن إلى صانع التحالفات. إن التغلب على الخصومات الإقليمية وإقناع الشركاء بتحمل مسؤوليتهم حول الأمن الإقليمي هو طريق يتطلب دبلوماسية أمريكية مستدامة وشاملة. في هذا الاتجاه، تعتزم الولايات المتحدة استخدام كل الوسائل لإقناع حلفائها وشركائها خارج الشرق الأوسط بالمشاركة في المنطقة من أجل تحقيق أهداف استراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط. من الناحية العملية، تحاول الولايات المتحدة استخدام حلفائها الأوروبيين والآسيويين للعب دور أكبر الى جانب الشركاء والحكام العرب التقليديين بهدف تقليل تكاليفها وتقليل حجم النقد الموجه للبيت الأبيض بسبب تفردها في اتخاذ القرار في شؤون العالم والشرق الأوسط.