بقلم: وسام ابو شمالة
أشرت، في مقالاتي السابقة، إلى أن الجبهة الفلسطينية، في ساحاتها المتعددة، مرشحة بقوة لسيناريو المواجهة والتصعيد مع العدو الصهيوني، واللَّذين قد يتدحرجان إلى مواجهات نوعية في عام 2022. وتناولت، في المقال الأخير، ثلاثة أحداث بارزة في الأسبوع الأول فيه، عزَّزَت هذا التقدير، فكان إطلاق صاروخين على "تل أبيب" بسبب البرق، كما أشارت مصادر المقاومة، وأعقبه رد صهيوني باهت، فإطلاق المقاومة صاروخين من طراز "سام 7" على طائرات العدو المُغِيرة على غزة، وإجبارها على مغادرة الأجواء، وانتصار الأسير الفلسطيني هشام أبو هواش. وتساءلتُ في عنوان المقال: وماذا بعد؟!
جاء الرد على السؤال سريعاً من إحدى أهم الساحات تأثيراً في العدو، وهي الساحة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، وتحديداً في منطقة النقب المحتلة، وذات الأهمية الاستراتيجية.
تبرز أهمية منطقة النقب، الواقعة شرقي مدينة بئر السبع المحتلة، من عدة زوايا، أبرزها أنها تشكل ما يقرب من نصف مساحة فلسطين، بواقع 16 ألف كلم2. وتُعتبر المنطقة حيوية، من حيث إنها تضم أهم القواعد العسكرية الاستراتيجية للعدو، ومرافقه الأمنية الحساسة، وشبكة الطُّرق التي يسلكها جيش العدو وأرتاله العسكرية، والتي تحيط بها القرى الفلسطينية البدوية في النقب.
تشهد منطقة النقب مواجهات، منذ عدة أيام، بين أهالي سِتّ قرى بدوية فلسطينية وشرطة العدو وأجهزته الأمنية، على خلفية قيام جرافات العدو بعملية تجريف تمهيداً للاستيلاء عليها، بحجة تنفيذ خطة تشجير، الأمر الذي اعتُبر مقدمة للاستيلاء عليها تحت حجة أنها منطقة زراعية تشرف عليها حكومة العدو. وفي إثر التظاهرات الشعبية والمواجهات، نفّذ العدو عمليات اعتقال وتنكيل واعتداء وحشي على المتظاهرين، من الشبّان والنساء والأطفال.
تعتبر أوساط العدو أن الأحداث تفجّرت على خلفيتين وطنية وقومية، وجاءت في أعقاب تحريض فلسطيني ممنهَج، تنامى منذ معركة "سيف القدس"، التي شهدت فيها الأراضي المحتلة عام 1948، ما يشبه الانتفاضة ضد جنود الاحتلال والمستوطنين. فالعدو يعتقد أن حادثة التشجير التقطها الفلسطينيون في النقب المحتل، للتعبير عن هويتهم وتمسكهم بالسردية الفلسطينية منذ النكبة، ومفادها أن هؤلاء المستوطنين مجرد أغراب عابرون، وسيرحلون يوماً ما عن أرض الآباء والأجداد.
صنّف العدو الإسرائيلي الساحة الفلسطينية، في الأرض المحتلة عام 1948، على أنها تهديد استراتيجي يفوق خطره تهديد الصواريخ، وذلك منذ أحداث أيار/مايو 2021.
وحذّرت أوساط إسرائيلية متعددة من أن الفلسطينيّين البدو، في منطقة النقب، يمرّون فيما سمَّته "مرحلة الفلسطنة والأسلمة"، وطالبت بمواجهة هذه الظاهرة، قبل تحوّلها إلى خطر حقيقي على الدولة العبرية.
وناشدت قياداتٌ ومؤسسات فلسطينية بارزة، من جميع التوجهات في الأراضي المحتلة عام 1948، كلَّ أبناء النقب والمجتمع الفلسطيني، مواجهةَ مخططات العدو، والوقوفَ إلى جانب أهالي النقب. وانطلقت مَسِيرات تضامنية متعددة في أم الفحم واللد وغيرهما. وتطوّرت المواجهات، عبر قيام شبان فلسطينيِّين بإحراق سيارات تابعة للمستوطنين وشرطة العدو، وإلقاء الحجارة، وتعطيل خطوط سكك حديدية، الأمر الذي دفع المعلّمين الإسرائيليِّين إلى التزام بيوتهم وعدم التوجه إلى المدارس الإسرائيلية في منطقة الأحداث، خوفاً من مهاجمتهم، وهو ما لم يحدث حتى في أيار/مايو المنصرم، الأمر الذي أثار خوف العدو من انتشار الأحداث وتطورها، ودفع قادة سياسيين وأمنيين لدى الاحتلال إلى الدعوة إلى التراجع عن مشروع التشجير، الذي فجّر الموقف الحالي، بينما دعا قادة "الصهيونية الدينية"، إلى الوجود في النقب، و"زرع الأشجار"، وهو ما سيفجّر مزيداً من المواجهات، وسينعكس على استقرار حكومة نفتالي بينيت، بعد أن هدّد منصور عباس، زعيم حزب التجمع، "راعم"، بالانسحاب من الائتلاف الحكومي "الهشّ"، في حال لم يُلْغَ مشروع التشجير، علماً بأن عباس برّر مشاركته غير المسبوقة في حكومة العدو، بسعيه لمواجهة سياسات التهميش والعنصرية، والعمل على جلب الاعتراف بالقرى البدوية الفلسطينية، وغير المعترف بها "قانونياً"، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
وعكست تصريحات إسرائيلية متعددة حجم التخوف من تداعيات الأحداث في النقب المحتل، وقال رئيس قسم العمليات السابق في جيش العدو، اللواء يسرائيل زيف، إن "المواجهات المندلعة في النقب تُعِيدنا إلى أحداث مشابهة خلال الانتفاضة الأولى. ويمكن القول إن هناك انتفاضة شعبية حقيقية في النقب". وذكرت "قناة كان" العبرية أن المواجهات هي الأقوى منذ سنوات، وما زالت تتصاعد بوتيرة يومية. وقال رئيس حركة "ريجافيم" الاستيطانية، مئير دويتش، إن ردّ جيش الاحتلال كان بطيئاً ومتأخّراً في أحداث أيار/مايو 2021، واحترقت الطرقات والمدن وتعطّلت الحياة. وطالب دويتش بتدخل سريع لجيش الاحتلال و"الشاباك".
يُتوقَّع أن تستمر أحداث النقب، وقد تنتشر في مدن وقرى فلسطينية تعاني السلوك العنصري للعدو، الذي سيكثّف أدواته الاستخبارية والأمنية من أجل كبح الحراك الفلسطيني الثوري ضده وإحباطه. وحتى لو نجح العدو مرحلياً، وبصورة محدودة، في تنفيس الحراك، من أجل منع تحوُّله إلى انتفاضة فلسطينية عامة، فإن المشهد الفلسطيني الممتدّ منذ معركة "سيف القدس"، وروحَ المقاومة التي انطلقت في فلسطين المحتلة عام 1948، لن ينطفئا، وخصوصاً لدى الجيل الحالي من الشبّان والشابات، والذي يتوق إلى استعادة كرامته في أرضه ودياره، وهو ينطلق من مواجهة شرطة العدو والمستوطنين بدافع وطني، وليس بدافع مطلبي، الأمر الذي يدلّ على أننا أمام مرحلة جديدة في الصراع مع العدو، تبشّر بمراكمة مزيد من النقاط لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.