بقلم: جميل مطر
أقامتها قبل سبعة وسبعين عاما وقامت بإدارتها على امتداد هذا العمر المديد حكومات الدول العربية. الفضل في وجودها واستمرارها يعود وبحق إلى هذه الحكومات، وبدون تردد وبكل موضوعية، يجب أن نلوم هذه الحكومات على مسئوليتها عن الحالة الراهنة التي تردت إليها الجامعة العربية.
نلوم الحكومات التي أقامت الجامعة العربية وأدارتها بتدخلاتها المباشرة أو غير المباشرة، ولكننا، في الوقت نفسه، يجب أن نلوم أطرافا أخرى وظروفا خارجية تمثل الآن لنا كعرب وللحكومات العربية ولها، أي للجامعة العربية، تحديات جوهرية. فشلت الجامعة في التعامل مع بعض هذه التحديات، ولم تكن وحدها فأكثر الحكومات العربية فشلت مثلها. لم تكن الجامعة العربية في أي وقت عنصراً مستقل الإرادة أو حتى لاعباً أصيلاً في لعبة السياسة في الشرق الأوسط عموماً أو في الإقليم العربي بوجه خاص. كانت ولا تزال لاعباً تابعاً تتقاذفه الدول العربية ذات النفوذ وفي أغلب الأحيان اتفقت على قذفه خارج اللعبة بأسرها. توخياً للإنصاف والحق يجب أن نعترف أن الجامعة العربية ليست وحيدة أو استثناءً، فالحال في جميع المنظمات الإقليمية يؤكد الفشل. نعرف عن الآسيان في جنوب شرق آسيا والوحدة الأمريكية في الأمريكيتين حلقات من قصور مريع في تحقيق أهداف قامت من أجلها. عاشت جميعها عمراً مديداً ولم تنجز أكثر من أنها تحولت إلى منتدى يجتمع في ظله قادة هذه الدول لتلتقط لهم الصور لا أكثر. حتى هذه الفرصة كادت تختفي كغيرها من ضحايا جائحة “الكوفيد ـ 19”. لم تعد القمة العربية تُعقد بحضور كامل أعضائها، وإن عقدت فمن مكاتبهم. هكذا تفقد القمة أحد أهم وظائفها وهي الاحتكاك المباشر بين الحكام، ففي حالات معينة، تسبّب هذا الاحتكاك في تبريد نزاعات ناشبة أو في إشعال نزاعات جديدة. نذكر في هذا الصدد نزاعات شهيرة نشبت أو جرى تسخينها في قمة عقدت في بغداد وقمم عقدت قبلها أو بعدها في الرباط وتونس وبيروت والقاهرة. *** كنت منذ بلغت حدود الوعي السياسي أردّد مع آخرين القول الذائع إن الجامعة العربية مرآة لحال العرب. إن هم نشطوا نشطت الجامعة وإن هم فقدوا عزيمتهم فقدت الجامعة إرادتها وعزيمتها. حال الجامعة في أي لحظة يعكس حال العرب في تلك اللحظة، لذلك يجب أن نكون صرحاء ومخلصين لأنفسنا وتاريخنا فنقول إن الحال الراهنة للجامعة تكشف لنا عن أن حال الأمة في هذه الأيام يجب ألا يُسِرَّ حبيباً وإن كان يُسِرُّ عدواً أو آخر. والأسباب، من وجهة نظري، تقع تحت نوعين. هناك أسباب ليست من صنع العرب وهناك أسباب خاصة بهم أساساً. معظمها، هذه وتلك، ربما بدأت أسباباً ثم أوغلت واستقرت حتى صارت في يومنا هذا تحديات تواجهنا، مسئولين كنا أو شعوباً أو كلانا معاً.
من هذه التحديات ما نشترك فيه مع العالم بأسره. اشتركنا مع العالم في صنعها أو لم نشترك. المؤكد على كل حال أننا نشترك الآن مع الآخرين في دفع الثمن. اخترت من هذا النوع من التحديات أربعة، في رأيي أنها أثّرت بحدة في حياة أمم كثيرة ونحن من هذه الأمم.
أولاً؛ وقعنا مثل غيرنا أسرى هذا التحدي الفتاك، وأقصد جائحة الكورونا. أفلحت أمم في حالات نادرة التصدي لها فحققت خسائر بشرية أقل. لم يوجد هذا التحدي بهذا الشكل من قبل. لم تتعرض الأمة العربية تحديداً لكارثة بهذا الحجم عطّلت مسارات تنمية عديدة وأهلكت مئات الآلاف من السكان ودفعت مع أسباب أخرى الآلاف للهجرة. فشلت الحكومات العربية في تشكيل قوة ضغط جماعية تُصحّح الأوضاع المؤسفة في عمليات توريد اللقاحات من مراكز صنعها في الغرب إلى دول العالم النامي. دور كان يجب على الجامعة أن تلعبه مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بالنيابة عن الدول العربية أو تقوم بحثِّ الدول الرائدة في الجامعة على تحريك ضغط عربي شامل. المؤكد في كل الأحوال أن الدول العربية الأعضاء في الجامعة عجزت أو رفضت تحريك المسألة بما يخدم شعوب هذه الأمة ليس فقط في أيام هذه الجائحة ولكن أيضاً في المستقبل لتفادي التعرض لتحدٍ من هذا النوع على هذا النحو المتردي. ثانياً؛ عشنا أكثر سنوات الثلاثة أرباع القرن الماضية نخضع في علاقاتنا الخارجية وكثير من سلوكياتنا الإقليمية والداخلية لقواعد عمل وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية التي كلّفت نفسها صنع نظام عالمي جديد مزوداً بقواعد ومواثيق دولية تضمن التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بقواعد معينة في السلوك الدولي لا يجوز الخروج عنها. التزمت معظم الدول بهذه القواعد التي سرعان ما رسخت وبقيت راسخة لفترة طويلة. فجأة، وإن بمقدمات ملحوظة، كنا شهوداً على بدء انحدار الولايات المتحدة، ومع هذا الانحدار تعرضت منظومة قواعد العمل الدولي لتحلل ملموس وإن متدرجاً. ترهلت متدرجة أيضا مؤسسات العمل الدولي التابعة للأمم المتحدة وتعددت مظاهر قلة الكفاءة وضعف الإنجاز. وفي ظني أن الإهمال طاول أعمال مجلس الأمن المسئول عن حفظ الأمن والسلم الدوليين. كان واضحاً أيضاً أن الفوضى والارتباك صارا من علامات الانتقال العشوائية التي جرت بأمل اللحاق بركب الاستعداد لنظام دولي جديد يحل محل نظام القطب الواحد الذي أعلن قيامه الرئيس بوش الأب، وكان غزو أفغانستان والعراق بمثابة تدشين لمرحلة تفكك فيها الالتزام باحترام قواعد السلوك الدولي كما أقرتها المواثيق والأعراف الدولية. في ذلك الوقت أو بعده بقليل، ظهرت أفكار تدعو إلى العمل نحو صياغة قانون دولي جديد أو موازي وقواعد سلوك تضع في اعتبارها مصالح وحقوق شعوب العالم النامي. أخص بالذكر جهود كل من الأستاذين جورج أبي صعب وعلي الغتيت. وفي شأن الجامعة العربية نهضت من جديد أصوات بتشجيع من نبيل العربي بصفته الأمين العام للجامعة تطالب بإصلاح الجامعة وتطوير ميثاقها وأساليب عملها كرد فعل لحالة التسيب في احترام قواعد العمل الإقليمي. أعرف أن دولاً نافذة أحبطت كل المساعي المبذولة لتعديل مسار الجامعة ووضع قواعد إقليمية لتنظيم السلوك ووقف الفوضى الضاربة في معظم أرجاء العمل العربي المشترك. ثالثاً؛ خضع العالم بدءاً من أعوام السبعينيات من القرن العشرين لموجة جديدة ولكن عاتية من موجات العولمة. أسقطت الموجة أو أضعفت عديد المفاهيم وأدخلت أو عززت مفاهيم وممارسات أخرى. خرجنا، أغلبنا، ناقصي سيادة، مشرعة كافة أبوابنا، ومنها أبواب كانت تحمي صناعاتنا وزراعاتنا البضة من جبروت المنافسة من دول سبقتنا أو تميزت. وضعت العولمة طقوساً وجعلت الهلاك أو التبعية الجديدة مصير من يهمل تقديسها، وفي الوقت نفسه، أتاحت أمام عشرات الدول فرصاً لم تتح من قبل لنقل معالم من حضارات وإنجازات دول أخرى. كعرب استفدنا ولا شك في نواح ليست قليلة ولكن بثمن لم تقوَ دول بعينها على دفعه فسقطت. جدير بالذكر أن الجامعة العربية لم تساير بالسرعة الواجبة موجة العولمة فتخلفت عن الاستفادة منها أثناء وجودها ولم تعف نفسها أو دولها من تداعياتها. أقصد تحديداً، كمثال، فشلها في أعقاب موجة العولمة في تحجيم حالات النفور المتصاعد فى العلاقات بين الدول الأعضاء وبينها وبين دول الجوار، وأقصد، كمثال آخر، الإهمال في سد الفجوات الهائلة في اقتصادات الإقليم وفي مجتمعات دوله وبخاصة حالات اللامساواة الفاجرة، إن صح التعبير، وبعضها تسببت فيه موجة العولمة الكاسحة. رفضت الدول النافذة تطوير الجامعة خلال صعود الموجة والأخذ بتجربة أوروبا أو الصين، كلها بدون استثناء دفعت الثمن مقوماً بحروب أو ثورات وانتفاضات أو ثروات باهظة.
هناك أيضاً الأسباب الذاتية وهي بلا شك كثيرة ولعل بعضها الأقوى تأثيراً من كثير من الأسباب والظروف الخارجية، اخترت منها ما يلي: أولاً؛ انحسرت الهوية، ولنكن أقل حدة فنقول انحسر، بين كثير مما انحسر، الاهتمام بالهوية. فالهوية على المستوى النظري أو الفكري قد تكون من الثوابت بينما المتغير هو الالتزام بها. هناك مؤشرات لا يمكن تجاهلها ـ وإن كانت غير مؤكدة بالضرورة ـ تشير إلى وجود قصور واضح على مختلف المستويات في التزام العروبة كهوية. لم نعد نتحدث عنها في خطاباتنا السياسية كمعطى لا يقبل الجدل وإنما أشعر أنا شخصياً بأن في الخطاب الرسمي العربي كما لو أن جهوداً تبذل لتفادي سيرة العروبة كأيديولوجية وإن عابرة أو حتى العروبة كهوية ثابتة. تارة يبدو التجاهل وسيلة لتفادي الحرج أو إرضاء لقوى ضغط داخلية أو خارجية وتارة يبدو قناعة تستوجب تحشيد اتباع وتغيير ثوابت. واضح أيضاً أن الولاءات الفرعية وجدت في العولمة كما في موجات أخرى دعماً لتظهر وتزيح متدرجة الولاء للهوية القومية، وفي حالات كثيرة لتزيح الولاء للهوية القطرية على أهميتها في مراحل بناء الوطن والأمة. تعرضت الجامعة العربية في هذا المناخ لهزات نعرف أنها كانت بالغة العنف. إذ حاولت على مدى عقود التوفيق بين الولاء في أحسن الأحوال لقطرية في المهد ناشئة أو قبلية في التاريخ راسخة وبين الولاء لعقيدة سياسية أو دينية ثابتة حتى هبطت عليها مفاهيم من نوع الطائفة والعرق والناحية لتحبط كافة محاولات التوفيق. كانت النتيجة، بين نتائج أخرى، فشل الدولة في عدد غير قليل من الدول أعضاء الجامعة.
ثانياً؛ نعم لدينا في الجامعة العربية عدد لا بأس به من أعضاء فاشلين كدول. صحيح أن هذا العدد ليس كبيراً إلى درجة تبث شكوكاً حول شرعية وجودها كمنظمة لا بد لتعيش أن تحظى باعتراف المجتمع الدولي، ولكنه صحيح أيضاً أن وجود هذا العدد في منظمة إقليمية كاف ليثير الشك في فاعلية أدائها. إذ أنه حين تكون قاعدة التصويت هي إعتماد مبدأ الإجماع تصبح أجهزة المنظمة عاجزة عن اتخاذ القرار المناسب وبخاصة في مسائل هامة مثل تسوية النزاعات وتطوير المنظمة. تصبح أيضاً الأمانة العامة للجامعة مصابة بالشلل، تشتعل نزاعات وتتشكل تحالفات وتتدخل زعامات ودول في شئون دول أخرى أعضاء في الجامعة والأمانة العامة ممثلة في أمينها العام ومساعديه مشلولة الحركة لسنوات. البعض منا، كأشخاص ارتبطوا بنشاط ما في المنظمات الدولية والإقليمية، يعلم حق العلم أن الشلل إن أصاب إرادة وعزم قيادة في منظمة فسرعان ما ينتشر بين القيادات الأقل مرتبة انتهاء بالموظف والعامل الأدني درجة. كلنا وبخاصة المطلعين على أحوال جنوب شرق آسيا أدركنا قبل سنوات هذه الحالة في محاولاتهم تشخيص أسباب العلة في أداء منظمة الآسيان. ثالثاً؛ بعض العرب لم يعودوا واثقين كل الثقة من نية أو قدرة الولايات المتحدة على تأمين أمنهم وثرواتهم لأسباب التفصيل فيها يخرج عن خريطة هذا المقال، في الوقت نفسه، أثبتت التطورات فشل العرب جميعاً في توليد نظام أمن عربي يحقق هذا الغرض أو جزءاً هاماً منه. لذلك انفرطوا وتشتتوا واختلفوا حتى تخاصم البعض منهم وكانت مرآتهم، أي الجامعة العربية، تعكس هذه الصور البغيضة لتراها بقية أركان الأمة العربية والعالم الخارجي. هكذا تتأكد براءة الجامعة فالدول الأعضاء فعلت بنفسها ما وقع لها وفيها وفي الجامعة أيضاً. هي التي رفضت الأمن الذاتي وهي التي استدعت التدخلات الأجنبية سواء من دول الجوار أو من دول في أوروبا أو من الولايات المتحدة، وعندما تقرر انحسار الدور الأمريكي وتعويضاً عنه تنافست دول الجوار على مهام سد الفراغ وامتنعت الدول الأعضاء، فتحجر الشلل في أنشطة الجامعة غير الروتينية. رابعاً؛ يحدث في جامعتنا ما يحدث في منظمات إقليمية أخرى. الدول الحريصة على النهوض والحصول على مكان لائق ومحصن في دنيا الغد توجهت بكل طاقتها وطاقة الدول الحليفة نحو امتلاك ناصية التكنولوجيا بالغة التقدم وتوظيفاتها. الصين انطلقت في هذا الاتجاه، واليابان وسنغافورة ودول أوروبا وأمريكا الشمالية وروسيا تزاحم بالعضلات وتكنولوجيات السلاح والسيبرانية، ودول في العالم العربي تحلم منفردة بتوظيف علاقاتها وثرواتها، ولكن ـ وأقولها بثقة المتابع ـ لم تحلم بالعمل في إطار الجامعة العربية، وإذا كانت زاهدة في هذه المنظمة فضمن إطار عربي جديد لتصنع مستقبلاً عربياً مختلفاً. هكذا فعلت سبع دول عربية قبل سبعة وسبعين عاماً عندما اجتمعت لتنشئ جامعة الدول العربية. *** آن أوان رد الجميل للهوية العربية وللدول السبع المؤسسة للجامعة من جانب الدول التي نشأت ونهضت وترعرعت في حمى أو عطف أو تشجيع الجامعة، فلتنشئ جامعة عربية موازية، أو تبث في الجامعة القائمة طاقة وروحاً، أو تدعو لتصحيح أخطاء جسيمة ارتكبناها في حق الهوية والماضي والمستقبل قبل أن تستفحل عواقب الأخطاء فتجور على ما تبقى. نعم.. آن الأوان.