2024-11-30 12:42 م

تشيلى وفلسطين و«صبيان شيكاغو»!

بقلم: د. منار الشوربجي
انتخاب جابرييل بوريتش رئيسًا لتشيلى واحدة من حلقات موجة جديدة من موجات صعود اليسار بأمريكا اللاتينية. فهو أعقب فوز بيدرو كاستيللا ببيرو فى مايو، ثم زيمورا كاسترو بهندوراس فى نوفمبر. والانتصارات الهشة الثلاثة تُضاف لانتصارات أخرى لحكومات يسارية قبلها بالعام نفسه بالأرجنتين وبوليفيا. وهى كلها انتصارات هشة لأن اليمين ليس فقط قويًا وإنما يشن أيضًا حملات شرسة قادرة بدرجات مختلفة على محو تلك الانتصارات بسرعة وسهولة. لكن تظل لتلك الانتصارات مغزاها المهم الذى يستحق التأمل. ولعل تشيلى هى الأهم من حيث المغزى والأهمية لسببين.

أول الأسباب هو أن تشيلى كانت معمل التجارب الأول لما صار يُعرف اليوم بالنظام الاقتصادى النيوليبرالى. ففى السبعينيات، بعد الانقلاب الدموى لأجوستو بينوشيه على حكومة سلفادور الليندى، كانت ما يسمى مجموعة «صبيان شيكاغو» هى العقل المدبر وراء الإجراءات الاقتصادية العنيفة التى أُرسيت. فهؤلاء كانوا مجموعة من الشباب التشيلى تعلموا بجامعة شيكاغو على يد الأب الفعلى لأفكار النظام الاقتصادى النيوليبرالى، ميلتون فريدمان. وهى الأفكار التى كانت، فى تلك المرحلة، مجرد نظرية لم تخرج عن أروقة الجامعة، فكانت تشيلى أول مسرح لتطبيقها.

وقد مثل «صبيان شيكاغو» الدائرة التى منحت الشرعية الفكرية لنظام بينوشيه. وأفكار ميلتون فريدمان قامت بالأساس على إطلاق قوى اقتصاد السوق بالمطلق، دون أى قيود من جانب الدولة لحماية الفئات الأضعف فى المجتمع، وهو ما ارتبط أيضًا بالتراجع الكامل عن أفكار شبكة الضمان الاجتماعى. وقد طبق «صبيان شيكاغو» أفكار فريدمان بحذافيرها واحتفت واشنطن، ومعها المؤسسات الاقتصادية الدولية وقتها، بما جرى فى تشيلى باعتباره «معجزة» اقتصادية ينبغى أن يحذو العالم حذوها.

كان ذلك كله قبل مرحلة ريجان- تاتشر التى مثلت التحول العملى فى الاقتصاد العالمى من نموذج جون كينز، الذى كان يجسد دورًا للدولة فى ظل اقتصاد السوق، إلى نموذج ميلتون فريدمان للرأسمالية المتوحشة. لكن اتضحت مع الوقت أكذوبة «المعجزة»، كما قال عالم الاقتصاد الهندى الحاصل على نوبل، أمارتيا سن. فالفجوة فى مستويات المعيشة بين الأكثر ثراء والأكثر فقرًا فى تشيلى هى الأوسع فى العالم. وهى فى ذلك تفوق حتى الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وألمانيا! وتحسن أوضاع الاقتصاد فى تشيلى تحملت تبعاته بالكامل الفئات الأضعف.

وفى مظاهرات 2019، التى أطلقها رفع أسعار تذكرة المترو، رفع الشباب شعارًا يقول: «باى باى شيكاغو»، فى إشارة لنظام اقتصادى يرفضونه. أما جابرييل بوريتش، البالغ من العمر 35 عامًا، والذى كان أحد زعماء حركة الطلاب قبل أن يصبح اليوم رئيسًا، فقال فور فوزه إنه «لئن مثلت تشيلى مولد النيوليبرالية، فإنها ستكون أيضًا مقبرتها».

لكن الوضع فى تشيلى محفوف بالمخاطر، فهوزى أنتونيو كاست، الذى هزمه بوريتش ببرنامج اقتصادى متميز، حصل على نسبة معتبرة من الأصوات وصلت إلى 44%. وهو يمثل اليمين الأكثر رجعية وعنصرية، والقريب من نموذج بولسونارو البرازيلى. والقوى التى تقف وراء كاست لن تتوانى عن وأد إصلاحات الرئيس الجديد لأنها تضر بمصالحها الاقتصادية.

أما السبب الثانى لمغزى انتخابات تشيلى فهو أن جابرييل بوريتش الذى دعم حقوق السكان الأصليين ببلاده يدعم بقوة الحقوق الفلسطينية ويستخدم خطابًا صريحًا يتهم فيه إسرائيل «بالقتل» وبالفصل العنصرى. ولعلها من المفارقات الجديرة بالتأمل أن تشيلى، التى تبعد مئات الآلاف من الأميال عن فلسطين، هى الدولة الوحيدة فى العالم التى سيناقش برلمانها مشروع قانون يسعى لمنح الشرعية القانونية لحملة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلى!.