تعرف الديمقراطية بأنها شكل من أشكال الحكم الذي يتمتع فيه الشعب بسلطة التداول السلمي للسلطة، واتخاذ القرار بشأن التشريع. يحدث هذا من خلال اختيار الشعب ممثليهم في كل سلطة من السلطات الرئيسية للحكم (الرئاسة)، أو التشريع (البرلمان). هذا يعني أن جوهر الديمقراطية يعتمد على قدرة الشعب على الاختيار. وتتمثل هذه القدرة حاليًا فيما نطلق عليه عمليات التصويت في الانتخابات المختلفة.
القدرة على التصويت ومدى حرية الشعب في الاختيار عبرها؛ هي ما يتحكم في كل أسس الديمقراطية بدءًا من تقاسم السلطة وتداولها، وصولًا إلى حرية التجمع والتعبير والشمولية، والمساواة، وضمان حقوق الأقليات. لأن اختيار الناس عبر التصويت هو ما يجعل برنامجًا ما ينجح أو يفشل، أو يجعل أناسًا بعينهم من خلفيات فكرية ما، تصل إلى سلطة الحكم والتشريع.
وما يميز الدول الديمقراطية المتقدمة عن دول العالم النامي أو ذات الديمقراطية الشكلية، هي الحرية التي يتمتع بها الناس على التصويت دون قيود. بالطبع هناك فوارق أخرى، لكن فكرة حرية الشعب في الاختيار تمثل أحد أركان الزاوية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. ربما ينعكس هذا في إقبال الناس على عملية التصويت، والتي كلما ارتفعت كانت هناك دلالة على قوة الديمقراطية في هذا البلد.
لكن يبدو أن الديمقراطية – سواء في بلد متقدم أو نامٍ – باتت تواجه تحديًا كبيرًا، يتمثل في تراجع نسب التصويت بشكل واضح خلال الستين عامًا الماضية. هذا الأمر يعد أمرًا ضارًّا بالتأكيد بالديمقراطية. فما السبب وراء ذلك التراجع؟
تراجع نسب التصويت مفيد للأغنياء!
تشير الدراسات الحديثة إلى أن هناك تراجعًا لا يمكن أن تخطئه العين في نسب التصويت. إذا ما نظرنا إلى فترة أوائل الستينيات من القرن العشرين، سنلاحظ أن أي دولة ديمقراطية في العالم تجري انتخابات تشريعية أو رئاسية يمكنها أن تتوقع حضور 77% من مواطنيها للتصويت. لكن في أيامنا هذه، تراجعت هذه النسبة لتصل إلى نحو 67% في المتوسط.
ووفقًا لتقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم لعام 2017، فإن نسبة المشاركة في الانتخابات آخذة في الانخفاض في جميع أنحاء العالم. على مدى العقود القليلة الماضية؛ إذ انخفض متوسط معدل إقبال الناخبين العالمي بأكثر من 10% في الديمقراطيات حول العالم.
إذا أخذنا الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما مثالين كبيرين في الديمقراطية، سنلاحظ أن البيانات تقول إن متوسط الإقبال على الانتخابات التشريعية لأعضاء البرلمان في المملكة المتحدة وممثلي الكونجرس الأمريكي التي أجريت بين عامي 1950 و2015، شهدت تراجعًا واضحًا بنسبة تصل إلى 10%، رغم زيادة الانتخابات حول العالم مقارنة بخمسين عامًا مضت.
تراجع هذه النسبة هو إشكالية كبيرة. فالأبحاث تؤكد أن الإقبال المنخفض على المشاركة في الانتخابات يضر بالديمقراطية، فالمواطنون المحرومون اجتماعيًّا واقتصاديًّا باتوا يصوتون بنسب أقل، ما يعني أن السياسات العامة والتشريعات الجديدة التي ستتخذها السلطة القادمة ستكون مفيدة أكثر للأغنياء، لأنهم من صوتوا.
ليس هذا فحسب، فانخفاض الإقبال على التصويت سيمنح السياسيين شعورًا أقل بأنهم تحت مراقبة العامة، وقد يجعلهم هذا يغلقون آذانهم عن احتياجات الجمهور الأوسع. وبدلًا من صياغة سياسات عامة تخدم المجتمع ككل، يمكن للحكومات أن تستهدف منح منافع أكبر لمؤيديها الأساسيين الذين تعتمد عليهم في التصويت.
وهذه إشكالية تراجع التصويت
تراجع نسب التصويت تمثل أيضًا أمرًا محيرًا للباحثين، وتحديدًا تجاه السبب وراء ذلك. السبب في ذلك يعود إلى أن مؤشر انخفاض التصويت هذا يتعاكس مع عوامل أخرى كان من المفترض أنها تزيد من إقبال الناس على التصويت والانتخاب. فعندما ننظر إلى العالم منذ الستينيات، نلاحظ وجود زيادة في التحصيل العلمي والثقافة العامة، كما أن هناك عالم الفضائيات والإنترنت الذي جعل الناس على اطلاع دائم بما يحدث حولهم.
أضف إلى ذلك أن نتائج الانتخابات في أغلب ديمقراطيات العالم أصبحت متقاربة، وهو ما يفترض أن يحشد المزيد من الناخبين. إذا أخذنا مثالًا بكرة القدم، فالأمر أشبه بالمنافسة على اللقب، فعندما يكون هناك فريق واحد مسيطر بشكل كبير وبفارق واسع من النقاط، سنلاحظ انخفاض إقبال الجمهور بشكل عام على حضور المباريات. بينما لو كانت هناك منافسة متقاربة بين فريقين أو أكثر على اللقب، سنلاحظ وجود حضور جماهيري حاشد.
لكن.. لماذا تراجعت نسب التصويت؟
عند البحث عن السبب، قدم العلماء والباحثون عدة فرضيات تبرر هذا التراجع. يعتقد البعض أن هناك زيادة في حالة الاستياء السياسي، أي استياء الناس من السياسة عمومًا، وهو ما يبعد الناس عن الذهاب للتصويت. بينما يستشهد آخرون بالعولمة الاقتصادية، مشيرين إلى أنه إذا كانت الحكومات الوطنية تتمتع بسلطة أقل نتيجة العولمة وسيطرة الشركات على القرار، فإن أهمية الانتخابات ستكون أقل، ولن يرى الناس جدوى من المشاركة.
لكن الدراسات الكبيرة في هذا الشأن لم تجد دعمًا لمثل هذه التفسيرات الشائعة، واعتمدت إحدى الدراسات على تحليل 1421 عملية انتخابات وطنية في 116 دولة مختلفة بينها 20 دولة حافظت على الانتخابات الديمقراطية منذ أربعينيات القرن الماضي بشكل متصل دون انقطاع، لتحدد لنا سببين رئيسيين:
1. تغير الأجيال.. الشباب أقل احترامًا للسلطات والتشريعات
السبب الأول هنا هو تغيير الأجيال الناتج من التنمية الاقتصادية. فمقارنة بالماضي، نلاحظ أن التنمية الاقتصادية ومستوى دخل الفرد يزدادان تدريجيًّا. يمكنك عقد مقارنة بين حياة والدك وحياتك الآن، وستفهم الأمر بوضوح. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين ولدوا في مجتمعات أكثر ثراء نسبيًّا أو في مستوى مادي أعلى أقل تفضيلًا للمشاركة في الانتخابات والذهاب للتصويت.
بمجرد أن تصل البلدان إلى مستوى معين من الثروة الاقتصادية، تصبح الأجيال الجديدة أقل احترامًا للسلطات، ويقل احتمال أن ينظر هؤلاء الشباب إلى التصويت على كونه واجبًا مدنيًّا. سنلاحظ أن هذا الجيل الأصغر سنًّا يذهب إلى صناديق الاقتراع في كثير من الأحيان أقل من نظرائهم الأكبر سنًّا، الذين كانوا أكثر اجتماعية ورغبة في المشاركة في المراحل المبكرة من التنمية الاقتصادية لبلدانهم.
وطبقًا للدراسات، تمثل عملية الإحلال والتجديد هذه بين الجيل الأصغر سنًّا والجيل الأكبر سنًّا، نسبة 56% من السبب وراء تراجع الناخبين، حيث تزداد حصة الأجيال الجديدة في الناخبين مع وفاة الأجيال الأكبر سنًّا.
2. انتخابات كثيرة ومتعددة.. الديمقراطية عبء على الشعب!
السبب الرئيسي الثاني وراء التراجع، والمسؤول عن 21% من التراجع، يرتبط بارتفاع عدد المؤسسات المنتخبة. نعم، ما قرأته صحيح، الديمقراطية الزائدة عن الحد تمثل ضغطًا على الناس ومشاركتهم. فعندما تكون هناك انتخابات أكثر تكرارًا، يبدأ الناخبون في الشعور بالإرهاق، ويبدأ اهتمام الناس بالمشاركة في التراجع.
في أوروبا مثلًا، زاد عدد المؤسسات القائمة على تصويت واختيار الناس بنسبة 34% منذ الستينيات. كان هذا الأمر مدفوعًا بعملية التكامل الأوروبي (نشأة الاتحاد الأوروبي)، واللامركزية في الدولة، والاستخدام المتكرر للديمقراطية المباشرة، والإصلاحات المؤسسية، مثل زيادة عدد رؤساء مختلف المؤسسات المنتخبين مباشرة. إذا طُلب من الناخبين التصويت مرتين تقريبًا في السنة، كما هو الحال في فرنسا، فسوف يمل البعض منهم، ولن يزعج نفسه بالذهاب.
وهل يشهد مستقبل التصويت مزيدًا من التراجع؟
وسط كل هذا الحديث عن التراجع، تظهر لنا واحدة من أبرز الانتخابات، انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2020، بين الرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب، وخصمه الديمقراطي والرئيس الحالي جو بايدن. كانت هذه الانتخابات هي الأعلى إقبالًا في تاريخ الولايات المتحدة منذ 120 عامًا. كشفت لنا هذه الانتخابات أمرًا مهمًا، وهو تلك الحالة الشديدة من الاستقطاب التي تسببت في وقوع حشد انتخابي لم يسبق له مثيل.
عند النظر إلى السببين الرئيسين المسؤولين عن تراجع نسب التصويت، نلاحظ أنها أسباب لا تزال قائمة، فعملية إحلال الجيل الجديد مكان القديم لا تزال مستمرة، وكذلك التنمية الاقتصادية ومعدلات الدخل التي تزداد في دول عدة حول العالم. المفترض أن هذا يدلل على أن نسبة التصويت ستواصل الانخفاض.
لكن ما أفرزته لنا الانتخابات الأمريكية الأخيرة يقول لنا إن هذا ليس حتميًّا. فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في سهولة نشأة ونمو حالات من الاستقطاب، ليس فقط السياسي، ولكن أيضًا المجتمعي. إذ يمكن أن يؤدي بروز قضايا ثقافية وبيئية متزايدة، والتي تهتم بها الأجيال الجديدة بشدة بشكل واضح، إلى تعويض بعض التراجع في الإقبال على التصويت.
للتوضيح، فإن حالة النمو الاقتصادي وزيادة الرفاهية التي يتمتع بها الجيل الحالي مقارنة بالأجيال السابقة، بدأت تخلق اهتمامات مختلفة للجيل الجديد، الذي ربما لا يشغله مثلًا أمر عضو البرلمان الممثل لدائرته بشكل عام، لكنه يهتم فعلًا بقضايا يراها الجيل القديم مجرد رفاهية، مثل تغير المناخ وغيرها. الدراسات تتحدث هنا عن جيل الألفية (مواليد 1980 فما بعد) و«جيل زد»، والذي يقصد به جيل ما بعد الألفية وتحديدًا مواليد عام 1996 فما بعد.
ربما ينظر البعض إلى زيادة حالة الاستقطاب التي غطت الولايات المتحدة قبل الانتخابات على أنها أمر ضار بالمجتمع، وربما هذا أمر صحيح عندما تتعدى هذه الحالة مجرد الرأي إلى أعمال تخريبية معينة، لكن هذا الاستقطاب هو ما قد يزيد من إقبال الناس على الانتخابات في الفترة القادمة.
يمكن للسلطات العامة في الدول أيضًا المساعدة على الحد من تراجع الناس على التصويت من خلال تقليل عدد المرات التي يُستدعى فيها المواطنون إلى كابينة التصويت. يمكن تحقيق ذلك دون الحد من حقوق المواطنين من خلال إعادة تنظيم مواعيد الانتخابات، والجمع بين أنواع مختلفة من الانتخابات في اليوم نفسه.