2024-11-28 12:38 ص

كلام غير شعبيّ في لحظة حزينة

2021-08-06
بقلم: علي فواز
الفساد في لبنان لا يحتاج إلى دليل. رائحته تزكم الأنوف وتفيض على شكل مياه الصرف الصحي في ليلة عاصفة. يطفو الفساد على مياه عادمة، فيخترع له اللبنانيون نكاتاً وأهازيج. تعلو جبال النفايات وتطوف سحبها الشوارع، لكن المتعهّد ثابت لا يتغيّر. يتحوّل أكبر نهر في البلد من ثروة مائية إلى مجرور "وطني" عابر للطوائف، وما من أحد قادر على وقف نهر السرطان الهادر. 

في لبنان، الفساد ظاهر، بائن، واضح، لا لبس فيه. لا يختلف لبنانيان على وجوده. فساد في القوانين وفي مخالفة القوانين. فساد في السرّ وفي العلن، في التعهدات والتلزيمات والصفقات والتوظيف والاحتكار والزبائنية، في النظام المالي والمصرفي، في الإدارات والقضاء والمؤسسات الأمنية والدستورية والعامة، في المجالس والقطاعات.. مع ذلك، يحتاج توقيف المُفسدين ومحاسبتهم إلى معجزة. إذا شاءت الأقدار، فقد يُحاسب من لا غطاء عليه. أما الفاسدون الكبار، فيحكمون البلد. 

يعرف اللبنانيون ذلك بالسليقة. القضية واضحة، ولطالما كانت كذلك. المكشوف منها والمعلوم يفوق ما يحتاج إلى تحريات قضائية وتحقيقات استقصائية. رغم ذلك، يغرق اللبنانيون بالعتمة والنفايات والتلوّث، ويُحرمون أبسط الخدمات. جرى ذلك لعقود قبل انفجار المرفأ، لكنّه استمر بعده.

في الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت، يقف اللبنانيون أمام واقع لم يختبروه سابقاً، حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية. حزن يسابق الغضب، فيما الوطن يغرق صريعاً نحو القاع. انهيار مالي واقتصادي وحلول مستعصية بسبب ظروف داخلية وإقليمية ودولية.

تحقيق العدالة والمحاسبة مطلب يتجاوز للوهلة الأولى المناطق والطوائف والبنى التقليدية. يكاد يشكّل عنواناً لوحدة وطنية. يمكن القول إنَّ هناك شعوراً عاماً ومشتركاً ولّده الانفجار. هو مزيج من الغضب الألم والحسرة والاشمئزاز والنقمة واليأس. هذا الشعور الأوّلي يتبيّن بعد نظرة ثانية أنه انفعال محدود ومؤطّر. الأسئلة التي تعقبه تبدّد الإجماع، وتبدأ القضية "الوطنية" بعدها بالتفرّع والتشعّب.

لم يكن انفجار المرفأ سوى تعبير مكثّف عن انفجار النموذج اللبناني. نموذج مهترئ صدئ تجوبه القوارض والجرذان، كتلك التي كانت تقتات من إهراءات القمح قبل انفجارها، في غياب سلطة يمكن ائتمانها على الأمن الغذائي للبنانيين. 

لم يتم الإفراج بعد عن التحقيقات في ظروف الانفجار. نظرياً، ليس صعباً اكتشاف كيفية وصول نيترات الأمونيوم والمسؤول عن تخزينها والتلكؤ في إتلافها. عملياً، المعطيات المتوافرة كافية للوصول إلى خلاصة أنَّه لا يمكن الاستمرار بالسياسات التي كانت سائدة سابقاً، فهل يوافق جميع اللبنانيين على ذلك وعلى ما يتطلبه من تغيير في النهج، ومن انقلاب على قواعد ألفوها ويتحمّلون مسؤوليتها؟ 

إذا صحّت نظرية الصدفة التي أوصلت إلى لحظة الانفجار من دون عامل خارجي، فإنَّ ذلك لا يُبدد التقصير والإهمال. الفوضى السائبة حاضرة أيضاً في المرفأ، كذلك تعدد الصلاحيات وغياب الرقابة وتداخل السلطات. المرفأ نموذج عن دولة مهترئة. خلاصة تدعمها المعطيات التالية.

في المرفأ، لجنة مؤقتة مُكلفة بإدارته واستثماره. ما زالت مؤقتة رغم تشكليها "مؤقتاً" في مجلس الوزراء في العام 1993. تتمتع اللجنة بصلاحيّات كاملة من دون الخضوع لرقابة ماليّة من أي جهة. في المرفأ، تتعدّد وتتداخل القوانين والمراسيم التي ترعى عمل المرافئ والجهات المنوطة بها. إدارة المرفأ هيئة هجينة، لا هي مؤسسة عامة، ولا شخصية معنوية مستقلة عن الدولة اللبنانية.

في العنبر رقم 12 الذي حوى مواد النيترات قفلان على الباب؛ أحدهما بحوزة الجمارك، والآخر مع إدارة المرفأ. باب لا يفتح إلا بالقفلين معاً. رغم ذلك، وُجدت فتحة مثقوبة في العنبر يمكن تهريب ما في داخله عبرها. هي مجرد صورة رمزية عن واقع أعمّ وأشمل. مع ذلك، لا تشكّل هذه المعطيات كل أبعاد الفسيفساء المعقّدة في المرفأ، لكنها تعطي لمحة عن واقع سوريالي يحكم كل لبنان. 

ثمة مستويات متعددة في تحديد المسؤوليات عن الانفجار الذي حصل؛ قضائية وأمنية وسياسية وإدارية. نادراً ما حُكم بعد الحرب الأهلية على أي مسؤول لبناني في قضية فساد، رغم أنَّ الفساد مرئي بالعين المجردة. في لبنان، قضاء يقتصر على عموم الشعب ولا يطال أصحاب السلطة، سياسيين وأمنيين وقضاة ومحظيين. هناك أيضاً قوى سياسية محترفة في تمييع الحقائق وتقاذف المسؤوليات والاختلاف حول جنس الملائكة. أبرز مثال على ذلك هو ما يحدث منذ الانهيار. خلاف حول الأولويات وعلى طرق العلاج، فيما الهدر مستمر والبلد يغرق أكثر وأكثر.

تكمن المفارقة في أنَّ الطبقة السياسية التي سئمها قسم من اللبنانيين هي طبقة شرعية وممثلة لقسم آخر من اللبنانيين. هي شرعية من منظار القانون والدستور، لكونها جاءت بانتخابات تمثيلية شهدت إقبالاً ومشاركة غير بسيطة ولا متدنية. رغم الحزن الذي وحّد اللبنانيين حداداً، فإنهم ما زالوا يرضون عموماً بنظام طائفي هو أصل الفساد والمحاصصة والعقبة الأساسية أمام التطور. يستثنى من هذا التعميم فئات وطنية صادقة لا تخضع لأجندات خارجية وتطالب بتغيير حقيقي وجذري.

 تصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما تتداخل الشؤون الداخلية بالصراعات الإقليمية والدولية. في لبنان، ليس هناك، تاريخياً، توافق على سياسة خارجية موحدة، ولا على سياسة دفاعية واحدة، ولا على مصالح لبنان العليا. في لبنان، تاريخياً، وجهات نظر وحروب يتحمّل مسؤوليتها أيضاً جزء من الشارع اللبناني.

من هنا، يبارح السؤال حول المسؤول بساطته، ويغدو أكثر تعقيداً. تتداخل فيه العوامل السياسية والتاريخية والثقافية والاجتماعية. تتفرّع الإجابات، ويبدأ الخلاف بالتشعّب. هل الشعب اللبناني مُشارك في هذه المسؤولية أو جزء منه على الأقل؟ هل تتحمّل الطبقة الحاكمة المسؤولية وحدها؟ جميع أحزابها ونخبها أم قسم منها؟

هل هي مسؤولية "حزب المصرف"؛ ذلك الأخطبوط الذي يخترق الطوائف والأحزاب والنخب، ويمثّل الدولة العميقة وزواج المال والسياسة، أم هي نتائج الحرب الأهلية وما أفرزه اتفاق "الطائف" من محاصصة وتوازنات، أم أن جذور المسألة تعود إلى لحظة ولادة "لبنان الكبير"؟ من يحاسب من؟ ومن أين تبدأ المحاسبة؟ وهل تشمل الجميع من دون استنسابية أو تسييس؟ هل هذا ممكن؟ وما المطلوب: انتقام أم تسييس أم بناء دولة مدنية؟

الحقيقة في لبنان وجهة نظر. يصحّ ذلك على الطّبقة السياسية وعلى العوام. عندما انفجر المرفأ، كان ذلك إعلاناً صاخباً ودموياً عن نهاية النموذج اللبناني؛ نموذج لم يعد قابلاً للحياة والاستمرار. انفجار المرفأ يشكّل رغم ذلك فرصة بعيداً من حالات اليأس والإحباط؛ فرصة البناء من الصفر، لكن على قواعد وأسس جديدة ومتينة.

يجوز "الترقيع" وإجراء عمليات موضعية وتجميلية هنا وهناك. إلا أنّ حلّ المشكلة جذرياً وبشكل مستدام يحتاج إلى عدة شغل مختلفة، وإلى انقلاب على إرث طويل من سوء الإدارة والفساد والمحاصصة وبناء عقد اجتماعي جديد.

ذلك يستلزم بالضرورة الانتقال إلى دولة مدنية تمرّ عبر إلغاء الطائفية السياسية وإقرار نظام انتخابي نسبي عادل لا يفصّل على قياس الأحزاب ومصالحها. إن بناء دولة لجميع اللبنانيين يقتضي إلغاء الامتيازات الطائفية والحزبية، وتطهير القضاء وحمايته من التدخلات السياسية. لكن من يفعل ذلك وكيف؟

العبور إلى دولة مدنية هو الحل بنظر كثير من الباحثين والأكاديميين والناشطين وطلاب الإصلاح. حلّ يقتضي للمفارقة، إجراء تعديلات دستورية من قبل طبقة سياسية مستفيدة من النظام الحالي، ومُتهمة، ومُطالبة بأن تلغي امتيازاتها!

حلّ يتطلب تفعيل الرقابة والمحاسبة والمجالس الضرورية، مثل مجلس الخدمة المدنية، حيث الوظيفة للأكثر كفاءة وجدارة بمعزل عن التوازن الطائفي... فهل يوافق جميع اللبنانيين على ذلك في بلد بات التضليل الإعلامي وتضييع الحقائق وتمييع المطالب حرفة يمتهنها عدد من الجهات؟ 

(الميادين نت)