بقلم: ماجد كيالي
منذ البداية نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية ونشأت معها أزمتها الذاتية والموضوعية، والناجمة عن الخلل في موازين القوى بينها وبين إسرائيل، وافتقاد الفلسطينيين إلى إقليم مستقل، مع تمزق مجتمعهم وخضوعهم إلى أنظمة سياسية وقانونية مختلفة، ويأتي ضمن ذلك، أيضاً، أن العمل الوطني الفلسطيني نشأ خارج أرضه، ما ولد احتكاكات سلبية مع بعض الأنظمة، كما نجم عنه تدخلات متعددة المستوى في الشأن الداخلي الفلسطيني.
بعد ذلك، أي في منتصف السبعينيات، بدا أن هذا الشكل من العمل الوطني الفلسطيني وصل إلى سقفه، ولم يعد لديه ما يضيفه، بعد استنهاض الشعب الفلسطيني من النكبة، ووضع القضية الفلسطينية على جدول الأعمال العربي والدولي، ونيل الاعتراف بمنظمة التحرير، ما جعله يدخل في أزمة مستعصية، ناجمة عن عدم القدرة على تحقيق إنجازات سياسية ملموسة، وعن تحولها من الصراع على ملف النكبة (1948) إلى ملف الصراع من أجل إنهاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة (1967) علماً أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت انطلقت أصلاً قبل ذلك الاحتلال.
فيما بعد دخلت الأزمة الفلسطينية في منعطف جديد مع عقد اتفاق أوسلو، الذي بات أحد عناصر الأزمة الفلسطينية، لكنه ليس المؤسس لها لعل أهمها يكمن في الآتي:
أولاً: انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين القومي والديني، أكثر من أية فترة مضت، وهو ما تمخّضت عنه، أو رسّخته، نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جرت مؤخراً (9/4)، والتي أكدت بشكل كامل قطع إسرائيل مع خيار التسوية، وتالياً إغلاق خيار إقامة دولة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967) نهائياً، سواء في ظل حزب ليكود أو غيره، ما يعني أن الخيار المطروح إما الإبقاء على الواقع الراهن (حكم ذاتي للفلسطينيين) أو قيام إسرائيل بفرض صيغة التسوية التي تتماشى مع أهوائها ومصالحها، ولو من طرف واحد.
ثانياً: تخلّي الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل إدارة ترامب، عن دورها المعهود باعتبارها راعية لعملية السلام ووسيط نزيه وطرف محايد، وهو ما تم التعبير عنه، سياسياً وعملياً، في اعتراف ترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وسعيه لتصفية قضية اللاجئين بطرق مختلفة، وتشريع الاستيطان في الضفة، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووقف المساعدات للسلطة الفلسطينية، في انقلاب كامل على اتفاق أوسلو (1993)، الذي وقع في البيت الأبيض في حينه، وأنشئت بموجبه السلطة الفلسطينية.
ثالثاً: غياب العمق العربي للقضية الفلسطينية، فمع كل الاحترام للدعم المادي والسياسي المعلن من أطراف النظام العربي للقيادة الفلسطينية، إلا أن تعدد المحاور العربية، وتراجع مفهوم الأمن القومي العربي، وغياب التضامن العربي، والانشغال بأجندة أخرى، وصد مخاطر أخرى، أدى إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، أو وضعها في درجة أقل من سلم اهتمامات النظام الرسمي العربي.
رابعاً: فشل الخيارات السياسية التي انتهجتها القيادة الفلسطينية، والتي تمثلت بخيارات المفاوضة والتسوية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والمشكلة أن كل ذلك حصل من دون أن تهيئ تلك القيادة نفسها، أو شعبها، لأية خيارات بديلة أو موازية.
وفي الحقيقة فإن القيادة الفلسطينية وجدت نفسها إزاء وضع محيّر، وصعب، وتبعاته باهظة التكاليف، إذ هي لا تستطيع المضي في طريق التسوية مع إسرائيل، لأنها لا تؤدي إلا إلى حكم ذاتي محدود، ولا تستطيع الخروج من إسار هذا الطريق، الذي سارت ورتبت أوضاعها عليه منذ ربع قرن.
خامساً: مشكلة الفلسطينيين فوق كل ما تقدم لا تكمن في خيار السلطة، إذ هي تكمن، أيضاً، في تآكل مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان والعراق، وفي تراجع مكانتهم في إطار العملية الوطنية الفلسطينية، وفي تهميش منظمة التحرير، الكيان السياسي الجامع للفلسطينيين، والمعبر عن وحدتهم، وعن قضيتهم.
والمعنى من ذلك أن أي خيار آخر خارج خيارات السلطة، يبدو مغلقاً، أو أنه لم يعد متاحاً، أو مسموحاً به، في الواقعين العربي والدولي السائدين، يفاقم من ذلك حال الانقسام والاختلاف السائدة بين الفلسطينيين، وانتهاء ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج.
مع ذلك يفترض بالقيادة الفلسطينية طرح التساؤل البديهي والتقليدي عن البديل في هذه الظروف، والإجابة عليه بكل جرأة وصراحة وموضوعية، وضمن ذلك الاعتراف بأنها وصلت إلى نهاية طريقها بالنسبة للخيارات التي انتهجتها، وأنها معنية بالتفكير بإطلاق ورشات حوار في كافة تجمعات الفلسطينيين، حول الخيارات البديلة والممكنة والمناسبة والأكثر جدوى في المعطيات الراهنة.
الفكرة التالية، مفادها أنه طالما لا يمكن للفلسطينيين أن يفعلوا شيئاً في هذه الظروف الصعبة والمعقدة إزاء إسرائيل، عدا الصمود، ورفض الخضوع لإملاءاتها، فإن الجهود الفلسطينية يفترض أن تتركز في إعادة ترتيب وتنظيم البيت الفلسطيني، أي المنظمة والسلطة والفصائل، ومختلف الإطارات الوطنية الجمعية، على أسس جديدة تأخذ في اعتبارها التطورات في أحوال مجتمعات الفلسطينيين، وتغيرات الخريطة الفصائلية، وتأمين متطلبات استعادة الحركة الوطنية لطابعها وأهليتها كحركة تحرر وطني. أي أن الخيار الممكن والأسلم حالياً يتمثل بنبذ الخيارات والمراهنات الخاسرة، والتحول نحو التركيز على بناء البيت، وضمنه بناء المجتمع الفلسطيني، وبناء كياناته السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا يتطلب أول ما يتطلب إحداث تغيير سياسي على صعيد الخيارات والبنى وأشكال العمل.
(عربي بوست)