في أول تعريف دولي للجزيرة فهي "ما يمكن احتلاله أو سكناه". وقد حاولت "اتفاقية جنيف للبحار" ( 1928)، و"اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" 1982 تدارك فداحة التعريف الأول الذي أفصح عن النوايا الجيوسياسية لدى مطلقي التعريف، لكنها لم تقدم تعريفاً محدداً للمكان.
أما بالنسبة الجزر اليمنية الكثيرة، والمتناثرة في البحر الأحمر، والبحر العربي حتى نقطة تقاطعه مع المحيط الهندي، فهي إلى اللحظة تحت الاصطلاح الدولي الأول، حيث "الاحتلال" شرطٌ للتعريف بالمكان، وتذكير اليمنيين به وباسمه.
الجزر اليمنية .. تولد وتموت
في 22 أيار/ مايو 1990، انتظمت للجمهورية اليمنية 184 جزيرةً في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. لكن هذا العدد ظل متغيراً، ولم يستتب على رقم معين، بسبب الانفجارات البركانية في أعماق البحر الأحمر التي تولد بها جزرٌ أو تنهار أخرى، وبسبب عدم وجود وحدة أرصاد خاصة بالجزر، وإغفال الحكومة الكثير من الجزر لصغر مساحتها وتناثر معظمها في البحر، بالإضافة إلى خلو عشرات الجزر من السكان وسلطة الدولة.
لكن وجود عشرات الجزر على خط الملاحة الدولية من باب المندب إلى خليج عدن إلى سقطرى، حيث يسيل لعاب الأطماع العالمية على المجال البحري الحيوي لليمن، قد يخصم بحد ذاته أرخبيلات كاملة من مجموع الجزر اليمنية التي تقع أيضاً على مهب الأعاصير المدارية.
ففي الفترة 1995 – 1998، خصمت إريتريا عشر جزر يمنية دفعةً واحدة، هي مجموعة جزر حنيش، باحتلال عسكري خاطف كانت نتائجه فادحةً على الجانب اليمني، والمقارنات التاريخية بغزوات عسكرية مماثلة.
و في العام 2007 انهار جزء من جزيرة جبل الطير قبالة الساحل الغربي، جراء انفجار بركاني نشط، فقدت اليمن على أثره ثمانية جنود هناك. وتزامن الانفجار البركاني الغاضب بحممه المندلعة من قاع البحر مع عباب أسطول حلف شمال الأطلسي الذي كان مبحراً على تماس النقطة الساخنة، باتجاه قناة السويس. وتلك رسالة الطبيعة التي لا تريد اليمن أن تفهمها، هروباً من عبء المياه المالحة!
وخلال الفترة 2011 - 2013 التي شهدت فيها اليمن أحداث "ثورة فبراير" السلمية في عام الربيع العربي، ثم ترتيبات المرحلة الانتقالية للسلطة التي انتهت إلى الحرب الحالية، رصدت الأقمار الصناعية التابعة لوكالة ناسا الأمريكية ميلاد جزيرتين يمنيتين، هما جزيرة شولان وجزيرة جديد، بالقرب من أرخبيل جزر الزبير. ولم يكن ذلك الاكتشاف الفضائي كافياً لتعريف اليمنيين حينها باسم الجزيرتين الوليدتين اللتين انتظرتا سنوات للدخول في مجال الاحتلال الإماراتي، ومن ثم تعرّف اليمنيّون على تاريخ الميلاد والاسم لكلا الجزيرتين.
وحالياً، تستمر دولة الإمارات العربية المتحدة، المشاركة في "تحالف دعم الشرعية"، في احتلال عدد من الجزر اليمنية، وتحويلها إلى قواعد عسكرية ومنتجعات سياحية للإسرائيليين، كجزيرة ميون وجزيرة بريم، بالقرب من باب المندب، وجزيرة سقطرى في أقصى المياه الجنوبية الشرقية لليمن، مع الإشارة إلى أن الشريط البحري لليمن الممتد على مساحة 2500 كيلو متر، بات تحت أقدام السيطرة الإماراتية المطلقة، وبيد مليشيات مجلسها الانتقالي، وبكل ما على الساحل من موانئ ومطارات وثروات، وعلى الماء من جزر..
عدا ميناء الحُديدة الذي ما زال تحت سيطرة الحوثيين بحماية إماراتية، وبموجب اتفاق استوكهولم 2018 الذي ضغطت الإمارات على الحكومة الشرعية لتوقيعه، للحيلولة دون تحرير الحُديدة، ولمنح الحوثيين سيطرةً مريحة، ومحميةً بنص دولي على الميناء الاستراتيجي، ومضيق باب المندب الأهم.
حنيش .. الصراع القديم والأطماع الجديدة
كان مذلاً لليمن التي تعد من أقدم الحضارات التاريخية على بياض الكرة الأرضية، وهي مهد الجنس البشري الأول، أن تقْدم دولة أفريقية صغيرة، وحديثة العهد في الاستقلال والوجود كدولة إريتريا، على احتلال أرخبيل حنيش داخل الامتداد الجغرافي لليمن في كانون الأول/ ديسمبر 1995.
كانت إريتريا قد وجهت تحذيراً شديد اللهجة إلى اليمن بسحب قواتها من جزر حنيش، التي ادعت ملكيتها لها. مر شهر المهلة المحددة دون أن تأخذ الحكومة اليمنية التحذير على محمل الجد، لانشغالاتها بالصراعات السياسية الداخلية على اليابسة بعد حرب صيف 1994 بين شريكي الوحدة اليمنية الاندماجية 1990، وتعويلاً منها على حسن الظن في أن دولة إريتريا الناشئة للتو لن تقدم على عض اليد التي امتدت لها بالدعم، حيث كانت اليمن استضافت قيادات المعارضة على أراضيها، ومنحت الثوار الإريتريين أرخبيل حنيش لاتخاذه قاعدةً عسكرية لحركة التحرير المسلحة.
ما غفلت عنه اليمنُ هو أن الجارة الصغيرة الناشئة على رأس القرن الأفريقي المحاذي لليمن من أقرب وأهم نقطة بحرية حساسة، هي باب المندب، ولدت كدولة هجينة من الحبل السري الممتد بين الكيان الصهيوني، والحرس الثوري الإيراني، وهي التوأم السيامي لدولة آسيوية تدعى الإمارات العربية المتحدة.
كانت الإمارات والسعودية تدعمان بكل قوة فك الارتباط بين اليمن الشمالي والجنوبي، وإلغاء وحدة 22 أيار/ مايو 1990. وبدا أن اعتكاف نائب الرئيس علي سالم البيض في عدن، وإعلان الانفصال قبل عام من الاحتلال الإريتري للجزيرة كان استجابةً لهذا الدعم القوي الذي يضغط في الوقت ذاته على الشريك الثاني في دولة الوحدة، الرئيس علي عبد الله صالح، للتسليم بالأمر الواقع، واعتبار منجز الوحدة جزءاً من ذكرياته الجميلة.
صالح الذي جعلت منه الوحدة بطلاً تاريخياً، وهو لا يملك منجزاً جديراً بالذكر والاستثمار السياسي للبطولة التاريخية غير الوحدة، قرر حسم الأمر عسكرياً، وبحرب خاطفة فاجأت الجميع، وأبقت على اليمن موحداً، وكان يردد ساخراً: "نحن لا نحارب علي سالم البيض، نحن نحارب الشيخ زايد".
فتحت إريتريا مبكراً جزرها المحاذية لليمن من نقطة باب المندب، ومياهه الإقليمية كجزر دهلك وعصب، للقواعد العسكرية الإسرائيلية، ومعسكرات تدريب الحرس الثوري الإيراني والنخاسة البحرية. وأخيراً اتخذت منها الإمارات معتقلات سرية لمئات المخفيين قسراً من شباب ثورة التغيير السلمية، وممن قاتلوا لتحرير عدن من ميليشيا الحوثي 2015، حتى لا ينازعها في منجز تحرير العاصمة المؤقتة، عدن، يمنيٌّ قط.
وكانت نتائج الاحتلال الإريتري الخاطف لجزر حنيش مروعةً على الجانب اليمني، بفارق نقاط لا تقبل المقارنة من حيث عدد القتلى والأسرى بين الطرفين. 12 جندياً إريترياً على الأكثر قتلوا على يد القوات اليمنية، بينما تتحدث مصادر إريترية عن ثلاثة قتلى فقط، و15 جندياً يمنياً قتلوا على يد القوات الإريترية، بينما أسر 185 جندياً يمنياً مع قائدهم العميد محمد صالح الكهالي، و17 مدنياً.
استوعبت اليمن أبعاد المؤامرة الدولية متعددة الأطراف، وكان لارتطام سفينة روسية بسفينة يمنية في مضيق باب المندب، في ما وصف بـ"حادث عرضي"، رسالته السياسية التي دفعت اليمن لخيار التحكيم الدولي لاسترداد جزر حنيش المحتلة دبلوماسياً. وبعد ثلاث سنوات قضت لجنة التحكيم الدولية الدائمة بانتماء حنيش لليمن، وذلك في العام 1998.
في نقش أثري باسم الملك يوسف أسار الحميري يعود للعام 633 حسب التقويم الحميري، بما يوافق 518 ميلادي، ثمة ما يزيد المشهد فداحة تاريخية من حيث استحالة المقارنات، إذ يوثق النقش واحدةً من كبريات المعارك البحرية التي خاضتها اليمن مع الحبشة على مياه البحر الأحمر، وتحديداً في مضيق باب المندب. يقول النقش إن الملك الحميري تمركز بقواته في حصن المندب (باب المندب) على البحر من جهة الحبشة. لم تكن حينها إريتريا شيئاً مذكوراً، فهي داخل السيادة المترامية للحبشة على كل القرن الأفريقي. ويورد النقش في سطره الخامس ما نصه "وكذه فلح لهفان ملكن بهيت سباتن خمس ماتو عثني عشر االفم مهرجتم واحد عشر االفم سبيم وتسعي". والترجمة: "وقد أفلح الملك في هذه المعركة في قتل 12500 اثني عشر ألف وخمسمائة قتيل، و11090 أحد عشر ألف وتسعين أسير".
حدث ذلك قبل 1477 عاماً، حين كانت المملكة الحميرية أول دولة يمنية تفهم البحر، وتستوعب التعريف الجيو سياسي الدولي للجزر قبل مئات السنين من إطلاقه.
(السفير العربي)