بقلم: د. سنية الحسيني
لا يمكن إغفال التطورات الجديدة التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي من شأنها التأثير على طبيعة التفاعلات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، كما قد تؤثر على نتائج تلك التفاعلات في مرحلة ما. ويعد صعود الرئيس الديمقراطي الأميركي جو بايدين إلى سدة الحكم مطلع العام الحالي من أهم تلك التطورات، كما يعتبر سقوط حكومة بنيامين نتنياهو عن سدة الحكم في إسرائيل وصعود حكومة أخرى جديدة أكثر تفاهماً مع الإدارة الأميركية الجديدة تطوراً آخر تكمن أهميته في إطار تفاعله مع التطور الأول. ويعد الملف الفلسطيني والملف الإيراني أكثر الملفات تأثراً بالتطورين سابقي الذكر أعلاه، وهما الملفان اللذان طالما أرّقا المنطقة بأسرها على مدار سنوات طويلة. وليس من المتوقع أن تحدث اختراقات حقيقية في حل هذين الملفين، الا أنه من الممكن أن نرصد تطورات إيجابية في التفاعلات السياسية في إطارهما.
رغم التباين المعروف بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية الجديدة حول الملفين الفلسطيني والإيراني، الا أنه من المتوقع تجاوز ذلك التباين بين البلدين، والوصول إلى تفاهمات في إطارهما. ويبدو أن موقف الولايات المتحدة المنفتح تجاه رفع الضغوط عن الفلسطينيين، والذي يتبلور تدريجياً في ظل تصاعد دعم الحزب الديمقراطي خصوصاً جناحه التقدمي للفلسطينيين وتزايد مطالباته بضرورة حل القضية الفلسطينية بشكل عادل، قد اقترن الآن بمساعي الحكومة الإسرائيلية الجديدة بتحسين علاقاتها مع واشنطن، ونيتها الانفتاح بشكل أكبر مع سياساتها في المنطقة.
اعتبر يائير لابيد وزير خارجية إسرائيل ورئيس وزرائها القادم أن تحسين علاقات إسرائيل مع الحزب الديمقراطي أحد أهم أهدافه، بعد أن تضررت تلك العلاقات خلال عهد نتنياهو. وتعد زيارة رؤوفين ريفلين الرئيس الإسرائيلي الحالي، قبل انتهاء مدته الرئاسية، إلى البيت الأبيض قريباً، بعد أن تأجلت تلك الزيارة خلال عهد نتنياهو، مؤشراً ايجابياً على تحسن العلاقات بين البلدين وإمكانية عودة التنسيق بينهما في ملفات حساسة. ومن المتوقع أن تتجه الأمور نحو مزيد من التطور الإيجابي بصعود إسحاق هرتسوغ الرئيس الإسرائيلي الجديد من حزب العمل اليساري قريباً إلى موقعه، والذي تتقاطع أفكاره مع أفكار بايدن والكثير من أعضاء الحزب الديمقراطي فيما يتعلق بحل الدولتين. وفي اتصال جمع أنتوني بلينكين وزير الخارجية الأميركي ولبيد يوم الجمعة الماضي، اتفق الرجلان على عدم إقدام أي طرف على مفاجأة الآخر، وهو الأمر الذي رفض نتنياهو الالتزام به، ليس فقط مع إدارة بايدن، بل أيضاً على مدار 15 عام، حسب ادعاء نتنياهو نفسه.
في الأيام الثلاثة الأولى التي أعقبت اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، جاءت ردود أفعال الحكومة الإسرائيلية الجديدة لتذكرنا بتباين مواقف إسرائيل مع موقف الإدارة الأميركية الجديدة حول الملف النووي. مستغلاً هذه المناسبة، دعا بينيت إلى إعادة النظر في استعادة الاتفاق النووي مع إيران، واعتبرت القيادات العسكرية أن خيارات إسرائيل مفتوحة لتوجيه ضربة لإيران. على الجانب الآخر، اعتبر جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي أن نتائج الانتخابات الإيرانية يجب أن لا تصرف الولايات المتحدة عن تحقيق أولويتها بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، مؤكداً أن الطريق الدبلوماسي وليس العسكري هو السبيل الأفضل لتحقيق ذلك. الا أن هذا التباين بين البلدين حول كيفية التعامل مع الملف النووي يأتي اليوم في ظل حكومة إسرائيلية جديدة تتطلع لاستعادة تنسيق سياساتهما.
اعتبرت مصادر إسرائيلية رسمية أنه على الرغم من أن إسرائيل لن تكون ضمن أي اتفاق مع إيران، ولم تقبل بعد بعرض بايدن باجراء مفاوضات مباشرة حول هذا الموضوع، الا أنه بإمكان إسرائيل التأثير على معطياته ومتابعة انتهاكاته، إن تابعت إسرائيل ذلك مع الولايات المتحدة. وتسعى إسرائيل للضغط على الإدارة الأميركية للإبقاء على بعض العقوبات المفروضة على إيران، والحصول في ذات الوقت على تعويض إستراتيجي، كشرط لعودة الولايات المتحدة للاتفاق مع إيران.
بعد انتخابه رئيساً جديداً لإيران، دعا إبراهيم رئيسي الولايات المتحدة، في أول مؤتمر صحفي له في منصبه الجديد يوم الاثنين الماضي، لرفع جميع أشكال الحظر المفروض على الشعب الإيراني كشرط لعودة بلاده للاتفاق النووي. وتنسجم تصريحات رئيسي التي شددت على قضايا الإصلاحات الاقتصادية، والرغبة في زيادة السيولة النقدية لرفع إنتاج بلاده مع توجه إيران لاستكمال اللقاءات في فيينا في إطار الجولة السادسة من المحادثات.
وتعتبر القوى الأوروبية، التي سعت جاهدة للحفاظ على الاتفاق النووي، أن إنهاء العمل بذلك الإتفاق سمح لإيران باستئناف إنتاج الوقود النووي، والذي قدرت تقارير لأجهزة المخابرات الأمريكية أن ذلك يمكن أن يسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية بشكل محدود في غضون أشهر. إن ذلك يفسر الموقف الأمريكي الحالي الذي عبر عنه روبرت مالي، المسؤول الأمريكي المكلف بمتابعة الملف الإيراني، من أن حملة الضغط الشديد على إيران قد فشلت.
وعلى الرغم من التوجه الأميركي للتوصل لحل سياسي مع إيران بإعادة إحياء الملف النووي، الا أن هناك عقبتين رئيستين تعرقلان مسار المحادثات في فيينا.
تتمحور الأولى حول مطالبة الإيرانيين الحكومة الأميركية بالتزام تعاهدي مكتوب، يقوض أي مساع مستقبلية للانسحاب من الاتفاق. وتكمن المشكلة في أن هذا النوع من الالتزام الذي تطالب به إيران يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وهو أمر غير ممكن في ظل تركيبة المجلس الحالية، وتباين مواقف أعضائه تجاه إيران، وهو الأمر الذي اضطر إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لتوقيع الاتفاق النووي في إطار صلاحياته التنفيذية، وهو إجراء يمكّن أي رئيس جديد من إلغاء هذا النوع من الاتفاقيات التنفيذية، على عكس المعاهدات المصدقة من قبل مجلس الشيوخ.
على الناحية الأخرى، تتمثل العقبة الثانية في مطالبات الجانب الأميركي إيران بالعودة إلى طاولة المفاوضات لاستعادة الصفقة القديمة كمقدمة لصياغة شروط اتفاق أحدث وأقوى على حد تعبير بلينكن، تقيد تطوير برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية ونشاطها الإقليمي.
وتنتقد كذلك جهات عديدة في الإدارة الأميركية الاتفاق النووي لأنه محدد بمدة زمنية، تسمح لإيران ابتداءً من عام 2030 بالتحرر من شروطه التي تقيد إنتاج الوقود النووي وتطوير أجهزة الطرد المركزي.
اعتبر رئيسي أن ملفي تطوير برنامج الصواريخ الباليستية والنشاط الإقليمي لبلاده غير خاضعين لأي مفاوضات. كما أكدت مصادر إيرانية رسمية عدم استعداد إيران لتمديد فترة القيود المفروضة على إنتاج الوقود النووي إلى ما بعد عام 2030، أو وضع أي قيود على أبحاثها في مجال التطوير النووي. ورغم تلك التصريحات، تعكس تصريحات رئيسي المنفتحة حول استكمال مفاوضات فيينا، والتي تنسجم مع توجه آية الله على خامئني المرشد الأعلى للبلاد لاستعادة الملف النووي تعكس بعداً مهماً، خصوصاً بعد أن توصلت تلك المفاوضات بالفعل خلال الأشهر القليلة الماضية لوضع مسودة لاتفاق لا يبتعد كثيراً في بنوده عن الاتفاق السابق. كما أنه من الممكن تغاضي إيران عن شرطها بتوقيع اتفاق تعاهدي غير قابل للإلغاء في ظل علمها بصعوبة تحقيق ذلك.
فتحت التصريحات والمواقف الرسمية الايرانية المجال أمام استنتاجات اعتبرت أنه من الممكن الوصول إلى صفقة في غضون الأسابيع القليلة القادمة، وقبل تولي رئيسي بالفعل مهامه الجديدة رسمياً أوائل شهر آب القادم. إن ذلك، وحسب تلك التحليلات، يمنح فرصة للحكومة الجديدة لتحميل المعتدلين في الحكومة المنصرفة مسؤولية الاستسلام للغرب، في حال عدم نجاح الاتفاق الجديد في تحقيق الاختراق المطلوب بتخفيف العقوبات الاقتصادية عن البلاد. أما في حالة تحقيقه ذلك الاختراق المطلوب، فان ذلك يفتح المجال أمام الحكومة المحافظة الجديدة لحصد الإيجابيات المأمولة بتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ويعزز ادعاءها بالحاجة إلى حكومة متشددة قوية لتقود العلاقات مع الغرب.
رغم تبني بينيت سياسة متطرفة في الملفين الفلسطيني والإيراني، الا أنه مقيد في حدود حكومة مقسمة إلى ثمانية أحزاب تتباين توجهاتها بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، وتوجه عام يميل نحو تحسين علاقات إسرائيل مع الإدارة الأميركية الديمقراطية الجديدة وعدم الوقوف في وجه تحولات الحزب الديمقراطي العامة باتجاه حل الدولتين. إن ذلك يرجح تبني الحكومة الإسرائيلية سياسة براغماتية، لا تتعارض مع توجهات إدارة الرئيس بايدن في بناء الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعدم الإقدام على خطوات أحادية الجانب لتقويضها، وعدم معارضة ذات مغزى لاتفاق قد تتوصل اليه الإدارة الأميركية مع إيران. الا أن ذلك الانقسام الشديد في تركيبة الحكومة الإسرائيلية يطرح سؤالاً مهماً حول مدى قدرتها على تحمل إجراءات بناء الثقة التي تطرحها الإدارة الإميركية، كما يؤكد على عدم قدرتها الإقدام على تغيرات جوهرية في سياستها تجاه الملفين، ما من شأنه إسقاطها بسهولة.
حكومات جديدة ومعطيات متجددة في المنطقة
2021-06-25