الناصرة- “القدس العربي”: طالما أكدت أوساط إسرائيلية واسعة أن انسحاب إسرائيل من لبنان في مثل هذه الأيام من عام 2000 وبصورة بدا فيها جيشها مذعورا ومهزوما، قد حفّز الفلسطينيين على إشعال الانتفاضة الثانية.
وفي هذا الأسبوع التالي لعدوان “حارس الأسوار” على غزة، يحذر باحثون إسرائيليون من تبعات فشل العدوان إستراتيجيا على إسرائيل، ومنهم باحثان في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، حيث يتساءلان عن الدلالات الأولية للحرب على غزة، والدرس الذي تعلمه حزب الله منها.
ويقول أورنا مزراحي ويورام شفايتسر، إنه منذ بداية عملية “حارس الأسوار” كان واضحاً أن حزب الله غير معني بفتح جبهة قتال إضافية في الشمال، وامتنع عن المشاركة في المعركة العسكرية ضد إسرائيل. ويعتقدان أن هذا يعود في الأساس إلى رغبة حزب الله في السيطرة على توقيت وظروف المواجهة العسكرية مع إسرائيل، بما يتلاءم مع اعتباراته ومصالحه، سواء كانت داخلية لبنانية أو خارجية إيرانية إقليمية، وليس الالتزام بتوقيت تفرضه المصلحة الفلسطينية.
وزعم الباحثان أن التوقيت الحالي لا يناسب حزب الله؛ بسبب الوضع الصعب في الدولة اللبنانية المنهارة وازدياد الانتقادات الداخلية له، وكذلك عدم رغبة الراعي الإيراني في عرقلة المفاوضات التي تتقدم بعد عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، ورغبة إيران في المحافظة على الذراع العسكرية اللبنانية التي بنتها طوال العديد من الأعوام من أجل مواجهتها العسكرية مع إسرائيل. ويقولان إنه طوال أيام القتال في غزة، بقي حزب الله بعيداً نسبياً عن الأنظار، واكتفى بالتعبير عن التأييد والتضامن مع “حماس” في صراعها من أجل القدس. وقد شجع مع الفصائل الفلسطينية التظاهرات في شتى أنحاء لبنان، وفي الأساس على طول الحدود مع إسرائيل، والتي شملت أعمال عنف، بينها مهاجمة الحاجز الحدودي والمعدات التكنولوجية عليه، وحتى محاولات التسلل إلى الجليل التي أحبطها الجيش الإسرائيلي، لكن الأخطر من ذلك كانت الحوادث الثلاث لإطلاق الصواريخ من لبنان على إسرائيل.
صواريخ من جنوب لبنان
يستذكر الباحثان أنه في 13 أيار/ مايو أُطلقت 3 صواريخ من بلدة كفركلا اللبنانية وسقطت في البحر، فسارع الجيش اللبناني إلى فرض وجوده على الأرض موضحاً أن مصدر الصواريخ طرف فلسطيني، وأنه منع إطلاق المزيد من الصواريخ وألقى القبض على مشتبه بهم. ويضيف: “في ليل 17 أيار/ مايو أُطلقت 6 صواريخ من منطقة كفرشوبا، لكنها سقطت في الأراضي اللبنانية. وردّ الجيش الإسرائيلي بقصف مدفعي على المنطقة من دون وقوع ضحايا في الأرواح وأصاب أنابيب المياه بأضرار. الجيش اللبناني حدد هذه المرة منطقة إطلاق الصواريخ وعثر على صواريخ لم تُطلَق وأعلن البدء بالتحقيق. في 19 أيار/ مايو أُطلقت 4 صواريخ من قرية صدّيقين في منطقة صور تخطت هذه المرة الحدود إلى إسرائيل: جرى اعتراض صاروخ، وسقط آخر في منطقة شفاعمرو، وإثنان في البحر. وعثر الجيش اللبناني على صاروخ خامس لم يُطلَق، وهذه المرة أيضاً رد الجيش الإسرائيلي بقصف مدفعي محدود في اتجاه مصدر إطلاق النار”.
النأي عن المسؤولية
يشير الباحثان الإسرائيليان إلى أنه في كل حادثة إطلاق صواريخ، سارعت الجهات الأمنية اللبنانية إلى التوضيح أن المسؤول أطراف فلسطينية، وحتى الآن لم تُعرَف بوضوح هوية الفصائل الفلسطينية المقصودة. كما سارع حزب الله إلى إعلان عدم مسؤوليته، حيث دحض نعيم قاسم أي علاقة للحزب بإطلاق الصواريخ. وعلى الرغم من ذلك، يقدر الباحثان الإسرائيليان أنه نظراً إلى كون حزب الله هو الطرف العسكري المهيمن في لبنان، إلا أنه كان قادراً على منع إطلاق الصواريخ لو شاء ذلك، أو على الأقل أن يوضح لمن أطلق الصواريخ بصورة مستقلة أنه لا يسمح له بذلك؛ لأنه سيجر لبنان وحزب الله إلى مواجهة عسكرية يمكن أن تشعل حرباً واسعة.
كما يرجحان أن حزب الله اختار غض النظر وحتى المساعدة في القصف من خلال الحرص على أن يبقى محدوداً ورمزياً، ولإظهار التعاطف مع الشريك الفلسطيني، في ضوء الانتقادات التي وُجهت إليه لعدم انضمامه إلى النضال الفلسطيني، وفي الوقت عينه منع التصعيد. ويعتبران أن ” صرف النظر من جانب حزب الله إلى أن الحزب مستعد للمخاطرة كما أثبت في الماضي رغم الثمن الباهظ الذي من المتوقع أن يدفعه نتيجة احتمال التدهور إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل. ويوضحان أن هذا يأتي بعد عدد من محاولات هجوم نفذها الحزب في السنة الماضية ضد الجنود الإسرائيليين انتقاماً لمقتل عنصر من الحزب في سوريا في تموز/ يوليو السنة الماضية، والذي هدد الحزب في إثره بالانتقام لمقتله. ويضيف الباحثان: “وقعت عملية أكثر خطورة من الحدود السورية تحديداً عندما أُطلقت منها مسيّرة مزودة بالذخيرة أسقطها الجيش الإسرائيلي. بالاستناد إلى تصريحات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، جرى القصف بمبادرة من إيران من العراق أو من سوريا. إذا كان هذا صحيحاً فمن المحتمل أن تكون إيران شريكة في إطلاق الصواريخ، وهي التي أمرت بذلك من أجل خلق انطباع بأنها تشارك في الجهد الفلسطيني بثمن زهيد نسبياً “. ويقولان إنه باستثناء إطلاق المسيّرة الوحيدة من سوريا، حرص الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية في العراق واليمن على الاكتفاء بتصريحات تأييد وتضامن مع النضال الفلسطيني ضد الاحتلال من دون التدخل فعلياً في القتال.
حسابات حزب الله
طبقا للباحثين الإسرائيليين، فإنه بالنسبة إلى حزب الله، تشير الطريقة التي اختارها خلال العملية العسكرية على غزة بوضوح إلى الأهمية التي يوليها لأن يكون هو مَن يملي توقيت وظروف المواجهة مع إسرائيل وليس عناصر خارجية، بينها الشركاء الفلسطينيون. وبالنسبة لهما أيضا، لا يزال حزب الله يرّكز على مواصلة تعاظُم قوته العسكرية وترسيخ “معادلة الردع” الموسعة إزاء إسرائيل، بحيث تشمل منع هجمات إسرائيلية ضد مقاتليه في سوريا كما في لبنان. وبرأيهما وضمن هذا السياق، يمكن تفسير تشديد الناطقين بلسان الحزب في تصريحاتهم على إنجازات حركة “حماس” التي في رأيهم انتصرت في المعركة، ونجحت على ما يبدو في خلق معادلة ردع جديدة تربط بين المس الإسرائيلي بالحرم القدسي وبالقدس، وبين إطلاق النار من قطاع غزة على إسرائيل.
فرصة للاختبار
يرى الباحثان أن المعركة بين إسرائيل و”حماس” أتاحت لحزب الله ولرعاته في إيران فرصة فحص الاستراتيجية الإسرائيلية في زمن مواجهة عسكرية والتعلم منها ما هي نقاط قوة إسرائيل ونقاط ضعفها. ومن المعقول أن نتائج هذه المواجهة ستُدرس وستؤخذ في الاعتبار في قراراتهم المستقبلية بشأن احتمالات المواجهة مع إسرائيل في الساحة الشمالية. ويقولان إن درسا أساسيا بالنسبة إلى حزب الله وإيران هو قوة الجيش الإسرائيلي مع التشديد على القدرة التدميرية لسلاح الجو وكثافة عملياته، واستعداده للتسبب بدمار واسع النطاق يشمل البنى التحتية المدنية رداً على قصف مدن ومواطنين إسرائيليين. ويتابعان: “يمكن التقدير أن المعركة في غزة أوضحت للحزب أن (عقيدة الضاحية) في حرب لبنان الثانية ليست حادثة منفردة، وعندما تُهاجم إسرائيل وتقاتل دفاعاً عن نفسها فإنها تعمل انطلاقاً من شرعية ضرب أهداف عسكرية في بيئة مدنية بصورة يمكن أن تُلحق أضراراً كبيرة بالخصم. ف
الكشف عن نقاط الضعف
في المقابل، برأيهما، فإن كشْف قدرات الجيش الإسرائيلي يمكن أن يشجع حزب الله على بلورة رد لمواجهتها وتوظيف جهد في تطوير قدرات من نوع تحسين دقة الصواريخ لديه وبناء مظلة دفاعية في مواجهة سلاح الجو الإسرائيلي، أو محاولة التشويش المسبق على عملياته. ويقولان إن كشف نقاط الضعف في جهوزية الجبهة الداخلية الإسرائيلية الذي تجلى أيضاً في القصور الواسع في تأهيل الملاجئ، سواء في جنوب إسرائيل أو في شمالها، لم يغب بالتأكيد عن أنظار كل الأطراف في الساحة الشمالية. كذلك زعزعة نسيج العلاقات بين العرب في إسرائيل والسكان اليهود في المدن المختلطة، والتي يمكن أن تشجع حزب الله على دعوة الجمهور العربي في إسرائيل إلى استخدام العنف في زمن مواجهة عسكرية، في الأساس في سيناريو حرب متعددة الجبهات تشمل إطلاق النار من قطاع غزة.
جهوزية ويقظة في الشمال
وفي الاستنتاجات، يقولان الباحثان إنه بالنسبة لإسرائيل، رغم أن حزب الله يبدو مرتدعاً في الوقت الحالي، فإن نهاية العملية في غزة تتطلب، لا بل تفرض على الجيش الإسرائيلي العودة إلى الاهتمام بالتهديد المركزي الذي يواجهه في الجبهة الشمالية من طرف حزب الله والمحور الشيعي. ويعتبران أن المطلوب من الجيش إبداء جهوزية ويقظة في هذه الساحة وتحديد موعد جديد للتدريب العسكري المتعدد الأذرع “عربات النار” الذي تأجل بسبب الأحداث على الساحة الفلسطينية.
يخلص الباحثان الإسرائيليان للقول: “مع وتيرة الأحداث التي تقع في مختلف جبهات المواجهة مع إسرائيل، ليس واضحاً في هذه المرحلة ما إذا كانت الخلاصات التي استخلصها حزب الله وإيران من المعركة القصيرة مع حماس ستشجع التنظيم اللبناني على محاولة استفزاز إسرائيل من خلال تنفيذ تهديدات بالثأر لمقتل أحد عناصر الحزب والمخاطرة بمواجهة يمكن أن تتصاعد كما أثبتت إسرائيل في ردها على إطلاق حماس صواريخها على القدس، أم ستُضعف تحديداً استعداده للمخاطرة بردّ قوي على حادث محلي”.