2024-11-25 10:56 ص

عاصمة السّماء التي تحرس الأرض والقضيّة

2021-05-06
دائماً ما كانت فلسطين تسير في اتجاه معاكس لمسار النظام الرسمي العربي، ليس على مستوى المواقف والانتماء فحسب، إنما أيضاً على مستوى النبض وزخم المقاومة وحماسة أبنائها للقضية وخروجهم الدائم من مساحة الخطابات الفارغة التي لا تريد استعادة فلسطين إلا في النصوص والأشعار، إلى مساحة العمل والفعل والتأثير الحقيقي والتغيير المحقق بالدم والحديد والنار والحجارة.

 

في فلسطين المقاومة هي الحياة الطبيعيّة
هي سمة من سمات أبناء الأرض في فلسطين، فهم يعملون من أجل قضيتنا بما يفوق كلامهم عنها بأضعافٍ مضاعفة. هؤلاء لا يتعاطون مع القضية الكبرى على أساس إحياء المناسبات وإصدار البيانات والتقاط الصور، ثم انتهاء العمل المقاوم مع إرسال الخبر إلى وسائل الإعلام، بانتظار مناسبة أخرى لتكرار الموقف نفسه، بل إن مقاومتهم فعل مباشر وعمل يومي تحوّل مع الوقت إلى أسلوب حياة متكامل، يحارب بأظافره الاحتلال في مختلف الميادين، فتراه في مكان ما يحرق محاصيل الأرض المسروقة بالطائرات الورقية، ويدهس محتلاً في مكان آخر، ثم يطعن سارقاً سرق بيته وأرضه ووطنه وقتل كل ما له في الحياة ما عدا الأمل.

الفلسطينيون يعلّمون الأمل. سيرتهم تحكي دروساً في كيفية التمسّك بالحق بكلّ ما يمتلك من القوة، بل بكل ما لا يمتلك أيضاً، لأنَّ حسابات القوة لم تثنِهم عن البقاء مقاومين مؤمنين، لا تغيّر إرادتهم النكسات المتتالية والخيانات المتكررة، المستتر منها والمعلن، ولا يمنعهم من مواصلة الطريق المقدار الهائل من التضحيات التي يقدمونها. إنهم يقودون شعوب العالم المقاومة، فهم عنوان نجاح ونموذج يحتذى ومدرسة أمل لكل من لديه قضية محقة على هذه الأرض.

 

يوم القدس العالمي
والقدس هي العنوان العريض للقضية، وهي شعارها ورمزها. هي "اللوغو" الخاص الذي ما إن يُرى حتى يفهم العالم أننا نتحدث عن القضية الفلسطينية؛ عن قضية شعب تعرض لكل ما يمكن أن يتعرض له شعب في هذا العالم، لكنه بقي متمسكاً بحقه تمسكاً أصبح عنواناً ودليلاً على أحقية القضية، بينما يتراجع العدو يوماً بعد يوم عن إيمانه بالمزاعم والأكاذيب التي بنى عليها سرقته التاريخية. 

سيقول قائلٌ محقّ إن العدو مستمر بإجرامه بزخم متصاعد، وهو كذلك، لكن بيانات العدو الداخلية وصحفه ومراكز دراساته ونقاشات مؤسساته الأمنية والعسكرية والمستويات العليا للإدارة في الكيان، يقرّون جميعهم بتراجع إيمان الإسرائيليين بقضيتهم، وتزايد أعداد المشككين بها والمتسائلين عن جدوى الاستمرار كشعب مسلّح وافد إلى أرض يقتل شعباً آخر شبه أعزل متجذر ومولود فيها، ويدافع عنها باستمرارية مدهشة، حتى باتت المؤسسة الدينية في الكيان تعتبر تزايد نسبة الإسرائيليين العلمانيين خطراً محدقاً محيقاً بوجود "الدولة" وبمستقبلها المهدد.

ولأن القدس هي العنوان المعبر عن عمق هذه القضية، كان إعلان الإمام روح الله الخميني عن يوم القدس العالمي تعبيراً عن مركزية قضية القدس كمحور للصراع من أجل استعادة كل فلسطين، ما يرتبط بصورةٍ مؤكدة باستعادة شعوب المنطقة قرارها السيادي المنفصل عن هيمنة الإمبراطوريات الاستعمارية المتلاحقة عليها وحكمها لنفسها بنفسها.

ولأن لعبة "فرّق تسد" ما تزال رائجة في سياسات الاستعماريين، فقد جاءت الدعوة الإيرانية إلى يوم القدس في قلب أسبوع الوحدة الإسلامية الذي أعلن عنه الإمام الخميني نفسه، لتكون مسك ختام عبادات المسلمين في الشهر الفضيل.

إنه ربطٌ موفق وعملي بين المسلمين بكل مذاهبهم وطرائقهم، وبين الأبعاد الإيمانية للالتزام الديني والأبعاد العملية المرتبطة بحركية الإسلام، كدينٍ ثوري لا تقتصر دعوته على الخلاص الفردي للإنسان عن طريق العبادات، بل تتخطاه إلى مساعدته على الثورة ضد الظلم في حياته الدنيوية، وحثّه على تعميق مفهوم التديّن الدنيوي الّذي يحسّن جودة حياته ويحقق ذاته، ويأخذ بيده في طريق قضايا الحق التي عبّرت عنها الأديان.

إذاً، للقدس بعد سماوي، فهي عاصمة السماء، ومركز قداسة إلهية عند الأديان السماوية، الإسلام والمسيحية واليهودية، وإن شوّه الإسرائيليون انتماء إيمان اليهود إليها، عن طريق اختراع الأكاذيب وضخها، ومحاولة تزوير التاريخ، بصورةٍ انعكست سلباً على الإيمان اليهودي الحقيقي بالقدس أكثر مما طالت إيمان المسيحيين والمسلمين، وهي مفارقة مدهشة من مفارقات المنطق والتاريخ.

والقدس في هذا البعد السماوي نقطة جمعٍ اليوم للمسيحية والإسلام؛ ففي عمق الإيمان المسيحي والإسلامي، تحوز القدس مكانة الربط الشديد بين تاريخين وكتابين ودينين وشعوب تدور حول أواصر الربط هذه، لتعمم كنيسة القيامة والمسجد الأقصى أجواء إيمانية تعطي القدس بريقها الإلهي غير المنطفئ، تماماً كشعلة النور المقدس من قبر المسيح في ليلة القيامة.

وللقدس بعد آخر أرضي وسياسي، فهي عاصمة الأرض أيضاً، لكونها مركز القضية الأكثر تأثيراً في شعوب كثيرة، كالعرب والمسلمين والمسيحيين المنتمين إليها، إضافة إلى مجتمع المنصفين حول العالم. 

وكقضية سياسية، تمثل القدس عنوان الثقل الإقليمي للدول العربية، التي ما إن خسرت فلسطين وعاصمتها القدس حتى خسرت إمكانية تحقّق نظام أمن قومي عربي، واحتمال وحدة عربية ناجحة وسيادة عربية كان يمكن أن تشكل رافعة لعودة الحضارة العربية كحضارة منتجة للعلوم، رائدة في التقدم العالمي، مستعيدةً لقدرتها على المشاركة في العصر والانتماء إليه وعيش العالم بالتوقيت الحقيقي، بدلاً من السير على هامش الزمن والأحداث، والاكتفاء بالتأثر والتعرض والتلقي.

وكقضية أرضية أيضاً، فإنّ القدس تمثّل الاستمرارية الحتمية للقضية الفلسطينية ولقضايا العرب والمسلمين والمسيحيين، كما سبق ذكره، وهو تحديداً ما جعل استهدافها سياسة إسرائيلية وأميركية دائمة، بالتهجير أولاً، ثم بالاستيطان ثانياً، ثم بالتركيز على قتل روح المقاومة في شعبها، والمحاولات الفاشلة المستمرة لتطبيعهم مع حياة إسرائيلية عادية ثالثاً، ثم بالتآمر عليها في صفقات فاشلة تلو صفقاتٍ أكثر فشلاً للسيطرة عليها، والضغط على الفلسطينيين للاكتفاء بحي في أطرافها كعاصمة، أو دفعهم إلى أبو ديس خارجها، أو محاولة إرغامهم على نسيان مدينتهم وقضيتهم رابعاً.

لكنَّ القدس مع كلّ ذلك بقيت، وهي اليوم تبقى متحفّزة ومشتعلة بالحماس، ومتقدّمة، ومقبلة على المقاومة أكثر من السابق، وانتفاضاتها وهبّاتها سلسلة حياة وموج ثورة لا يهدأ، يعاكس أمواج التطبيع والخيانة الدارجة عربياً اليوم.

طوال 75 عاماً، أثبت المقدسيون بثباتهم في مدينتهم ومواجهة المخططات المتتالية لإحلال اليهود مكانهم أن المقاومة مجدية. وعلى الرغم من كل الانهيارات التي طالت الموقف العربي الرسمي، بتخليه عن فلسطين مع مرور السنوات، لم يستطع الكيان الإسرائيلي انتزاع القدس من أهلها. قضمت السلطات الإسرائيلية الكثير من الأراضي والأحياء، وحاكت الكثير من مؤامرات التقسيم المكاني والزماني للمقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة، لكن على الرغم من ذلك كله، لم يستطع أحد ثني المقدسيين عن دورهم وواجبهم وإرادتهم المتقدة في حماية القدس كمدينة سماوية من جهة، وكعاصمة سياسية تاريخية لفلسطين من جهةٍ أخرى، وهو تحديداً ما يزيد قيمة هذه المقاومة كخيارٍ استراتيجيٍ مجدٍ، وليس كرد فعل اضطراري أو انتقامي على الاحتلال.

لذلك، إن تعميم تجربة المقاومة الفلسطينية، وتحديداً في القدس، لا بد من أن يشكل نموذجاً يحتذى عند كل من بردت همّتهم حيال مشروع المقاومة على مستوى العالمين العربي والإسلامي؛ ففي حين يتهافت المطبّعون للانخراط في مشروعٍ استسلامي فاشل، وخصوصاً مع رحيل عرابه دونالد ترامب عن السلطة في واشنطن، يتنامى زخم مقاومة المقدسيين لمشروعات الاحتلال الطامعة في القضاء على آمال فلسطينيين باستعادة عاصمتهم وبلادهم والعودة إلى أرضهم، بل إن مشكلة التراجع الاستراتيجي لمشروع الدولة هو ما تشهده "إسرائيل" نفسها، وليس فلسطين بشعبها ومقاومتها.

واليوم، تبرز مقاومة المقدسيين في الأسابيع الأخيرة لانتهاكات الكيان ومستوطنيه للمحرمات في القدس أن الكيان لن يكون عنصراً طبيعياً في المنطقة، مهما تقدم مشروع التطبيع، ومهما جمع من تواقيع عربية متخاذلة.

هذه المقاربة تؤكّدها السنوات الماضية؛ ففي مصر، وبعد 40 عاماً على "كامب ديفيد"، لا يمكن لإسرائيلي أن يسير في شوارع مصر كزائر طبيعي من دون حراسةٍ أمنية. لم تتمكن 40 سنة من تكريس التطبيع على مستوى وجود الإسرائيليين بين الشعوب العربية، بل إن التطبيع ما يزال يقتصر حتى اليوم على الحكام، وخصوصاً إذا ما ساهمت التطورات الحالية والمقبلة والرفض الفلسطيني الشامل لـ"صفقة القرن" في القضاء عليها. يواجه الإسرائيليون رفضاً متزايداً من شرائح واسعة من شعوب وكيانات دول العالم الأول، ليس في فلسطين فحسب، بل على مستوى العالم أيضاً.

 

أحداث القدس واتجاهات الصراع
إن المواجهة البطولية التي قدمها المقدسيون أمام العالم في الأسابيع الماضية في القدس تشكل محطة جديدة متقدمة من محطات الصراع المستمر على المدينة. إنها درس جديد يقول إن أصحاب المدينة قادرون على تزخيم الهبّة الأخيرة وتحويلها إلى انتفاضة شاملة تعم كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبالتالي، فإنها تتوافق من ناحية أخرى مع زيادة الغضب الفلسطيني المتراكم في مسارين أساسيين؛ الأول تمثله جرائم الاحتلال المستمرة والمتمادية بحق الفلسطينيين، والتي لا تقيم وزناً للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، وصولاً إلى معاهدات التطبيع نفسها التي يصورها كثيرون من العرب على أنها تطور طبيعي للسياقات السياسية في الإقليم، ومحاكاة للتطورات الدولية، وتعبير عن روح العصر والتطلع إلى المستقبل. والمسار الآخر هو مسار التطبيع نفسه الذي أغضب الفلسطينيين، ومن بينهم المقدسيون، وجعلهم يرون بأم الأعين ما لم يحبوا تصديقه في الماضي من أخبارٍ كان تتوالى عن لقاءات سرية بين بعض العرب والإسرائيليين.

وفي سياقٍ متصل، أعادت الأحداث الأخيرة التذكير بأن وجه الكيان الإسرائيلي المبتسم الساعي إلى "السلام" ليس سوى حفلة تنكر تناسب الموقف، وتتحايل على الشعوب العربية وحكامها، بينما الوجه الحقيقي للكيان هو ما ظهر في القدس.

مرة جديدة، هو كيان احتلال يسرق الممتلكات وينتهك المقدسات، ويمارس أبشع الجرائم التي يمكن لعدو أن يمارسها بحق أصحاب حق مثبت لا يعتريه شك. هي لغة وحيدة يفهمها هذا الكيان، ولا يعرف ممارسة غيرها، لكنه أيضاً لا يرضخ لغيرها، فهو طوال العقود الماضية لم ينسحب من أرض إلا تحت ضربات المقاومة، ولم يذعن لحق إلا خوفاً من المقاومة، وهو على هذه القاعدة لن يلتزم بتأدية أي حق في المستقبل من دون وجود مقاومة تجبره على ذلك.

إن يوم القدس العالمي، في فكرته ومفاعيله والأثر الذي يحدثه، هو فكرة عظيمة ترسم المستقبل بأهداف واعية ممكنة التحقق:

• حفظ وحدة المتمسكين بالقضية الفلسطينية.

• تثبيت مكانة القدس كعنوان سامٍ للقضية الفلسطينية ولقضية العرب والمسلمين والمسيحيين حول العالم.

• إبقاء جذوة المقاومة متقدة.


(الميادين نت)