2024-11-28 10:33 م

فتح وخلافاتها الداخلية: النار تأكل بعضها

2021-03-19
بقلم: عبدالحميد صيام
استطاعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» في بداياتها الواعدة، أن تجذب قلوب الملايين من الفلسطينيين والعرب حولها، وفي فترة وجيزة. فقد انضم إلى صفوفها عشرات الألوف من المقاتلين والسياسيين والمثقفين والأنصار، والنقابات والاتحادات. جذبت الشعب الفلسطيني إليها، لكونها حركة وليست حزبا ولا جبهة. الحركة تتسع للجميع كأفراد لا كتجمعات. كل من يؤمن ببرنامجها يستطيع أن ينضم للحركة، بدون قيد أو شرط، وبدون إعطاء أهمية للخلفية الأيديولوجية، لذلك ضمت فتح، الشيوعي والقومي والوطني والإسلامي والمسيحي والماوي والعربي واليساري واليميني والإيراني والباكستاني، شرط قناعته بتحرير فلسطين. وقد طرحت فتح، في بداياتها الواعدة استراتيجية بسيطة وفعالة وجذابة، بحيث تنقض استراتيجية الكيان الصهيوني:
العدو يعتمدعلى الحرب الخاطفة، بينما طرحت فتح استراتيجية الحرب طويلة الأمد. والكيان الصهيوني يأخذ الحرب خارج حدوده، بينما تعمل فتح على نقل المعركة داخل الحدود. والكيان يعتمد على التكنولوجيا المتطورة، بينما تعتمد الحركة على الكفاح المسلح القائم على الإنسان المؤمن والمخلص لقضيته. والكيان يعمل على عزل الفلسطينيين والاستفراد بهم، بينما أكدت الحركة في استراتيجيتها على تحالفها مع الجماهير العربية لا مع الأنظمة العربية. وأخيرا أكدت الحركة أن خلخة أمن العدو من الداخل، سيؤدي إلى وقف تدفق المهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم، لسد الخلل الديمغرافي، وقيام هجرة معاكسة تؤدي في النتيجة إلى إنهاء المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري في فلسطين، وقيام الدولة الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن أديانهم وألوانهم وخلفياتهم وأعراقهم.

التراجع عن برنامج التحرير

لكن فتح لم تلتزم بنظامها الداخلي، وبدأت مسيرة التراجع عن برنامج التحرير لصالح برنامج التسوية، تحت غطاء منظمة التحرير. لقد اعتمد رسميا أول خروج عن استراتيجية التحرير من خلال المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة، تحت اسم «مشروع النقاط العشر» الذي تضمن فكرة قيام «سلطة وطنية» على أي أرض يتم تحريرها. وبدأ بعدها الانحدار نحو فكر التسوية، حيث أقر المجلس الوطني في دورته الثالثة عشرة عام 1977 في القاهرة، فكرة تحقيق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وتم تتويج هذا التراجع في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر بين 12 و15 نوفمبر 1988، حيث أعلن عن قيام دولة فلسطين، وفي صخب البهرجة الإعلامية تم الاعتراف بقرار 242 (1967) أساسا لحل الصراع، والاعتراف بحق جميع الدول في العيش ضمن حدود آمنة معترف بها، ونبذ الإرهاب والعنف. لقد عبدت تلك الدورة الطريق لمؤتمر مدريد عام 1991، ثم لرسائل الاعتراف المتبادل ثم اتفاقية أوسلو 1993 التي أغفلت حقوق الشعب الفلسطيني كافة، وحولت السلطة إلى جهاز بصلاحيات محدودة، تقوم أساسا على خدمة أمن إسرائيل لإنهاء الانتفاضة، وأي شكل من أشكال المقاومة.

أوسلو خلقت شرخا واسعا في مسيرة النضال الفلسطيني، وحولت حركة فتح إلى سلطة تحت الاحتلال، وهمشت منظمة التحرير الفلسطينية، عدا عن التنازل عن 78% من فلسطين، بدون مقابل إلا بوعد للمفاوضات. حزب السلطة منذ عام 1994 يأكل نفسه، فقد استشهد العديد من الكوادر الأساسية، وزج في السجون الآلاف الذي قادوا الانتفاضات الفلسطينية، وانتهى الأمر بسيطرة عباس على كل مفاصل الحركة والسلطة والمنظمة، وحوله مجموعة من المريدين الذين يضربون بسيفه ولا يتركون أي هامش للخلاف الداخلي أو الرأي المناقض لرأي الزعيم. وسآخذ هنا مثالا على ما حدث مع ناصر القدوة، الذي فصله عباس بمرسوم رئاسي يوم 11 مارس الجاري.

حكاية ناصر القدوة

أثارت عملية طرد ناصر القدوة بالطريقة التي تمت بها، انتقادات حادة من قبل كثير من القيادات الفتحاوية، والفصائل والكتّاب والصحافيين والمثقفين، ليس بالضرورة حبا في ناصر القدوة، أو انتصاراً لمواقفه، بل بالطريقة الفوقية وغير الشرعية التي تمت بها. وبكل بساطة لا يحق للسيد محمود عباس طرد أي عضو منتخب من مؤتمر فتح، إلا إذا تمت محاكمته بناء على تهم يتم إثباتها بالدليل القاطع، ثم يعرض الفصل على «المجلس الثوري» ويتم التصويت عليه بغالبية الثلثين. السيد عباس أهدر كل القوانين، وألغى كل الآليات، وأصبح يتصرف كأنه حاكم بأمره، يصدر الفرمانات الواحد تلو الآخر، ويقول المريدون من حوله سمعا وطاعة. وحتى أعضاء اللجنة المركزية، كما تقول الرواية المتداولة، لم يعترض أحد منهم على هذا الفصل التعسفي غير المبرر، إلا توفيق الطيراوي الذي سمع كلاما غليظا من عباس بأن دوره في عملية التصفية مقبل. وأستطيع أن أقول بشيء من الثقة، إنني أعرف ناصر القدوة جيدا وعن قرب خلال سنوات عمله سفيرا لفلسطين في الأمم المتحدة، رغم توجهاتنا السياسية المختلفة تماما، خاصة حول اتفاقيات أوسلو. لكن والحق يقال، إن ذلك الخلاف «لم يفسد في الود قضية» وبقينا نتشاور ونتناقش في كثير من القضايا التي تهم القضية الفلسطينية، من موقعين مختلفين، موقع الدبلوماسي الفلسطيني وموقع الموظف الدولي. ولكن عندما تابعت قضيته مع عباس قلت في نفسي «على نفسها جنت براقش» لماذا؟
في سنوات حصار ياسر عرفات في المقاطعة، تبلور خط من داخل فتح مناهض لياسر عرفات، كان يعد نفسه لخلافته، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة أيام الرئيس بوش، بأنه لم يعد شريكا للسلام، على إثر بعض الوثائق التي سلمها شارون للرئيس الأمريكي حول كتائب الأقصى وسفينة الأسلحة «كارن أيه» وغيرها. وكان يرأس هذا التيار محمود عباس الذي وصفه ياسر عرفات بأنه «كرزاي فلسطين» وهذا التيار مستند إلى قوة محمد دحلان، رئيس الأمن الوقائي، الذي كان يحظى بدعم أمريكي إسرائيلي لا حدود له. ولكن من المستحيل أن يرث منصب عرفات شخص مثل دحلان، لصغر سنه أولا، ولأنه ليس من القيادات التاريخية. إذن كان معروفا أن القائد القادم محمود عباس، ولكن لا يثبّت عباس في السلطة إلا دحلان.
راهن ناصر على الحصان المقبل، وتخلى عن الحصان الآفل، وفتح خطوطا مع عباس ودحلان مقابل وعد رسمي من عباس بمنحه حقيبة الخارجية. كان لدى ناصر طموح كبير، كونه الوريث الأقرب إلى تركة خاله ياسر عرفات، وكان يرى أن المنصب المقبل بعد الخارجية سيكون رئاسة الوزراء، ومنها يصل بشكل طبيعي إلى الرئاسة، مسلحا ليس فقط بإرث عرفات، ولكن أيضا بمناصب وخبرات طويلة. لكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر. برّ عباس فعلا بوعده لناصر وعينه وزيرا للخارجية، وصمت القدوة عن تقرير المستشفى الفرنسي حول مقتل ياسر عرفات. اتجه إلى رام الله لاستلام منصبه الجديد وصحب معه مجموعة منتقاة من مساعديه، لتجسيد رؤيته لتحويل الخارجية إلى مؤسسة حقيقية تعتمد القوانين والمهنية والخبرة والتجربة. وبعد أن بدأ ناصر بمباشرة عمله وزير خارجية، جاءت انتخابات 2006 لتفوز حركة حماس في الانتخابات، وتقلب الطاولة على حركة فتح، وتسيطر على المجلس التشريعي، ويترك ناصر الخارجية بعد أقل من سنة من تعيينه ونحو سبعة شهور من ممارسته الفعلية للمهمة. شكّلت هذه الخسارة صدمة لناصر كغيره من قيادات فتح الملتفة حول عباس، وأصبح هم هذه المجموعة بقيادة دحلان زعزعة حكومة حماس في غزة، وعكس نتائج الانتخابات. وجد ناصر نفسه خارج المعادلة الفلسطينية، فلا حافظ على منصبه سفيرا في الأمم المتحدة، ولا دامت له وزارة الخارجية. قام بعدها بإنشاء مؤسسة ياسر عرفات، بمساعدة من منيب المصري، وأقر مجلس أمناء يشمل عددا من أصدقائه ممن تعرف عليهم في الأمم المتحدة منهم عمرو موسى، وأحمد أبو الغيط، والأخضر الإبراهيمي، وعدد من الشخصيات العربية المرموقة من الأردن وتونس والجزائر والمغرب ولبنان، إضافة إلى شخصيات فلسطينية وازنة. وقد حظيت المؤسسة بتقدير واحترام كبيرين في الشارعين الفلسطيني والعربي، إلا أنها لم تقرّب ناصر من تحقيق طموحاته، خاصة أن عباس انقلب على كل ما كان يمثله ياسر عرفات، وأصبح «التنسيق الأمني مقدسا» والانتفاضة والمقاومة من المحرمات.
انتخب ناصر القدوة في مؤتمر فتح 2009، وحلّ في المرتبة الرابعة بعد أبو ماهر غنيم ومحمود العالول ومروان البرغوثي، وتفوق على عدد كبير من وجوه الحركة المعروفين مثل صائب عريقات وأحمد قريع وجبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي ومحمد دحلان ومحمد اشتية وغيرهم. لكن عباس لم يتعامل مع ناصر بما يليق به أو يستحق، وحافظ على مسافة واضحة معه كون اسمه يطرح من حين لآخر كوريث محتمل لعباس. هذه الانتخابات أعطت فرصة لناصر أن يرد على تهميش أبو مازن، ويواجهه بموقف صلب، نتمنى ألا يتراجع عنه.
عتبنا على ناصر أنه ساير عباس كثيرا، وسكت على ما قام به ضد قطاع غزة من قطع للرواتب وحصار وشيطنه. ظل ناصر صامتا على الفساد وعلى برنامج تعميق الخلاف مع حماس من أجل التقرب من إسرائيل، الآن فقط يخرج ناصر عن صمته ليس لأن لديه برنامجا لإنهاء الاحتلال، وتوحيد الشعب الفلسطيني حول برنامج مقاوم، بل لتحسين شروط أوسلو وتغيير طريقة التعامل مع الكيان الصهيوني.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
المصدر/ القدس العربي