بقلم. جواد العناني
منذ أعوام، ونحن نسمع، من المحللين في الأسواق المالية وأسواق سندات الخزينة، أن سعر صرف الدولار مهدّد بشبح الهبوط، خصوصا حيال اليورو، وإلى حد ما حيال الين الياباني، واليوان الصيني. وقد تصحّ هذه التقديرات في المدى القصير، ولكنها قد تخيب في المدى الأطول.
ويبني المحللون توقعاتهم بالنسبة للدولار على عدد من العوامل، أهمها مقدار الدولارات الموجودة خارج الولايات المتحدة (أو اليورو / دولار). ومن الواضح أنه كلما زادت هذه الكمية هبط سعر صرف الدولار.
والعنصر الثاني بالطبع هو زيادة العجز في الميزان الأساسي (ميزان السلع والخدمات) للولايات المتحدة حيال بقية العالم. وزيادة العجز هنا تعني تصدير مزيد من الدولارات إلى الخارج.
أما العنصر الثالث فهو قرارات الخزينة الأميركية حيال أسعار الفوائد على سندات الخزينة الأميركية من ناحية، وردة فعل المستثمرين في هذه السندات وتوقعهم للعوائد عليها من ناحية أخرى.
وإذا شعرت الخزانة الأميركية أن سعر الفائدة على الدولار يجب أن ينخفض، فإنها تخفّض سعر الفائدة على السندات والأذونات، ما يرفع من أسعارها. وتفعل الخزينة ذلك إذا شعرت أن المستثمرين يفضلون العائد في المدى القصير، ولو كان صغيراً، على المخاطرة في شراء سندات طويلة الأمد، وإن ارتفع سعر الفائدة عليها.
ويسمي الاقتصاديون حدوث تطور كهذا في سوق السندات "منحنى العائد المقلوب"، لأن المساهمين سيُقبِلون على شراء سنداتٍ قصيرة الأجل، بدلاً من طويلة الأجل. وهكذا يحققون أرباحاً رأسمالية متزايدة في المدى القصير، على حساب المردود على السندات طويلة الأجل والأكثر خطورة.
ومن المعروف أن سعر الدولار يتأثر بأسعار المعادن الثمينة، فارتفاع سعر الذهب أو الفضة أو البلاتين يرتبط عادة بهبوط في سعر صرف الدولار. وينطبق التحليل نفسه، إلى حد كبير، وليس دائماً، على أسعار النفط.
ويجري حالياً نقاش داخل الكونغرس الأميركي حول مشروع قانون الدعم الاقتصادي الذي وعد الرئيس جو بايدن الناخبين به في أثناء حملته للفوز بالرئاسة الأميركية. وله مع الحزب الجمهوري خلافاتٌ على حجم الدعم، وأسلوب توزيعه.
وبالطبع، فإن كلا الحزبين يسعى إلى دفع "قرص النار" نحو قاعدته التي صوّتت له، حتى يضمن مزيداً من التأييد في انتخابات منتصف الفترة المقبلة، والتي ستجري في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، حيث يسعى الحزب الديمقراطي إلى تعزيز أغلبيته الضئيلة، ويبذل الحزب الجمهوري كل ما لديه لاستعادتها.
ويبلغ حجم فاتورة الدعم التي تَقدَّم بها الرئيس بايدن حوالي تريليونين من الدولارات، وهو مبلغ كبير، بالإضافة إلى مبالغ الدعم التي تقرّرت أيام الرئيس السابق، دونالد ترامب، بمقادير تجاوزت ثلاثة تريليونات دولار.
وسوف تُوفّر هذه الدولارات عن طريق الاقتراض، أو عن طريق إصدار ما يُسمى أحياناً "Fiat money"، أو طباعة نقود ورقية من دون رصيد.
وحيث إن هناك جوعا في العالم لحيازة الدولارات والاحتفاظ بها في زمن التراجع الاقتصادي وكورونا، فإن سرعة دوران الدولار في الأسواق العالمية أبطأ من اللازم، بسبب تفضيل الناس في معظم الدول النقد أو "الكاش" في زمن الأزمات.
ولهذا، فإن المعروض من الدولار عملياً من أجل التداول يقل بمقادير كبيرة عن كميات الدولار المتاحة والمكتنزة في المنازل والمصارف، وفِي الاستثمارات شبه النقدية.
وإذا عاد الاقتصاد الدولي إلى التعافي، وبدأت اقتصادات العالم تتجاوب مع تلاشي خطر كورونا وقيوده وحَجْرِه، فإن إنفاق الدولار سوف يبدأ، وسنرى الأسواق تعجّ به، وسوف تزداد كميات الدولار المتاحة للتبادل بسرعة ربما أكبر من سرعة توفير السلع والخدمات.
وسوف تؤدّي هذه الفجوة بالطبع إلى رفع أسعار الذهب، والنفط والسلع الأساسية كالغذاء والدواء، وخدمات السفر وغيرها، ما يؤدي بدوره إلى هبوط سعر صرف الدولار، وزيادة رغبة المحتفظين به والمكتنزين له في التخلص منه قبل هبوطه بنسبة أكبر. وهذا التنافس بين المكتنزين هو الوسيلة الأكثر فعالية في تخفيض سعر صرف الدولار.
ولكن الإشكالية المحيرة الآن هي سبب ارتفاع الجنيه الاسترليني مقابل الدولار. وقد تصاعدت تنبؤات كبار البنوك العالمية بأن سعر صرف الجنيه سوف يهتزّ مقابل عملات اليورو والفرنك السويسري والين الياباني. والسبب هو أثر انتشار عدوى كورونا وتحوّراتها على أعداد الإصابات والوفيات المتزايدة في المملكة المتحدة.
وقد دخلت البلد في حالة إغلاق شديدة ستبقى سارية حتى الثامن من الشهر المقبل (مارس/آذار) حين يُبْدأ بفتح المدارس، ومن بعدها سيستمر تخفيف الحظر على باقي القطاعات إلى منتصف شهر مايو/أيار. ولكن بسبب التشدّد في الحظر، قد تشهد المملكة المتحدة نشاطاً مبكراً، وتعاوناً أكبر مع الولايات المتحدة، ما قد يحسّن سعر صرفها أكثر.
عالم أسعار الصرف بات أكثر تعقيداً من أن يبقى معلقاً بعملة واحدة، مهما كانت قوتها. والدول الاقتصادية الصاعدة والراغبة في منافسة الولايات المتحدة على القمة سوف تبدأ بالضغط من أجل الوصول إلى نظام عالمي نقدي، يحقق استقراراً أكثر لأسواق الصرف والنقد والبورصات العالمية.
بعد أحداث عام 2008 والانتكاسة الاقتصادية العالمية آنذاك، نادت دراستان من داخل منظمة الأمم المتحدة بالعودة إلى نظام سلة العملات. صدرت الأولى عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، والثانية عن مقر الأمم المتحدة في نيويورك. ولكن إدارة الرئيس باراك أوباما غضبت وأوقفت متابعة تلك الدراسات.
تسير الأمور الآن باتجاهٍ مخالف لما تشتهيه سفن الولايات المتحدة، فالصين التي وصلت إلى الصدارة تريد لعملتها أن تكون دولية. وكذلك الأوروبيون، على الرغم من خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
والتفاهم الروسي الصيني ثنائياً وداخل مجموعة بريكس (BRICS)، المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، تريد أن يكون لها ترتيباتها في الوضع خارج إطار الدولار.
ستشهد الأيام المقبلة صراعاً على العملات الإلكترونية، وعلى الوسائل لِتسوية المدفوعات والمقبوضات، وعلى نظامٍ تتحدّد بموجبه أسعار صرف العملات.