يزداد تناقض المصالح بين مصر والإمارات وضوحاً، مع استمرار اتخاذ أبوظبي مواقف مناهضة للقاهرة في عدد من أشد الملفات الإقليمية حساسية لمصر، رغم التحالف الوثيق بين البلدين.
فمن إسرائيل وفلسطين مروراً بقناة السويس وصولاً إلى إثيوبيا والصومال في القرن الإفريقي، يثير تناقض المصالح بين مصر والإمارات تساؤلات عدة، ويضع علامات استفهام على التحالف الوثيق بين النظامين.
تناقض المصالح بين مصر والإمارات يبدو غير منطقي
أبرز هذه التساؤلات: لماذا تقوم الإمارات بمثل هذه التحركات المناهضة لمصالح أهم حليف لها في المنطقة، رغم أن الإمارات عادة تبرر جزءاً كبيراً من مواقفها السياسية خلال السنوات، بأن هدفه الحفاظ على مكانة مصر من المتآمرين عليها، كما يردد خطابها الدبلوماسي والإعلامي.
وهي السياسات الإماراتية التي وصلت إلى التدخل في الشأن المصري بشكل فج، عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي أطاحت بحليفها القديم حسني مبارك، حيث ردت أبوظبي على ذلك بحملة إعلامية بدأت بإرباك الثورة وإثارة الاضطرابات والخلافات بين مكوناتها مروراً بفرض حظر عبر الإعلام على أي انفتاح مصري بعد الثورة على إيران، من خلال تحذير إعلامها أو الإعلام الممول منها من محاولات مزعومة لنشر التشيع في مصر، بينما الإمارات أهم شريك تجاري عربي لطهران، ودبي تستضيف أعداداً هائلة من الإيرانيين.
ووصل التدخل الإماراتي في الشأن المصري إلى ذروته بعد وصول الرئيس المنتخب محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وبدت رسالتها تحمل وصاية، مفادها أن أبوظبي أدرى وأحرص على مصالح مصر من حكامها المنتخبين، وشباب ثورتها غير الناضجين، والناخبين الذي جاءوا بالإخوان المسلمين.
وظهر ذلك جلياً في استضافة الإمارات للفريق أحمد شفيق، الذي كان يُنظر إليه على أنه مرشح نظام مبارك في الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012، قبل أن تعيده للقاهرة بعد أن أبدى نية لترشيح نفسه أمام حليفها الرئيس السيسي.
وبدأ الحلف يزداد متانة بين السيسي والإمارات من خلال دعمها لمشروعات الرئيس المصري القومية، وصفقات سلاحه، والتعاون الكبير بين البلدين بليبيا، عبر دعم خليفة حفتر، في مشهد بدا فيه أن إدارتي البلدين قد تمازجتا، كما بدا هذا أكثر في قيام الإمارات باستيراد لقاحات فيروس كورونا الصينية، وتقديمها هدية لمصر.
ولكن على خلفية هذا التحالف الوثيق في ملفات، أغلبها مهم لأمن النظام ولكن ليس لأمن مصر القومي، تبدو الشقة كبيرة بين البلدين في ملفات شديدة الحساسية للأمن القومي المصري وفي مناطق نفوذ مصر واهتماماتها التقليدية.
تدفع القاهرة للتصعيد في ليبيا
فالغرب الليبي الذي دفعت الإمارات القاهرة إلى دعم هجوم حفتر عليه، لم يكن يوماً من مناطق نفوذ مصر التقليدية، التي لديها روابط تاريخية وعشائرية بالشرق (أفادت تقارير بأن القاهرة لم تكن متحمسة لهجوم حفتر على طرابلس؛ لتوقعها فشله).
وعلى سبيل المثال، فإن مدينتي سرت والجفرة اللتين جعلهما الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نقطتي البداية والنهاية في الخط الأحمر الذي رسمه لقوات حكومة الوفاق، ملوحاً بتدخل عسكري مصري إذا توجهت إليه قوات الحكومة الشرعية الليبية، لم يكن أي منهما يوماً جزءاً من الشرق الليبي، بل إن سرت كانت خاضعة لحكم طرابلس في أغلب أوقات الأزمة الليبية، خاصة بعد أن حررتها قوات موالية للوفاق من داعش (سيطرة داعش على سرت وقتلها للأقباط المصريين لم يؤديا إلى رد فعل مصري).
اللافت أن هذه المواقف المصرية الحادة تجاه ليبيا والتي يعتقد أن الإمارات شجعت عليها، جاءت في وقت كانت أزمة سد النهضة تمثل خطراً على الحياة في مصر نفسها وليس الأمن القومي فقط.
لماذا لا تساند الإمارات مصر في أزمة سد النهضة؟
قد يكون مفهوماً، أن النظام في مصر يعطي الأولوية لليبيا على إثيوبيا، لأن دوافعه أيديولوجية تسعى لمطاردة الإسلام السياسي المعتدل والديمقراطية في كل مكان ناطق بالعربية.
ولكن ما هو غير مفهوم، أن الحماسة الإماراتية في تشجيع مصر على التشدد في سياستها الليبية أمام حكومة الوفاق وداعمتيها تركيا وقطر، لم تقابلها أي حماسة إماراتية لمساندة مصر في أزمتها الكبرى مع إثيوبيا رغم ما لدى أبوظبي من علاقات وأدوات ضغط لا تخفى، على أديس أبابا.
والمثير للاستغراب، أنه عندما نشبت حرب تيغراي، التي كانت تمثل فرصة ذهبية لمصر والسودان للضغط على إثيوبيا لنيل تنازلات بملف النيل (فعلت الخرطوم جزئيأً في ملف الحدود)، سارعت الإمارات لدعم أديس أبابا في الحرب، حسبما ورد في تقارير عدة، منها تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي، إضافة إلى اتهامات جبهة تحرير تيغراي.
وقدمت الإمارات مساعدات كبيرة لإثيوبيا، ووظفت استثمارات ضخمة، ويقال إن لديها 92 مشروعاً استثمارياً في إثيوبيا بقطاعات الزراعة والصناعة والعقارات والصحة والتعدين، حسبما قال شفاء العفاري، الكاتب والمُحلِّل الإريتري، لموقع Al-Monitor الأمريكي.
وهي كلها أدوات يمكن أن تستخدم للضغط لتليين الموقف الإثيوبي، أو على الأقل تفعيل وساطة أبوظبي التي طُرحت مرةً دون أن تثمر شيئاً، ويمكن مقارنة الموقف الإماراتي السلبي، بقيام الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بفرض عقوبات على أديس أبابا بعد أن أفشلت الوساطة الأمريكية عبر حجب مساعدات أمريكا لها، وكان يُتوقع من الإمارات أن تفعل أمراً مشابهاً، لمساندة مصر، الشقيقة الكبرى، مثلما تفعل في الأزمة الليبية.
فلسطين.. الدفع بدحلان بدلاً من حلفاء مصر التاريخيين
تمثل فلسطين ساحة يظهر فيها تناقض المصالح بين مصر والإمارات، حتى لو بدا الأمر عكس ذلك.
فاندفاع أبوظبي إلى الإعلاء من مكانة القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، ومحاولة تقديمه كزعيم للشعب الفلسطيني بدلاً من الرئيس محمود عباس، يمثل تهديداً خطيراً للمصالح المصرية حتى لو سايرت القاهرة لفترةٍ هذه المساعي الإماراتية التي لم تكلل بالنجاح حتى الآن.
فمحمد دحلان مهما كانت علاقته جيدة بالقاهرة، فهو رجل الإمارات بامتياز، ولن يكون حليفاً حقيقياً للقاهرة ولا غيرها يوماً.
الأهم أن الدفع بشخصية مثيرة للجدل مثل دحلان، ليكون زعيماً قسرياً للشعب الفلسطيني، أمر محكوم عليه بالفشل، خاصةً أن الرجل معروف بعلاقته القديمة والوثيقة مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو أمر من شأنه إضعاف نفوذ القاهرة في فلسطين.
كما أن صعوده المنفّر سيزيد من قوة حركة حماس، لأن قطاعاً كبيراً من الفلسطينيين حتى من غير المؤيدين للحركة الإسلامية، ومن ضمنهم فتحاويون، قد يتقاربون مع حماس إذا صعد الرجل الذي يثير تنسيقه الأمني مع إسرائيل ذكريات أليمة للفلسطينيين.
الأهم أن إضعاف عباس والنخبة الفتحاوية المحيطة به، إضعاف للنفوذ المصري، حتى لو دخلت القاهرة في خلافات مع عباس لفترة.
فمن المعروف أن نشأة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية برمتها يعود الفضل جزئياً فيها لمصر الناصرية، وأن مؤسس الحركة ياسر عرفات كان يُنظر له على أنه نصف مصري (يقال إنه مولود في مصر وليس القدس كما يشاع).
ورغم أن حركة فتح ابتعدت عن مصر فترة، بعد إبرام اتفاقية السلام في عهد الرئيس المصري أنور السادات وبسبب تركز نشاطها في لبنان خلال الحرب الأهلية، فإن لهاث فتح وراء المسار التفاوضي ومعاناتها من أذى النظام السوري، قرباها لمصر مجدداً في عهد حسني مبارك.
وكان هوى فتح التفاوضي متوائماً مع توجهات علاقات القاهرة المتحفظة مع إسرائيل وأمريكا في عهد مبارك (والتي قامت على مبدأ لا حرب ولا كفاح مسلحاً ولا تطبيع شعبياً).
وخلال سنوات مبارك توثقت العلاقة بين النخبة الفتحاوية ومصر، خاصةً أن كليهما كان يرى في حماس والإخوان منافساً داخلياً، إن لم يكن عدواً.
ومن شأن تهميش فتح أو تقسيمها أو إضعافها، من جراء صعود دحلان، تبديد لاستثمار مصري في العلاقة مع النخبة الفتحاوية يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، لصالح خيار أقرب للإمارات إن لم يكن لإسرائيل، خيار من شأنه أيضاً الإطاحة بدور القاهرة كوسيط بين الفلسطينيين والغرب وإسرائيل.
التطبيع الإماراتي مع إسرائيل يغضب القاهرة
ولكن الملف الذي بدا فيه تناقض المصالح بين مصر والإمارات فجاً هو ملف العلاقة مع إسرائيل وتحديداً المشاريع المشتركة بين أبوظبي وتل أبيب لمنافسة قناة السويس التي تعد مصدر دخل شديد الأهمية ولا بديل عنه للقاهرة، خاصة بعد الاستثمارات الباهظة والمثيرة للجدل التي صبها السيسي في مشروع قناة السويس الجديدة.
منذ خروج التطبيع الإماراتي مع إسرائيل للعلن، تقدم أبوظبي نفسها كحليف لتل أبيب، بل عراب للتطبيع بالعالم العربي وممثل لإسرائيل في هذه العملية.
وهو موقف لا تستطيع أن تنافسه مصر، بسبب ضعف إمكاناتها المادية ومكانتها التاريخية المعنوية التي تجعل دورها المفترض هو وسيط بين العرب وإسرائيل وليست نائبة عنها في المنطقة كما تفعل أبوظبي.
وجاءت تغطية الإعلام المصري "الرسمي" إزاء إعلان قرار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل خافتة بشكل ملحوظ، ورأى البعض أن رد الفعل البارد تجاه القرار جاء بناء على توجيهات أمنية، فبدت القاهرة خائفة من أن تسحب الإمارات البساط من تحت أقدامها باتفاقها الأخير في علاقتها بإسرائيل، في وقت دأب فيه النظام المصري على تقديم نفسه كوسيط بين إسرائيل وبقية الدول العربية.
وظهر قلق النظام في تشهيره بلقاء المطرب والممثل الشعبي المصري محمد رمضان مع فنان إسرائيل في دبي.
وبالفعل رصد بعض المحللين الإسرائيليين القلق المصري من أن تفوز أبوظبي بمكانة متقدمة لدى تل أبيب أكثر من التي يحتلها نظام السيسي حالياً، وعبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة.
"إلا قناة السويس"
ولكن يبدو التهديد الإماراتي في ملف العلاقة مع إسرائيل ثانوياً، بالمقارنة بالتهديد الذي تمثله محاولات الإمارات المساس بواحد من أهم الموارد المالية للدولة المصرية في الأعوام المئة الماضية، وهو الحديث الجاري عن مشروعات إماراتية للنقل عبر الموانئ وخطوط أنابيب إسرائيلية منافسة لقناة السويس.
وفي الربع الأخير من عام 2020، وقعت شركة "خطوط أوروبا- آسيا" الإسرائيلية، وشركة "إم إي دي- ريد لاند بريدج ليمتد" الإماراتية، مذكرة تفاهم للتعاون بمجال نقل النفط الخام بين دول الخليج، إضافة إلى مشروعات واتفاقات عدة بين الجانبين في الاتجاه ذاته.
وفقاً لتقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، العام الماضي، فإن حركة التجارة في قناة السويس مرشحة للتناقص بأكثر من 17% مع تشغيل خط "إيلات-عسقلان" بموجب اتفاق إماراتي إسرائيلي.
ولذا بلغ قلق القاهرة منتهاه من تناقض المصالح بين مصر والإمارات واضحاً، في هذا الملف.
وجاء نفي مصر، مؤخراً، "وجود أية تأثيرات سلبية قد تواجهها قناة السويس"، بسبب خطوط ملاحة إسرائيلية إماراتية مقترحة ستمتد بين البحر الأحمر والبحر المتوسط الواقعين جنوب الأراضي المحتلة وغربها، ليبرز هذا القلق.
وأعقب ذلك زيارة وزير البترول المصري طارق الملا لإسرائيل، وهي أول زيارة لوزير مصري منذ فترة، والتقى خلالها مسؤولين إسرائيليين يتصدرهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس رؤوفين ريفلين.
وفي 29 يناير/كانون الثاني الماضي، أعرب رئيس هيئة قناة السويس المصرية، أسامة ربيع، عن "قلق بلاده بشأن مشروع خط أنابيب إيلات-عسقلان بين الإمارات وإسرائيل"، كاشفاً أن "هيئة الأوراق المالية والسلع تجري حالياً دراسات لبحث سبل مواجهة المشروع الإسرائيلي الإماراتي الذي يمكن أن يقلل حركة المرور عبر قناة السويس بنسبة تصل إلى 16%".
وكان تقرير لموقع "المونيتور" الأمريكي قد نقل عن الخبير الاقتصادي والعضو السابق في لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان المصري، بسنت فهمي، أن "أي تهديد لقناة السويس خطير للغاية على المصريين، وللأسف فإن الحكومة تعتمد فقط على ثلاثة مصادر لتأمين العملة الصعبة، وهي قناة السويس والتحويلات والسياحة".
وأضاف فهمي: "بعد أزمة فيروس كورونا وعودة عدد كبير من المصريين الذين عملوا في الخارج -فضلاً عن تراجع السياحة- أصبحت قناة السويس تقريباً المصدر الوحيد للدخل الأجنبي. وبالتالي، فإن الحديث عن أي منافسة إقليمية قد تؤثر عليها، سيثير بطبيعة الحال مخاوف وقلق بين المصريين".
لماذا تفعل الإمارات ذلك مع حليفها المفضل؟
في الأغلب لا تتعمد أبوظبي إحداث تناقض بين المصالح المصرية والإماراتية أو الإضرار بالقاهرة.
ولكن هذه السياسات محصلة لتركيبة النظام الإماراتي وبنيته الأيديولوجية أو بالأحرى اللاأيديولوجية.
بل هي محصلة للنظام العربي الجديد الذي قام بعد فشل الربيع العربي، والذي تمثل الأنظمة في مصر والسعودية والإمارات، أركانه الأساسية.
منذ استقلال العالم العربي وظهور دوله الحديثة، تحاربت الأنظمة العربية وتآمرت بعضها ضد بعض، ولكن ظلت هناك منظومة قيم ولو شكلية، منعت الدول العربية نسبياً من الانحدار إلى صراعات كالتي شهدتها أوروبا على مدار قرون.
كان التطبيع العلني على الأقل خطاً أحمر، دفع الدول العربية (ومنها الخليجية) إلى مقاطعة مصر كبرى دول المنطقة، لأنها عقدت معاهدة سلام مع إسرائيل، هدفها الأساسي استرداد أرضها وليس حباً في الدولة العبرية.
منظومة قيم ساعدت على التفاف العالم العربي حول سوريا ومصر بقيادة عبدالناصر، عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967 رغم الخلافات الكبيرة والشتائم والصراعات والاشتباكات المسلحة أحياناً (مثل الصراع المصري السعودي على اليمن).
ولكن بعد هزيمة الربيع العربي برومانسيته الساذجة، ظهر نظام عربي جديد خلقته إلى حد كبير، الأنظمة الحالية في مصر، والإمارات والسعودية وإلى حد ما نظام الأسد، يقوم على أن الأيديولوجيا الوحيدة هي مصالح الأنظمة أو بالأحرى مصالح رأس النظام.
وأولى هذه المصالح هي العداء للإسلام السياسي المعتدل والديمقراطية، وهو الأمر الذي وحد مصالح أنظمة خليجية مع المؤسسة العسكرية المصرية، واللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا ومحمد حمدان دقلو الجنرال السوداني الذي بدأ حياته تاجراً للأبل وزعيماً لميلشيات الجنجويد، كما تضم هذه المنظومة إلى حد ما، بشار الأسد في سوريا.
باستثناء العداء للإسلاميين المعتدلين والمجتمع المدني والديمقراطية، واستخدام كل الوسائل ومن ضمنها القمع لتحقيق الأهداف، لا شيء يوحد هذه المنظومة القائدة في النظام العربي الجديد.
وتحظى الإمارات تحت حكم الشيخ محمد بن زايد بمكانة مركزية في هذه المنظومة وهي تمثل ذروتها، وضمن ذلك تطلع الباقين إلى تجربتها في إقامة دولة حديثة وناجحة اقتصادياً وصارمة في القمع الداخلي وجريئة في طموحها الخارجي (دون تحمّل تكلفة بشرية كبيرة، بل عبر توظيف الآخرين).
إحدى قيم هذه المنظومة أن مصالح الدولة أو النظام المفترضة والتي أصبحت أكثر عدوانية وتوسعاً بشكل غير منطقي أحياناً، هي البوصلة الرئيسية للعمل السياسي، وبالتالي، فليست هناك مشكلة في التخلي عن مصالح أقرب الحلفاء، من أجل تحقيق هذه المصالح (حتى لو لم تكن مصالح جوهرية).
وهو أمر سبق أن كررته الإمارات مع السعودية، بشكل واضح في اليمن وعدة مرات، تارة بترك معركة الحديدة وتسليم المدينة للحوثيين، وتارة بتشجيع الانفصاليين الجنوبيين الذين أضعفوا حلفاء السعودية باليمن في معركتهم الرئيسية مع الحوثيين، وتارة بالانسحاب الأحادي تاركةً الرياض في مأزقها العسكري والأخلاقي، وسط أسوأ أزمة إنسانية بالعالم.
فما يحدث مع مصر في ملفات إثيوبيا وفلسطين والتطبيع مع إسرائيل وقناة السويس سبق أن طُبق مع الحليف السعودي الأقرب جغرافياً وثقافياً والأكثر قدرة على الرد على أي تصرف إماراتي (بحكم جوار المملكة للإمارات، وإمكاناتها الضخمة)، وهو أمر قد يكون بدأ على استحياء في إعلان المملكة الأخير مقاطعة الشركات العالمية التي تتخذ من بلدان أخرى مراكز إقليمية (نُظر إليه أنه قرار موجَّه لدبي).
لماذا يصمت السيسي عن سياسات الإمارات المُضرة بالمصالح المصرية؟
إحدى الإجابات المرجحة لهذا السؤال وليست الوحيدة، هي أن طبيعة النظام في مصر، أنه ينظر بالأساس لكل القضايا من منظور الأيديولوجيا الخاصة به والتي أبرز نقاطها العداء للإسلاميين المعتدلين والديمقراطية، وهو أمر مازال يجمعه مع أبوظبي.
فالنظام الحالي بمصر بلغ الحد الأقصى في تجاهل المصالح العربية التقليدية، قاطعاً شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه أكثر من السادات ومبارك (وهو بطبيعة الحال عكس مواقف عبدالناصر تماماً)، لكن أيضاً يقلل النظام من تأثير التهديدات على الأمن القومي المصري، ويتجاهلها، كما يبدو جلياً في أزمة سد النهضة.
ولكن أيضاً، يمكن تفسير صمت القاهرة عن تناقض المصالح بين الإمارات ومصر، بأنها لا تملك حالياً، أوراق ضغط على الإمارات، في مقابل ورقة الدعم المالي والسياسي الإعلامي الإماراتي له، وبالتالي فأي رد لن يقلل الخسائر في القضايا الخلافية مع أبوظبي، بل قد يطيح بمكاسب هذه العلاقة.
كما أن المتابع لنهج الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ أن كان رئيساً للمخابرات العسكرية وأصغر عضو في المجلس العسكري الذي حكم البلاد بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، يلاحظ أنه لا يدخل معارك يحتمل خسارتها أو حتى معارك متكافئة، وهو يفضل أن يقترب ممن يعتبرهم خصومه إلى حين اللحظة المناسبة لتحقيق الانتصار بأقل الخسائر.
وبالتالي فإنّ صمت القاهرة قد لا يعبر عن عجز فقط، بل قد يحمل في طياته احتمال أنه صبر استراتيجي يتحين لحظة مناسبة.
وبالفعل ظهر تمايز في المواقف المصرية الإماراتية -ولا نقول افتراقاً- في موقفَي البلدين من التسوية السياسية بليبيا، التي قبلتها مصر، وأعادت العلاقات مع حكومة الوفاق واعترفت بالحكومة الجديدة وهمشت حفتر، مقابل تحفُّظ إماراتي لا يخفى على كل هذا المسار.
عربي بوست