هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010-2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكافة الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت.
شهد السودان في الأعوام الماضية تغيرات سياسية كبرى، أهمها الثورة التي انطلقت في نهاية 2018 وانتهت بإسقاط نظام عمر البشير الذي حكم البلاد 30 عامًا. ومنذ سقوطه عملت القوى السياسية الجديدة والمختلفة على ملفٍ يتفق عليه جميع السودانيين: ضرورة فتح البلاد على العالم.
لكن في السنوات الأخيرة لنظام البشير، كانت قد جرت محاولات إعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة وفتح قنوات اتصال معها، ووظَّف النظام لهذه الغاية شركات ضغط سياسي ومحاماة دولية.
يستعرض هذا التقرير تفاصيل أنشطة الضغط السياسي السوداني، وكيف تواصلت الشركات مع جهات حكومية وقضائية بالولايات المتحدة للتخلص من العقوبات أو تخفيفها، وأحيانًا للحصول على موافقة أمريكية لشراء معدات صناعية احتاجها السودان.
ما العقوبات التي عمل السودان على إزالتها؟
في 11 يناير (كانون الثاني) 2011، وقَّع السودان عقدًا مع مكتب «بارت فيشر – Law Office of Bart S. Fisher» ليقدم تمثيلًا قانونيًّا وخدمات محاماة لحكومة السودان، بجانب خدمات ضغط سياسي وعلاقات عامة.
كان هدف هذا التعاقد باختصار هو الضغط على الولايات المتحدة لإزالة العقوبات عن السودان. هذا الهدف الصعب تطلَّب عملًا دؤوبًا ومكثَّفا من الشركة، على المستوى القانوني، لا على المستوى السياسي وفقط.
واجه السودان مجموعة من المشكلات مع الولايات المتحدة، منها تهم تعاون قديم مع تنظيم القاعدة في هجمات أدت لمقتل أمريكيين، وعقوبات لاستضافتها السابقة لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، ثم توسعت العقوبات بعد اشتعال الحرب الأهلية في إقليم دارفور.
بدأت العقوبات الأمريكية على السودان في 1993، ثم تلقى السودان ضربة جوية أمريكية في 1998 لتقويض أنشطة تنظيم القاعدة في البلاد.
وظلَّ السودان، مع سوريا وإيران، في قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، وكانت العقوبات المفروضة عليه حتى 2017 أكثر من أي عقوبات فرضت على دول أخرى، وتمنع الدول المُعاقبة من تلقِّي مساعدات أمريكية وتحظر عليها صفقات البيع والشراء العسكرية، مع حزمة واسعة من القيود المالية والاقتصادية. ولاحقًا توسعت العقوبات بسبب تطورات الحرب الأهلية في دارفور.
تذكر صحيفة «واشنطن بوست» أن الولايات المتحدة خفَّضت تواصلها الدبلوماسي مع السودان إلى حد بعيد، وربما يفسِّر هذا استئجار الخرطوم لهذه الشركة وغيرها لتمثيل السودان في الولايات المتحدة.
السودان يضغط في عدة ملفات
قاد جهود السودان القانونية والسياسية في هذا التعاقد المحامي الأمريكي الدولي بارت فيشر، وهو مختص بتمثيل الدول في قضايا استثمارية وتجارية دولية، ومثَّل دولًا أخرى غير السودان سابقًا، منها الصين.
مفاوضات لرفع الحظر التجاري عن بعض المنتجات المدنية
عمل فيشر على التواصل مع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، وهي وكالة استخبارات مالية تابعة لوزارة الخزانة، مسؤولة عن إصدار تراخيص وموافقات تسمح لشركات معيَّنة ببيع منتجات للدول المفروض عليها عقوبات، بعد أن تبحث في الطلب المقدم لها من الدول المُعاقبة، وتتوثق من أن المنتجات المطلوبة لا تخرق العقوبات الأمريكية أو تقوِّض أهدافها.
وعلى سبيل المثال، في الفترة الأولى من العقد تواصلت الشركة مع مكتب مراقبة الأصول لتحصل على ترخيص يسمح لشركات التواصل الاجتماعي بالعمل في السودان، مثل «تويتر» و«فيسبوك»، بالإضافة لشركات تقنية مثل «جوجل».
وعملت الشركة على ملفات متعلقة بالطاقة، فطلبت ترخيصًا لاستيراد مادة الإيثانول من شركة «IVG Energy» الأمريكية، المختصة بقطاع الإيثانول. وتُظهر الوثائق الصعوبات التي واجهها السودان لحل بعض المشكلات التقنية، فمثلًا سعت الشركة للحصول على ترخيص لشراء معدات لطائرات الخطوط الجوية السودانية، للاستخدام المدني حصرًا، ووافق مكتب مراقبة الأصول أوليًّا على طلب الشراء من شركة «بوينج».
ومرةً أخرى، تقدمت الشركة بطلب ترخيص لشراء معدات لهيئة سكك حديد السودان من شركات أمريكية مختلفة، لاستعمالها في سكك الحديد بالسودان وجنوب السودان. ولكن المكتب رفض استصدار الترخيص، فقدَّمت الشركة اعتراضًا قانونيًّا ضد الرفض، ووجَّهت رسالة بهذا الشأن لدونالد بوث، المبعوث الأمريكي الخاص للسودان. وفي 2013 قدَّمت الشركة طلبًا جديدًا للحصول على معدات اتصالات وبرمجيات.
بدأت معظم هذه الطلبات منذ منتصف عام 2012، وتابعت الشركة عملها عليها حتى منتصف 2016 على أقل تقدير.
جولات في القضاء الأمريكي
مثَّلت الشركة الحكومة السودانية في نزاعات قضائية خطيرة، أهمها هجمات على أهداف أمريكية تبناها تنظيم القاعدة وحمَّلت أمريكا السودان جزءًا من مسؤوليتها. كانت القضية الأولى هي تفجيرات السفارات الأمريكية في تنزانيا وكينيا في أغسطس (آب) 1998، قتل في هذه الهجمات 224 شخصًا، منهم 12 أمريكيًّا.
واجهت السودان قضية ضدها في المحكمة العليا الأمريكية من أهالي القتلى، الذين يحمِّلون السودان مسؤولية الهجمات بتهم مساعدته للقاعدة. في مايو (أيار) 2020 حكمت المحكمة على السودان بدفع تعويض قيمته 4 مليارات دولار لمجموعة أهالي القتلى، من أصل 10 مليارات مجموع الأضرار، أما السودان فيؤكد عدم انخراطه في أي من هذه الهجمات.
كانت القضية الثانية هي تفجير المدمِّرة الأمريكية «يو أس أس كول»، في ميناء عدن باليمن في أكتوبر (تشرين الأول) 2000، في هجوم انتحاري قتل فيه 17 أمريكيًّا وجرح 39.
نفذ الهجوم تنظيم القاعدة، واعتبرت الولايات المتحدة السودان مسؤولًا عن العملية؛ نظرًا إلى أن منفذيها دُرِّبوا في السودان. في فبراير (شباط) 2020 أعلن السودان قبوله بدفع 30 مليون دولار تعويضًا لأهالي 17 قتيلًا، مع تأكيد الحكومة الجديدة عدم تحمل السودان لمسؤولية الهجمات، وأن هذه بادرة «لإنهاء الاتهامات التاريخية» التي أورثها النظام القديم للسودان.
لكن جميع هذه الأحكام قد تخضع للتغير مع تطورات جديدة في ملف التطبيع السوداني مع إسرائيل برعاية أمريكية، ففي سياق التطبيع غرد ترامب بأن السودان ستدفع 335 مليون دولار تعويضًا عن الهجمات «الإرهابية»، ولتغلق القضايا المرفوعة على السودان نهائيًّا، ولكن هذا غير مؤكد حتى الآن.
استمر تمثيل الشركة للسودان في هذه القضايا منذ بداية التعاقد وحتى نهايته في 28 فبراير 2017، وأخذت نظير خدماتها في ست سنوات مليونًا و93 ألف دولار أمريكي، بحسب وثائق الشركة على قاعدة بيانات وزارة العدل الأمريكية (فارا). انضم للشركة في التمثيل القانوني شركة أخري هي «وايت آند كيس- White & Case»، التي بدأت بتقديم خدماتها في 3 مارس (آذار) 2015، وحصلت على 110 آلاف دولار حتى مطلع عام 2017.
السودان يحاول بناء قوة ناعمة
بالإضافة للعمل القانوني، نفذت الشركة خدمات علاقات عامة للسودان لفتح قنوات اتصال مع المجتمع الأمريكي الأكاديمي والبحثي، فتواصلت مع مراكز دراسات مثل مجلس العلاقات الخارجية، والمجلس الأطلنطي، ومركز وودرو ويلسون للدراسات الدولية، للحديث عن أثر العقوبات الأمريكية على السودان والسودانيين.
وتواصلت الشركة أيضًا مع الجامعة الأمريكية جونز هوبكنز، لتأسيس برنامج تبادل طلابي للتعاون في مشروعات أثرية في السودان. وفي بعض الأحيان تواصلت الشركة مع جهات إعلامية، فنسقت زيارة للسودان للصحافي كارلو مونوز، من صحيفة «واشنطن تايمز»، الذي أجرى مقابلة مع معاوية عثمان خالد، السفير السوداني بواشنطن، يتحدث فيها عن سعي السودان لتكون حليفًا أمريكيًّا في الحرب على الإرهاب.
رافقت الشركة أيضًا وزير الخارجية السوداني الأسبق، إبراهيم غندور، في مقابلة له مع زاكاري وارمبرودت، من موقع «بوليتيكو» الأمريكي.
وفيما يخص ملف الديون السودانية، ناقشت الشركة مراكز بحثية بمسألة ديون السودان والحاجة لإعادة هيكلتها، وتواصلت مع مسؤولين أمريكيين بهذا الشأن، منهم سوسان بيج، المستشارة رفيعة المستوى للمبعوث الأمريكي الخاص للسودان، واجتمعت الشركة أيضًا مع عاملين بمكتب النائب الديمقراطي شارلز رانجل، عضو لجنة الوسائل والطرق، ومع موظفين بمكتب النائب الديمقراطي كارن باس، عضوة لجنتي الخارجية والقضائية بمجلس النواب.
عمل المحامي بارت فيشر على ملف الديون عبر شركة أخرى، هي شركة «أومني- Omni Advisors» التي قدمت خدماتها للسودان بين أغسطس (آب) 2015 وفبراير 2017، وتلقت 383 ألف دولار لخدماتها المنصبة على ملف الديون.
ذكر العقد أن الشركة ستعمل على تحصيل إعفاءات من الكويت والسعودية، وفرنسا وأمريكا، ومن مؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد. وتورد وثائق الشركة أن فيشر زار السودان للاجتماع مع مسؤولين بوزارة المالية السودانية، في 7 أكتوبر 2015، لمناقشة الديون السودانية معهم.
في فبراير 2017، وقَّعت وزارة المالية والاقتصاد الوطني السودانية عقدًا مع شركة «كوك روبوثام – Cooke Robotham» لتقدم الشركة خدمات قانونية للسودان بوضع خطة لإعادة هيكلة ديونه.
نصَّ التعاقد على أن يعمل توماس لاريا محاميًا للوزارة السودانية، وهو محام دولي مختص بالديون وإعادة هيكلتها، ومختص بالاستثمارات في أفريقيا. لا تذكر وثائق الشركة تفاصيل عن العمل غالبًا لكونه عملًا قانونيًّا صرفًا، وحصلت الشركة على 132 ألف دولار أمريكي مقابل خدماتها.
تغير في المشهد في آخر أيام أوباما
ذكرنا سابقًا أن السودان أنهى علاقته بهذه الشركات في نهاية شهر فبراير من عام 2017، ويأتي إنهاء تلك العقود في سياق قرارات لإدارة أوباما في آخر أيامها.
قررت الإدارة تجميد بعض العقوبات الأمريكية على السودان تقديرًا واعترافًا من أمريكا بما قدمه السودان في بعض «المساحات المشتركة»، أهمها تعاون نظام البشير آنذاك مع الولايات المتحدة لمعالجة «مخاطر الإرهاب» و«الصراعات الإقليمية»، على حد تعبير أوباما، في إشارة لتعاون سوداني في ملفين: مكافحة مجموعات تابعة لـ«تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، وإيقاف إمدادات السلاح للمجموعات المتقاتلة في جنوب السودان.
ومن الجهود السودانية أيضًا تقليل الضربات الجوية للحكومة السودانية على دارفور، والسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول لكافة مناطق البلاد. يذكر زاك فيرتين، المسؤول السابق بإدارة أوباما، أن التواصل الدبلوماسي تجدد في 2017 فيما يبدو أنه مراجعة للخط الأمريكي تجاه السودان، وتقييم مختلف لأسلوب الضغط والعقوبات الذي استمر لسنوات طويلة دون جدوى.
وفي تقييم آخر، ذكرت «أسوشيتد برس» أن تلك الانفراجة الضيقة كانت من نتائج تقارب السودان أكثر مع السعودية وابتعادها عن محور إيران، في إشارة لتعاون السودان مع السعودية في حرب اليمن.
لكنَّ جهود السودان لم تنته هنا.
«تسقط بس».. آخر عامين لجهود نظام البشير في واشنطن
بدأت الثورة السودانية في خاتمة عام 2018 باحتجاجات شعبية ما لبثت أن اتسع نطاقها حتى استطاعت إسقاط عمر البشير الذي ترأس السودان 30 عامًا منذ 1989.
فماذا فعل نظام البشير في واشنطن في سنواته الأخيرة؟ هنا تدخل على الخط واحدة من كبرى شركات الضغط السياسي لتعمل لصالح السودان منذ 25 مايو 2017، في الأشهر الأولى لإدارة ترامب، ويأتي هذا العقد قبل شهر واحد فقط من الموعد النهائي الذي كانت ستقرر فيه إدارة ترامب إذا ما سترفع العقوبات عن السودان بشكل دائم أم ستعيد فرضها عليه.
في النهاية قرر ترامب تأجيل القرار، وظلَّت العقوبات معلقة حتى أكتوبر من العام نفسه، ليقرر ترامب رفعها نهائيًّا، ولكن هذه العقوبات تخص السودان في بعض المجالات فحسب، ولا تشمل العقوبات المستهدفة للرئيس المخلوع البشير ومجموعته.
بدأت شركة «سكوير باتون بوجس – Squire Patton Boggs»، عملها فورًا بالضغط على الخارجية الأمريكية، فاجتمعت بستيفين كوتسيس، القائم بالأعمال في البعثة الأمريكية للسودان، الذي عمل في هذا المنصب منذ نهاية 2016 وحتى سبتمبر (أيلول) 2019. ثم اجتمعت مع مكتب المبعوث الأمريكي للسودان، مع باول سوتفين، مستشار أول لرئيس البعثة، ومع ثيودور سيناسو، مسؤول الشؤون الاقتصادية.
مع اقتراب موعد القرار النهائي لإدارة ترامب، وسَّعت الشركة نطاق تواصلها، فبجانب اجتماعاتها مع مسؤولين بوزارة الخارجية معنيين بالشأن السوداني، تواصلت مع وزارة الخزانة أيضًا، وتحديدًا مع كريستيني ماكلور، من مكتب نائب الوزير لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية.
وتواصلت في النصف الثاني من عام 2017 مع مكاتب 11 عضوًا في الكونجرس، منهم السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، عضو لجنة الاستخبارات ولجنة الخارجية، ومع السيناتور الديمقراطي تيم كاين، عضو لجنة الخارجية والقوات المسلحة. وتواصلت الشركة كذلك مع موظفين في لجنة الخارجية بمجلس النواب، ومع اللجنة الفرعية فيها عن أفريقيا.
وللشركة تواصل في الفترة نفسها مع فريق قانوني بالبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، غالبًا لمناقشة إجراءات قانونية مالية. أما عن البيت الأبيض، فلا تذكر الوثائق إلا اجتماعًا واحدًا مع نيكول ويديرشيم، وهي مديرة الشؤون الأفريقية في مجلس الأمن القومي.
في الفترة الأخيرة للتعاقد، تواصلت الشركة حصرًا مع وزارتي الخارجية والخزانة، فاتصلت عدة مرات بستيوارت كارمبتون، مستشار السياسات بمكتب تجارة المخدرات الدولية وإنفاذ القانون بوزارة الخارجية، ومع طارق فهمي، الموظف بمكتب سياسات العقوبات وتطبيقها، ولاحقًا اجتمعت به الشركة برفقة ديفيد ميلي، نائب مساعد الوزير لسياسات التجارة والتفاوض.
وفي وزارة الخزانة، اجتمعت الشركة مع مارشال بيلينجسليا، مساعد الوزير لشؤون تمويل الإرهاب. كان آخر نشاط أفصحت عنه الشركة لصالح السودان في 9 أكتوبر 2018، ثم أنهت الشركة عقدها مع السودان في 20 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أي في اليوم التالي لاندلاع الاحتجاجات في البلاد، وأخذت نظيرًا لخدماتها 658 ألف دولار.
شهدَ عام 2020 تطبيع العلاقات السياسية بين دول عربية عدة وإسرائيل، كان من بينها السودان، وشملت صفقة التطبيع برعاية إدارة ترامب، رفعَ اسم السودان عن لوائح الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات عنه؛ مما سيسمح له بدخول السوق العالمية والمالية من جديد بدون قيود.
(ساسة بوست)