أربع سنوات خلت، أدار فيها " دونالد ترامب" دفة الحكم في أقوى بلد في العالم، حملت كثيرا من المفاجآت والأحداث التي لا يمكن للمرء ان يتصورها أن تحصل وتصبح واقعا حيّا في بلد يدعي التألق في الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان!. سنين عجاف مضت قلبت كثيرا من الموازين والأعراف والقيم على جميع الأصعدة الداخلية والخارجية " الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والأخلاقية والمعنوية" في هذه البلاد وهي أم الحدث، وفي بلدان أخرى ومؤسسات ومنظمات مسّها الضر. منذ أن تسنم ترامب مقاليد الحكم في بلاده بدأ ولم ينته من توجيه صدمات مختلفة في تأثيرها وأثرها على العالم حققها قولا وفعلا، ففي أولى أيامه أغلق أبواب بلاده بوجه عدد من الدول المسلمة التي لا تربطه بها مصالح مرسلا إشارة مفادها أنّ " المسلمين غير مرغوب فيهم في بلدنا"، فكشف عن حقيقته العنصرية. كما كشف أيضا عن شخصيته النرجسيّة التي برهنها بتصرفاته اللاإنسانية الأخرى حينما قطع مساعدات أمريكا المالية عن الدول الفقيرة والمحتاجة من جهة، وعندما فرّق الأطفال عن أمهاتهم من اللاجئات القادمات الى بلده من جهة أخرى. لم تقتصر إشارات غياب الرحمة عنده على الأجانب فحسب بل تعدتها الى أبناء بلده حيث جاهد وأجتهد في محاولة إلغاء قانون الرعاية الصحيّة الأمريكي المسمّى بـ "أوباما كير" فبيّن بوضوح غياب القيم الإنسانية عنده التي كان السياسيون الأمريكيون يتبجحون بها. في هذا التوجه وافقه الكثيرون من الجمهوريين وبدون تردد، مما يوحي بأن ترامب لا يتصرف وحده في هذا المسار الغريب !
رفع ترامب شعار"أمريكا أولا" وترجمه بعدم إحترام المعاهدات والعهود والإتفاقيات الدولية التي أرتبطت بها الولايات المتحدة الأمريكية من قبل، فراح يلغي بها الواحدة تلو الأخرى أو يهدد بإلغائها أو بتغيير صيغتها، حيث ألغى إتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادىء، وإتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية الـ " نافتا" التي تربطه مع المكسيك وكندا. إنسحب من إتفاق" إيران النووي"، ألغى المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة التقليدية، ألغى معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا، وأوقف إلتزاماته المادية لمنظمة الصحة العالمية وأنسحب منها ومن منظمة " اليونسكو" ومن مجلس حقوق الإنسان التابع لهذه المنظمة. شنّ حربا إقتصادية على الصين دامت طوال فترة حكمه مما جعل الإقتصاد العالمي في حالة خوف وعدم إستقرار وترقب مستمر. ضيّع ثقة حلفاء أمريكا من الأوربيين ومن غير الأوربيين الذين كانوا يعتبرون أمريكا المثل الأعلى لهم بما تقول وتفعل ويتبعونها ظالمة أو مظلومة، فأجبرهم على دفع الأموال وهددهم بفرض الضرائب والتخلي عن حمايتهم العسكرية سواء أكان ذلك على صعيد حلف " الناتو" أو على صعيد القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة هنا وهناك في شتى بقاع العالم. إنسحب من " إتفاق باريس للمناخ" وألغى إلتزامات بلاده المتعلقة في المحافظة على سلامة البيئة والحد من الإحتباس الحراري الذي أصبح تهديدا صريحا للبشرية ولسلامة مستقبل الحياة على الأرض. كلّل أخطاءه الخارجية بنقل سفارة " إسرائيل" من تل أبيب الى القدس ضاربا عرض الحائط مبادىء الحياد والحق ومخالفا للقوانين الدولية والنهج العالمي بهذا الصدد فتصرف تصرفا أحاديا منتهجا نهج القهر والقوة ونهب حقوق الآخرين. هذه الأفعال والإجراءات أفقدت ثقة المجتمع الدولي في هذا البلد الذي برهن أنه من الممكن أن ينقلب في ليلة وضحاها على المواثيق والأعراف الدولية من دون سابق إنذار. كما بينت الأحداث بأن ليس لأمريكا حليف دائم أو صديق حقيقي تخلص له وتهتم فيه أمام مصالحها.
أما على الصعيد الداخلي فخرابه لا يقل عن خرابه الخارجي، حيث فصم عرى الشعب الأمريكي وشطره الى نصفين، فكرّس التفرقة وكبّرهوة الكراهية بين أبناء شعبه بعد أن إتبع سياسة التباعد بين من يواليه ومن لا يواليه، حتى أصبح بلده متأهبا لصراع داخلي بين أبنائه! طعن الديمقراطية طعنة ماكنة بأسلوبه الدكتاتوري المتميز وبتصرفاته الغريبة التي أتسمت بتحفيزأعوانه ومناصريه في التمرد على أسس الديمقراطية وأخلاقها، فوصل به الحد الى تحريضهم على مهاجمة رموز الدولة التشريعية ومقراتها مثل " الكونغرس الأمريكي"! طارد الصحف ووسائل الإعلام التي لا تواليه ووصفها بعدوة الشعب. قوّض ثقة الشعب بمؤسسات الدولة العميقة والعريقة حين أتهمها بالفساد والتحيز والضعف كتوصيفاته وإتهاماته المستمرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي المسمّى بالـ " أف بي آي" وللمحاكم والنظام القضائي والدوائر الإنتخابية ونظامها الإنتخابي الذي أتهمه باطلا بالتزوير والإنحياز. تبنى " نظرية المؤامرة" ضده ووجهها ضد كل من لا يشعر بولائه له ذاهبا بشعار" إن لم تكن معي فأنت ضدي" !. شجع وحفز القوى المتطرفة والعنصرية ورفض في الكثير من المناسبات إدانتها وإنتقادها ورفض شجب أعمال العنف والإرهاب التي مارستها هذه القوى. كل هذه الأعمال والتصرفات خلقت تأثيرا وأثرا في حالة المجتمع وبينت مكامن موجودة فيه وأعطت إنطباعا واضحا بأن الديمقراطية في هذا البلد هشة ضعيفة قابلة للإنقلاب والإنهيار إن توفرت الظروف !
الدمارالأكبر الذي سببه ترامب لبلاده هو إهماله وتهاونه في التصدي لوباء "كوفيد19 " الذي لم يكن مؤمن بخطورته وقوة مراسه، بسبب إعتقاداته الباطلة، إذ أعتبره مزحة وضلالة يصنعها الديمقراطيون ضده. تهاونه هذا بإتخاذ ما يلزم في المراحل الأولى للسيطرة على الوباء وإنتشاره رغم نصائح أهل الإختصاص، أدى الى إنتشار الوباء بشكل متميز حتى صارت الولايات المتحدة الأمريكية الأولى في العالم بعدد الإصابات وبعدد المرضى والمتوفين. عدم سيطرته على وباء كورونا الجديد كان العامل المؤثر الأكبر في خسارته للإنتخابات وفوز الرئيس المنتخب "جو بايدن" عليه.
رغم كل هذا الخراب على الصعيد الداخلي والخارجي لدونالد ترامب غير أن قاعدته الشعبية بقيت مخلصة له على طول الخط، حيث أثر فيها بخطاباته وأفكاره وإفتراءاته من جهة، وبشخصيته التي أتصفت بـ " كاريزما الضلالة" التي أثر فيها على نفوس وعقول غير المثقفين وبسطاء الناس والمتطرفين منهم من جهة أخرى. هذا يعني أن تأريخ الديمقراطية الطويل وخبرة ممارستها لدى الشعوب قد لا تمنع الرجوع للدكتاتورية في حالة غياب الوعي والثقافة عند أبناء المجتمع وبتوفر الشخصيّة الدكتاتورية المؤثرة، مما يجعلنا نعيد النظر في أدبيات الديمقراطية ومستقبلها !
تصرفات ترامب الغريبة التي أتسم بها كانت مبنية على نقص الخبرة السياسية والدبلوماسية وعلى أساس مرض نفسي تربوي واضح، خلقت منه شخص يتسم بالمصلحية واللامبالاة والعناد والصلف وقهر المقابل وإستنزافه. شخص الأطباء ترامب على أنه رجل يعاني من " النرجسية الخبيثة"، غير أن أعراض إضافية أبداها ترامب خلال فترة حكمه تشير الى أن النرجسية الخبيثة ما هي الاّ عارض من أعراض مرض نفسي إجتماعي أعمق يعاني منه الرئيس وهو مرض الـ " السايكوباثية". السياكوباث يتسم بصفات غير طبيعية جميعها متواجدة في شخصية ترامب ومنها : تبلد المشاعر والعواطف، العنف والقسوة الشديدة، الكذب، كاريزما الضلالة، جنون العظمة، شبق السلطة والقيادة، قابلية الإقناع، التناقض في الرأي، خلق الوهم والإبتعاد عن إقرار الحقائق للهروب من مسؤولية الأخطاء، غياب مفهوم الصداقة الحقيقية عنده، حب المغامرة، إضافة الى النرجسية الخبيثة المشخّصة مبدئيّا. هذه الصفات المرضيّة المثيرة للجدل يبدو إنها راقت لحوالي نصف الشعب الأمريكي وكأنه كان يبحث عن هذه الصفات في شخصيّة من يقوده، هذه مسألة مهمة تتحمل الدراسة والبحث لما لها من دلالات قد تكون خطيرة على المستقبل !
الرئيس المنتخب جو بايدن قد يختلف في تصوراته وأهدافه وسياساته وشخصيته عن دونالد ترامب، فهو شخص ذو خبرة سياسيّة طويلة، سويّ في التصرف والنفسيّة بشكل عام، لا يتفق مع السواد الأعظم من إجراءات ترامب وتصرفاته على الصعيد الداخلي والخارجي، بل يناقضه تماما. هذا يعني أنه سيحاول أن يبني كل ما هدمه ترامب، لكن عملية البناء أبطأ من إجراءات الهدم بشكل عام، فهل يستطيع أن يُرجع الأمور الى نصابها كما كانت من قبل...!؟. قد ينجح في إصلاح الخلل في كثير من الأمور حيث سيحاول ومنذ الوهلة الأولى إلغاء الكثير مما ألغاه ترامب من عهود ومواثيق ومعاهدات وإتفاقيات وسيوقف الحرب الإقتصادية المحتدمة مع الصين بشكل أو بآخر. لكن تبقى الهوة التي صنعها ترامب بين السياسيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي من جهة، وبين الأمريكيين أنفسهم من جهة أخرى، هي التحدى الكبير الذي سيواجهه في قابل أيام حكمه، حيث يخشى المراقب أن تبقى آثار ترامب السلبية على حالة المجتمع الأمريكي قائمة الى أجل بعيد وزمن أطول ! من جانب آخر فإن الإرث الثقيل، الذي ينتظره بما يتعلق بطامة وأزمات وباء كوفيد19 وآثاره المادية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية، يبقى الهم الأكبر له، إذ عليه أن يسرع في تحجيم الوباء والسيطرة عليه بكل الوسائل والسبل وأهمها توفير وتوزيع اللقاح بالسرعة الممكنة، كي يتفرغ لمعالجة مضاعفات ومخلفات هذا الوباء الثقيلة. طريق طويل وشاق محفوف بالمتاعب والعقبات يجب أن يسلكه رجل أتعبته السنون، خصوصا إذا بقى دونالد ترامب أمامه حرا طليقا يعبث في ساحة المقالب بين أعوانه ومؤيديه دون أن يُحجّم ويلاحق قانونيا وسياسيا، لأن مقالبه ومتاعب أفعاله في طريق بايدن ستبقى قائمة ببقائه....!
* بروكسل