محمد نور الدين
حجبت التطورات المتّصلة بالانتخابات الرئاسية الأميركية واقتحام مقرّ الكونغرس من جانب مناصري الرئيس دونالد ترامب، حدث قمّة العُلا الخليجية التي شهدت مشاركة أمير قطر، تميم بن حمد، في أوّل حضور على هذا المستوى منذ فرض الحصار على بلاده في الخامس من حزيران/ يونيو 2017، كما أقرّت رفع الحصار عن الدوحة. وقد توقّف المراقبون أمام تداعيات القمة على المشهدَين الخليجي والإقليمي والعلاقات مع إيران، إلى جانب العلاقات مع تركيا وحلفائها من «الإخوان المسلمين».
حتّى الآن، لا تعدو القِمة كونها مجرّد «صلحة» بين الدوحة والرياض؛ وباستثناء مشاركة الأميرَين تميم ومحمد بن سلمان، لم يحضر أيّ ملك أو أمير القمة، فيما تخلّى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن المشاركة في اللحظة الأخيرة. لذلك، يمكن القول إنها قمة «صلحة» بين قطر والسعودية في المرحلة الأولى، ربّما تتحوّل إلى قمة مصالحة في مرحلة لاحقة. ويعكس تدنّي مستوى المشاركة في القِمة، التباينات القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي نفسها، وما حادثة مطار عدن الأخيرة إلا آخر مثال على عمق الخلافات بين بعض أطرافها.
قيل الكثير عن أن هدف المصالحة الخليجية هو لمّ الشمل لتشكيل جبهة موحّدة وقوية تمهيداً لعدوان واسع على إيران في أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض. وهذا اعتقاد يبدو في غير محله. فالعدوان على الجمهورية الإسلامية، لا يحتاج إلى مصالحة خليجيّة، كما لا تحتاج واشنطن إلى إذن من الدوحة لاستخدام قاعدة العُديد إذا قرّرت شنّ ضربة. وليست قطر في هذه السذاجة حتّى تستعدي إيران التي وقفت إلى جانبها أثناء الحصار الذي فرضه عليها «أشقاؤها» في الخليج إلى جانب مصر، فضلاً عن أن أزمة الثقة المزمنة بينها وبين جاراتها، ليست مستجدّة.
لكن وجود قطر في موقع الدولة الوحيدة الصديقة لتركيا في المنطقة، يطرح تساؤلات جدية عن مدى تأثير المصالحة الخليجية على تركيا وعلاقاتها بأطراف «رباعي المقاطعة» وبجماعة «الإخوان المسلمين»، وتأثير ذلك على أكثر من ملف إقليمي. لقد شهدت بدايات ما سمّي بـ»الربيع العربي» تحالفاً وثيقاً بين كل من قطر والسعودية والإمارات وتركيا في محاولة لإطاحة النظام السوري. لكن مع مرور الوقت، بدأ هذا التحالف غير المقدّس يتفكّك. أنقرة تتّهم الرياض وأبو ظبي بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016، والأخيرة تبدأ لاحقاً محاولات جدّية للمصالحة مع دمشق، وصولاً إلى إعادة افتتاح سفارتها هناك. لكن الضغوط الأميركية حالت دون إقدام دول خليجية أخرى على خطوة مماثلة. وعملت السعودية، كما الإمارات، على تكثيف نشاطهما في المناطق التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديموقراطية» لمواجهة النفوذ التركي هناك. أما قطر، فظلّت وفيّة لتحالفها مع تركيا الذي تطوّر إلى درجة تعزيز القاعدة العسكرية التركية في الدوحة، فيما قامت هذه الأخيرة بدور المنقذ المالي لأنقرة في أكثر من محطة. وجاءت حادثة اغتيال جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول لتفتك بالعلاقات التركية ــــ السعودية، مع تركيز الحملة على تحميل ابن سلمان المسؤولية المباشرة عن الحادثة، حتى وصلت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مراحلها واستكمِلت بدعوات إلى مقاطعة المنتجات التركية في السعودية. ومع تحسن علاقات الدوحة مع الرياض وأبو ظبي، ينتظر الجميع ما ستؤول إليه علاقات الأخيرتَين ومعهما القاهرة بأنقرة. في الحسابات المباشرة، فإن لكل من تركيا والسعودية مصلحة متبادلة في تطبيع العلاقات بينهما:
1- يتوجّس الطرفان من السياسة الجديدة للرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، والمعروف عنه نفوره من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، وانتقاده لسياسات محمد بن سلمان، ولا سيما في قضية اغتيال خاشقجي. لذا، من مصلحة أنقرة والرياض التصالح وتشكيل جبهة موحّدة تقاوم ضغوط بايدن. كما أن من مصلحة المملكة، أن تظهر، بعد قمة العُلا، أنها بلد يشجّع على المصالحات ولا يستثير المشكلات.
2- للأتراك مصلحة مؤكّدة في علاقات جيدة مع المملكة. وعلى رغم إنجازاتها العسكرية في محيطها الإقليمي وتزايد حضورها في شرقي المتوسط والقوقاز، إلا أن تركيا تعاني عزلة سياسية قاتلة، ولا تجد سبيلاً للخروج منها. سبيل يمكن الرياض وحدها أن تؤمنه، كونها رأس دول مجلس التعاون الخليجي ولها علاقات جيدة مع القاهرة.
3- تعاني تركيا ضغوطاً اقتصادية قوية تؤثّر سلباً على مناعتها الاقتصادية، وخصوصاً في ظلّ انتشار وباء «كورونا». ومثل هذه المصالحة، تضخّ دماءً جديدة في شرايين الاقتصاد التركي عبر عودة الاستثمارات الخليجية.
4- يحكى في تركيا عن دعم خليجي مباشر من السعودية والإمارات للمعارضة التركية، من جماعة فتح الله غولين إلى العديد من الأحزاب الجديدة التي تأسست مثل «حزب المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو، و»حزب الديموقراطية والتقدم» برئاسة علي باباجان المنشقَّين عن «حزب العدالة والتنمية»، فضلاً عن «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، وربّما شخصيات وأحزاب أخرى. وفي حال حدوث انفراج على مستوى العلاقات بين أنقرة والرياض، فإن إردوغان سيتخفف من ثقل هذه المعارضة بما يخدم تسهيل إعادة انتخابه رئيساً في عام 2023.
5- من الجانب السعودي، لا تزال قضية خاشقجي ترخي بثقلها على المملكة وعلى صورة ابن سلمان الذي تأثّر سلباً بالدعاية التركية ضدّه. وفي حال حدوث المصالحة، فإن هذه القضية ستكون حتماً ضمن بنود الصفقة، بحيث تطوي تركيا ملف خاشقجي بما يبرّئ ابن سلمان. وسيكون الرئيس التركي مستعدّاً بالكامل لمثل هذه المقايضة، في مقابل الثمن الكبير الذي سيحصل عليه سياسياً واقتصادياً، ومن خلال المساعدات المالية المباشرة.
6- تبييض صفحة ابن سلمان سيجعل طريق وصوله إلى عرش المملكة أكثر سهولة وخالياً من المعوقات.
7- وقف دعم السعودية والإمارات للحركة الكردية في شمالي شرقي الفرات سيطلق يد تركيا أكثر في تلك المناطق، بما يفتح المجال أمام المزيد من التوسّع التركي هناك.
تبقى نقطة مهمّة وهي مسألة «الإخوان المسلمين»، حيث تخوض الإمارات ومن بعدها السعودية حملة شرسة على المجموعات الإخوانية. والإجابة عن سؤال إن كانت قطر، وبالتالي تركيا ستتخليان عن دعم هذه الجماعات، ليس في حاجة إلى كثير اجتهادات. فأحزاب «الإخوان» في كل المنطقة العربية هي الدعامة الأساسية والركيزة الأكثر أهمية للنفوذ، بل التوسّع التركي في هذه المنطقة. وإذا كان بإمكان تركيا أو قطر الحدّ بعض الشيء من حركة جماعات «الإخوان»، إلا أنهما غير مستعدّتين، تحت أيّ ظرف، للتخلّي عن عنصر القوّة الوحيد لهما في كامل المنطقة العربية.
وهذا ينطبق على ما يمكن أن تكون عليه العلاقات التركية ــــ المصرية بعد المصالحة الخليجية مع قطر. فقضية دعم الأتراك لـ»الإخوان المسلمين» في مصر وتوفير كل الإمكانات لهم للتحرّك داخل تركيا سياسياً وإعلامياً، يثيران انزعاج القاهرة. كذلك، تبرز مسألة رفض إردوغان الاعتراف بشرعية السيسي ووصفه بالانقلابي. وفي حين تبدو أنقرة على استعداد للاعتراف بشرعية الرئيس المصري تحت مبرّرات الواقعية والضرورة، غير أن تخلّيها عن دعم «الإخوان» في مصر وليبيا، أمر لا يبدو وارداً، على رغم الاستعداد لتقييد نسبيّ لحركتهم في الداخل التركي من دون إغفال الإشارة إلى أن اعتراف «حزب العدالة والتنمية» الإخواني في المغرب رسمياً بالكيان الصهيوني، سيشكّل مدخلاً لتخفيف دول التطبيع مع إسرائيل من عدائها لـ»الإخوان». وفي السياق ذاته، فإن أيّ مصالحة تركية مع السعودية والإمارات، وبالتالي مصر، سيكون لها تداعيات إيجابية حتميّة على الملف الليبي، والدفع في اتجاه إيجاد حلّ سلمي لهذه القضية.
أما تأثيرات المصالحة، في حال اكتمالها، على الملف السوري، فستكون رهن اتجاهات السياسة الأميركية الجديدة في سوريا أولاً، وثانياً انتظار ما ستكون عليه توجّهات دول المصالحة. فهل ستدفع الإمارات المتصالحة مع سوريا في اتّجاه مصالحة السعودية مع هذه الأخيرة؟ أم تتغلّب الكفة القطرية ــــ التركية، وتقنع أبو ظبي والرياض بوقف انفتاح الأولى وعدم انفتاح الثانية على النظام السوري والعودة، المستبعدة، للضغط على الرئيس السوري في تذكير لبدايات الحرب على سوريا؟كل هذا رهن بتحوّل «الصلحة» إلى «مصالحة» والتداعيات المترتّبة عليها.
الاخبار اللبنانية