بقلم: فؤاد البطاينة
للتذكير والربط، نحن في شرق الأردن لم نكن نعرف حدودا سياسية لنا مع أي أرض عربية عبر القرون، ولا حدوداً اجتماعية مع فلسطين وبقية بلاد الشام لما قبل سايكس بيكو. والمهم أن سايكس بيكو هذه لم تفصلنا في شرق الأردن عن فلسطين بدولة أو دولتين كما فعلت بسوريا ولبنان وبوحدات الهلال الخصيب إجمالاً، بل أبقتنا موحدين أرضاً وسكاناً كدولة مزمعة لليهود. ومع هذا نتناسى الواقع ونزايد على المستعمر. وما كان إنشاء دولة افتراضية في شرق الأردن إلّا كمستعمرة وديعة لضمان إنجاح المشروع الصهيوني على جانبي النهر طبقاً لوعد بلفور على مراحل ولمآرب أخرى. لكن إنشاءها لم يكن مفروضاً على الأردنيين بدبابة أو سيف، بل كان بتفاهم وقبول وشراكة بين سكان الأرض والأمير الهاشمي بمعزل عن المستعمر، على أساس من تنفيذ ارادة الشعب ومصالحه الوطنية والقومية في دولة تسير نحو الاستقلال الوطني المعادي للمشروع الصهيوني.
وليعلم القاصي والداني بأن مواطني شرق الأردن من بدو وفلاحين وحضر لم يكونوا على علم بملعوب إنشاء الدولة وشروط اقامتها المبنية على دعم تنفيذ المشروع الصهيوني ولا بظرفية الدولة. وإلّا فما كان لها أن تقوم إلا بالسواعد الوطنية الخالصة. ولعل الملك عبدالله الثاني يعلم بأنه ما كان باستطاعة الإنجليز ولا جده الهاشمي أن يقيموا هذه الدولة إطلاقاً بدون إرادة وموافقة أصحاب أرضها وبمشاركتهم بالحكم على أساس سلطة الشعب والأجندة العروبية. فالأردنيون رحبوا بانشائها وبالمُلك الهاشمي وتوارثه دستوريا لا سلطوياً من واقع ثقتهم بالنسب الهاشمي الإسلامي الذي رفع يوماً راية وحدة الوطن العربي.
والهاشميون يعلمون كالإنجليز بأن عشائر وقبائل الأردن كانت ( ويرحم الله ما كان )معتدة بنفسها وبعروبتها وبتاريخها العزيز وعصية على الإخضاع. ولم تكن تعرف أو تتقبل الذل أو الإذعان ولا العبث بتراب الوطن الذي يجري اليوم غدراً واستقواء بالصهيونية، ولا تعرف أو تتقبل الاقليمية التي كرسوها فيما بعد بنفوس شعب واحد على ضفتي جدول، بل كانت هذه العشائر تشارك مُبكراً فرادى وجماعات بمقاومة الصهيونية على أرض فلسطين من واقع وحدة الأرض والسكان والمصير.
لقد كانت السياسة الخارجية محور لعبة الإنجليز والقيادة الهاشمية مع الأردنيين. ومارسها الملك مُبكراً من موقعه المتصل بالدولة المستعمِرة، وبرضا زعماء العشائر بعد أن بنى علاقة صداقة وثقة وتشاركية معهم على أسس من مفاهيم الوطنية والقومية والخلقية لا غيرها. وأصبحوا يتعايشون مع تبريرات القيادة في الكثير من المواقف السياسية المطعون بها وطنيأ وقومياً ويدافعون عنها من واقع الثقة وغياب المعلومة رغم الإنتفاضات والاحتجاجات الشعبية الواعية. وفي هذا السياق مضت عملية بناء الدولة مع الملك حسين وأسهم المكون الفلسطيني الأردني مع اخوتهم الشرق أردنيين إسهاماً مميزا. وكان طموح الملك هو الانقلاب على مفهوم المستعمِر والوصول لمرحلة يتمكن فيها من استدامة مُلك عائلته في دولة كيف ما اتفق. والمحصلة في هذا أصبح الأردن دولة راسخة ونامية في مختلف المجالات رغم الشح والمحاصرة. وامتلكت القيادة الهاشمية من أسباب القوة المادية والإدارية لما يؤهلها لدور إحتكاري في السياستين الخارجية والداخلية وتربعت أولوية المُلك على كل الأولويات
ومع تغييب الموت للزعامات العشائرية المتوارثة والشخصيات الوطنية من الرجال الرجال باشر النظام بالتدخل في بنية العشائر وهرميتها وإخذ يفرض نفسه وثقافته السياسية عليها ويصنع مشايخ لها وللشعب عامة من خلال الوظيفة العامة والحركات الفتنوية في داخلها. إلّا أن الجريمة السياسية التي انطلت ومرت على الأردنيين هي حرمانهم بإصرار وبمختلف الأساليب من تشكيل هوية سياسية وطنية أردنية مرتبطة بالأرض، وهي الجريمة التي اقترفها النظام بالتعاون مع المستعمر الصهيوني.. وكان هذا عملاً استباقياً ينسجم مع مُخططه وظرفية الدولة وأساساً لتصفيتها واستكمال وعد بلفور. ويُلبي بنفس الوقت شروط صمود دكتاتورية القيادة الهاشمية. وبقي الأردنيون لتاريخه بلا هوية وطنية سياسية لصيقة بالأرض ولا جامعة. وهذا سرى بنفس القوة والنمط على المكون الفلسطيني إذ مُنع عليه الحديث بهوية فلسطينية أو أردنية تحت غطاء جميعنا أردنيين. وبقي الشرق أردنيين بالعين للقنبلة الموقوتة وقضوا زمنهم الحساس بلهاية الإقليمية وكأنهم يمتلكون السلطة ويخافون عليها من المكون الفلسطيني كما قيل لهم وسُوِّق. رحم الله خمسينيات القرن الماضي حين كنا لا نعرف للشعب مكونات ولا اختلاف بالمواقف الوطنية والقومية
لقد كان اتفاق أوسلو المفاجئ للملك حسين المَعْلم َ الأكبر في مسار المشروع الصهيوني في فلسطين والأردن والمنطقة. لقد حفَّزَه للمسارعة بسلق وتوقيع معاهدة وادي عربة بصورة تتجاوز اتفاقية سلام الى اتفاقية صداقة وتعاون وتحالف استراتيجي مع الكيان الصهيوني لحماية مُلك عائلته. حيث اعتقد الملك وتوجس من استخدام صهيوني للمنظمة ضد الأردن ومن تؤاطئها على حساب مُلكه والقضية ً. فمعاهدة وادي عربة كان دافعها خوفه من اختطاف منظمة التحرير لدوره ومُلكه. وهذا الدافع للملك ومنتوجه في المعاهدة تلقفه رابين نعمة سماوية بنية الاستخدام الأمثل لأوسلو والمنظمة والإجهاز على مجمل القضية الفلسطينية، إلا أنه سرعان ما قُتل. وبوفاته ووفاة الملك حسين ماتت فكرة الدولة في الأردن ومعها استدامة المُلك للهاشمين، وتطور ملعوب أوسلو لخدمة الإحتلال وشرعنته، وبدأ انهيار مسار القضية الفلسطينية، فلسطينياً وعربياً ودولياً. ونشط تبعاً لذلك المشروع الصهيوني في الأردن من أوسع الأبواب ودخلت الدولة في مرحلة التصفية
وهنا بدأت اللعنة على الأردنيين. حيث أن تنفيذ تصفية الدولة يستلزم أكثر من فقدانهم الهوية السياسية الوطنية الأردنية. إذ كان على النظام أن يتخلص أيضاً من مفهوم الأردنيين الواهم من أن لهم دولة ووطن أو حقوق مواطنة. ولم يجد على الأرض الأردنية إلّا مخلفات العشائر تدعي أو تعتقد بأن لها وطن ودولة وحقوق، حيث أن الجواب للمكون الفلسطيني الأصيل بالمواطنة الدستورية والتاريخية جاهز من تحت الطاولة وهو، هذه ليست ارضكم فلا تتدخلوا. ودخل النظام في حرب مفتوحة على العشائر والدولة معأ خلال العقدين الماضيين بكل أنواع الإجراءات والسياسات والضغوطات ليفهموا الرسالة ويستسلمون لها ولغربتهم عن الوطن. فكانت الهجمة بالفساد على مقدرات الوطن والدولة ومؤسساتها بالبيوعات والديون والإفلاس وتغيير الوصف الوظيفي ومرجعياته لمختلف الأجهزة المدنية والأمنية والعسكرية. وعلى العشائر بالعزل الإداري والتهميش والإستحمار والإستقواء والإذلال، وبالخضوع مع الشعب عامة لسياسة ترسيخ اللّامواطنية والسطو الضريبي والبطالة والافقار والتجويع ومحاصرة كل أسباب رزقهم.
وصحا بعض وعاة الشعب وبعض العاطلين والفقراء من العشائر متأخرين وخرجوا على شكل حراكات مطلبية يشوبها بعض الشعارات السياسية والإصلاحية وشيئا من الإقليمية وكله بعيداً عن جوهر المشكلة وانتهت إلى بيروقراطية ورقية في الصالونات. وأصبحت العشائر أسماء بلا مضمون. وطفا وسرح على السطح بسطاؤها وجهلتها وفاقدي الأهلية الشخصية والعقلية والثقافية والسياسية كالدواب السائبة في جو الاستبداد يستحلون العبودية والذل باسم عشائرهم وبيع كراماتهم الانسانية التي لا يشعرون بها ولا بكرامة الرجال الذين خلفوهم، ولا أتحدث عن عشيرة بنفسها فالنماذج عامة. وكله أمام نظر وناظر مثقفيها وشيوخها الذين تحولوا جميعهم الى خونة وإمعات كأدوات هدم وتفكيك، تقاعدوا ولاذوا بالصمت والتواري حماية لمكاسبهم من شراكتهم بكل انواع الفساد الذي باع مقدرات الوطن السياسية والمادية وليجعلوا من عشائرهم الوهمية مسماراً في نعش هذا الوطن. فلم تكن العشائر في بلادنا مجرد نقيض للدولة والمواطنية والقانون بل استُخدمت في بلادنا ودجنت لتكون نقيضةً لإنسانية الإنسان وفكرة الوطن، وطبولاً صوتية لمغشوش الكلام وأخره بصمتها على بيع الأردن وفلسطين معاً من خلال مجلس نواب مفضوح، ولو كانت هناك ذرة حياء في النظام لأعاد إخراج المسرحية بشيء من غطاء العورة
وبالمُلخص، إن غياب الهوية السياسية الوطنية الجامعة للأردنيين غيَّب مفهوم الشعب ويتَّم الوطن.. وفي هذا الجو يستبد النظام بقرار الشعب السياسي وبمقدرات دولته التي يجري تفكيكها وتركيبها بحلة سياسية صهيونية جديدة. ولم يبق في هذا البلد مؤسسة سليمة ولا شيء له قيمة أو احترام، ولا حجر في مكانه ولا بشر. فوضى وتسيب ورويبضة ولعانة والدين. الأردنيون وحدهم من بين أربعة أقطار حكمها الهاشميون الذين أخلصوا لهم ووثقوا بهم. ووحدهم المجني عليهم بالمقابل. الأردن اليوم معادلة واحدة بثلاثة مجاهيل (دولة وشعب وملك )وإضافة رقم لأحدها صعب. فنحن لا ندري عن مصير النظام وعن الصورة التي سيبقى فيها وهل سيبقي له دور في دولة مهدورة ومع شعب مغدور؟. ولا بناء هوية وطنية جامعة للشعب في الوقت الضائع سهلا مع قلة الرجال وهوس العشائرية الفاضي وانخراط المثقفين والسياسيين في التسامر بالشأن الثقافي والفكري وكأنهم في سويسرا لا في بلد منكوب ووطن يستغيث. مِن أين يأتي الفرج ؟. ولكن ما أعرفه أن الأردنيين والفلسطينيين لن يكونوا هنوداً حمراً فالأمر مختلف جداً في التاريخ والجغرافيا والعقيدة. وهزة بسيطة داخل الكيان الصهيوني كفيلة ببعثرته.