2024-11-28 07:52 م

ياسر عرفات في ذكراه الحاضرة

2020-11-10
بقلم: المتوكل طه
ياسر عرفات؛ الوالد القائد الصديق الذي راوغ الموتَ ونوازله في كل المنازل، بذل لنا يديه اللتين ترفعان سقف دارنا من القدس إلى العودة، دون أن تخبو جمرة الحلم في المدارك الأجيال وأناشيد المدارس.. لكن أعداءه ، منّا ، سيلاحقونه ليدلحوا السوادَ على يديه البيضاء.

وقوّة الرجل ، كانت ، من ضعف شركائه أو لغيابهم العميق، وثغرة سلطانه في بطانته ، وفي المسؤولين الذين اشتطّوا في تبنّي مقولات النقيض، ما جعلها ثقلاً جديداً ينوء به الظَهْر الفلسطيني. 

وقوة ياسر عرفات الزائدة، هي التي غطّت على المؤسسة برمّتها، فكانت أكثر حضوراً وسطوعاً، وهذا ما يفسّر الكثير من التعويم والنتوءات والفوضى، كما يفسر هشاشة المحيطين به وضآلة تأثيرهم، وذهابهم نحو الخلاص الشخصي، بدل البحث عن صيغة عمل مؤصَّل على المؤسسة والقانون . لقد كانوا أنانيين أو هامشيين، وكانت قوته تشبه ضعفهم إلى حدّ كبير.

أما أعداؤه فقد خافوا مكْرَه ونفاذ بصيرته فلاحقوه وحاصروه كما حاصروه من قَبْل ، إلى أنْ ضرب بقبضته على بوابات القدس التي لا تبعد سوى نبضةٍ عن “المقاطعة” التي حاصرهم هم، أيضاً، منها، وشلّ كل خيوطهم، وعمل على تقطيعها والحيلولة دون اكتمال النسيج، الذي كان يستهدف جَدْل حبل المشنقة له أو لفلسطين، لا فرق!

وعبقرية ياسر عرفات ؛ أراها في تمكّنه من غرس بذرة الدولة في أرض الدولة، على رغم وجاهة الرأي الآخر.. لكنها بذرة لن تموت، وستشرب الكثير من دمنا، على ما يبدو، حتى تكبر.. وتظلّلنا! وبالتأكيد لن يتم ذلك تحت شعارات القُطْرية المنتحرة، أو الانغماس في بحر الأعداء مهما بدا صافياً وناعماً، فالقوي لا يناقش، بل يفرض ولمصلحته! والحوار يكون بين الأنداد، وليس بين السادة والعبيد، أو الضحية وجلاّدها، والشمس لن تغطّيها شمس أمريكا ودولة الاحتلال.

هذا الرجل تختلف الآراء بشأنه ، لكنّنا لا نختلف معه على مواقفه التي كان يصرّ عليها، والداعية إلى أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من نيْل حقوقه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

“ختيار” تجرّأ وبلغ بضعاً وسبعين عاماً من عمره، له حضور رنّان، وعينان تخترقان الستائر والغبار. متواضع إلى حدّ العاديّة، ومَرِن إلى درجة الليونة، لكنه لا ينكسر ولا تندّ عنه نقطة ماء إلا بإذنه وكامل رغبته. أمضى عمره مناضلاً في سبيل قضية شعبه، ما جعله رمزاً لنضال هذا الشعب ولمسيرته الصاخبة الدامية. وعلى هذا – على الأقل – وحده يستحق التقدير والاحترام، مهما اختلفت معه أو تباينت بينكما الرؤى والمواقف والتقديرات.

يؤمن بشعبة، وباللحظة المكثفة التي يراها وضوح الشمس، وهي انتصاره الأكيد. ليست له أنياب السلطان الحاكم أو مخالب الدمويين، يقبل الرأي الآخر، ويتّسع للنقد وإشارات الضيق والغضب. 

يحبّ ،بوضوح، الأطفالَ والشعراءَ، ويثق بقدرات المرأة ويقدّمها في مجالسه على الرجال. يبدو لي خجولاً وأقرب إلى التمثال اللحميّ الذي لا تظهر عليه ملامح التعب أو الأحمال أو الكوارث التي تحيط به من كل جانب. فيه حياد البروفايل الجاهز، لكنّ علائم الغضب تبرز كل خليّة في وجهه ويديه، وعندها ينبغي الصمت!

لم نكتشف، بعد، أهمية هذا الرجل، ودوره الحيوي، ومعنى وجوده الذي كان بيننا بالفعل.. لكننا تعلّمنا منه أشياء كثيرة ، تظهر في نغمة صوتنا وفي دفاعنا عن ثوابتنا ، وفي أصابعنا وهي ترتجف إذا ما تذكّرنا ياسر عرفات العصيّ على النسيان والمحاكاة . أظنّ أن هذا الرجل لم ينَم ، كما ننام! ليس خوفاً ، فهو جسور ومشهود له بالشجاعة وثبات قلبه، لكن إنساناً يحمل على كتفيه قضية فلسطين ومقدساتها وشعبها وما يتعرض له، لا يمكن له أن ينعم بحلم خفيف أو بنوم عميق، وهذا يفسر قلّة طعامه، وبساطة مائدته، ومحدودية ملابسه وتعدادها القليل، وغياب الأبّهة عن مكتبه وما يحيط به.

في زهده كبرياء وعمق، وفي صبره متّسع لكواكب وأثقال، وفي صدره هدف يتفلّت مثل النبع بين صخور الصوّان. باختصار ؛ كان يريد أن يُصلّي في القدس المحرَّرة، ليكتب التاريخ أن القدس التي فتحها عمر بن الخطاب وحرّرها صلاح الدين – رضي الله عنهما – قد أعاد تحريرها ياسر عرفات ، وكان هذا من حقّه، وكان من حقّه علينا أن نُعيْنه على ذلك ، رغم كل ما اختلفنا معه عليه، حول قضايا ، على أهميتها ، كانت تبدو ثانوية أمام هذا الهدف العظيم.

خصومه هم غالباً خصوم وأعداء شعبه، ومحبّوه شعوب تهتف لفلسطين ولمقدساتها. بل إن إعداءه سعوا إلى توجيه الإهانات إليه وأعلنوا رغبتهم في كسر شوكته وإذلاله ، رغم أنهم كانوا يعلمون أنه لن يمنحهم توقيعه الذهبي على وثيقة الاستسلام ، بل سيمنح هذا التوقيع لاتفاق السيادة والدولة بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين . ولن يجدوا أحداً غيره -وقتها- يستطيع أن يمهر الاتفاقات، ويثق به شعبه الفلسطيني .لهذا فأعداؤه كانوا عاجزين عن قتله وعاجزين عن ابتلاعه .. وأخيراً أيقنوا بل عملوا على التخلّص منه لأنه عقبة كأداء في طريق تسويتهم المُذلّة لقضية شعبنا ، وكان يلحّ عليهم لننال حقوقنا المشروعة في حدودها المعقولة والمقبولة ، وكان بعض أعدائه لا يريد التخلّص منه لأنه كان الوحيد القادر على ضبط الفلسطينيين وعلى منح موافقتهم على الاتفاقات ، لهذا عذّبوه وسجنوه ووجّهوا غيظهم وإهانتهم له ، وظلّ صابرا ثابتا ، مدركا للعبة الصعبة التي أمست تتفاقم حوله .لكنهم قضوا عليه إذ خرج عن دائرة السيطرة الإقليمية .. وقد فعلوا !

كاتب وشاعر فلسطيني
(القدس العربي)