2024-11-28 11:50 م

فلسطين بين العدالة الالهية والعدالة الانسانية

2020-10-30
بقلم: حاتم استانبولي
الثورة الفرنسية 1789-1799 كانت حدثا تاريخيا مفصليا في التاريخ الانساني ادت الى انهاء دور الدين المسيحي الكاثوليكي السياسي في فرنسا ولاحقا في اوروبا وفتح الباب امام الكثير من الانجازات الحقوقية الانسانية واهمها اعلان حقوق الانسان والمواطن. الثورة الفرنسية وتعاليمها كان لها الاثر الاكبر في الكثير من الانجازات الاجتماعية والحقوقية للانسانية وكان لها الفضل الاكبر في الفصل ما بين العدالة الالهية والعدالة الانسانية . ما قبل الثورة الفرنسية كانت العدالة الالهية توظف سياسيا من اجل مصلحة فئة الاقطاع وتُجَمِل اضطهاد الفلاحين وتعتبره ارادة الهية عليهم قبولها. كافة المعتقدات الدينية منذ بداية الوعي الانساني كانت تتمحور حول مفاهيم الفضيلة وشرورها وهي مفاهيم كانت متغيرة عبر الزمان والمكان وفرضت معاييرها المختلفة مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية ومستوى تطور معرفتها الانسانية . ما قبل الثورة الفرنسية كانت العلاقة بين العدالة الالهية والانسانية محسومة بالمطلق لمصلحة العدالة الالهية التي كانت توظف بشكل مطلق لمصلحة الفئات المُسيطِرة في المجتمع والتي كانت تملك القوة والنفوذ وبذات الوقت كانت العدالة الالهية مفهوم يخضع لمفاهيم فلسفية كانت سائدة في الظروف الزمانية والمكانية المختلفة. على سبيل المثال فان العدالة الالهية عند اليونان والرومان كانت تعكس مفهوم تعدد الاله التي كانت تختار ممثلين لها على الارض من بين الفئة المُسَيطِرة وكانت تُفَسِر الصراعات الانسانية على انها انعكاس لصراع الآله. والناظم لكل المعتقدات كان يحكمه مفاهيم الفضيلة وشرورها. هذا فرض شكلا من اشكال المشاركة في السلطة بين الكهنة ورجال السياسة الذين كانوا يمثلون سلطة المال. هذه العلاقة التشاركية كانت تقوم على اساس تحقيق العدالة الالهية واقناع البشر ان كل ما يعانون منه من شرور رجال المال الاقطاعي هو تحقيقا لعدالة الآله واختبارا لايمانهم. مع تطور العلاقات الانتاجية ووسائلها وانتقال المجتمعات الى الشكل الزراعي اصبح هنالك ضرورة لمركزة انتاجها واعلان ملكية الارض بمراسيم تشرع ملكيتها للالهة ووممثليها على الارض من امراء اقطاعيون ورجال دين. في حين كانت السلطة الاقطاعية متعددة وفي كثير من الاحيان تدخل في تعارض وتناحر على الارض والرق كانت السلطة الدينية اكثر وحدة وهذا اعطاها ميزة الثبات والقوة والسيطرة في حين كانت السلطة الاقطاعية يحكمها التغير نتيجة للصراعات وبحاجة دائمة لشرعية العدالة الالهية . عبر الزمان ظهرت الضرورة التاريخية لوحدة الآله التي انعكست على وحدة السلطة السياسية ومركزة سلطتها في رمزية فردية (فرعونية او امبراطورية او ملكية) واعطاء الطابع الشمولي للمفهوم الالهي الجديد عبر المجتمعات بغض النظر عن اثنيتها. ووجدت السلطة السياسية في المفهوم الجديد للعدالة الالهيه وسيلة للسيطرة على الوعي الانساني باقل تكلفة من الحروب العبثية وبذات الوقت كانت مصلحة لمركزة سلطة رجال الدين وللسلطة السياسية التي استمرت حتى الثورة الفرنسية التي ترافقت مع الثورة الصناعية هذه الثورة التي كانت نتيجة للانجازات العلمية في حقول مختلفة ابرزها المجال الصناعي الذي حقق انجازات انعكست في التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ودفع الى مركزة راس المال الذي اخذ طابعا قوميا وكان مدخلا للحروب القومية الراسمالية وفي هذا الاطار اصبح ممثلوا العدالة الهية يخضعون لسلطة راس المال بل انهم دخلوا في شراكة تابعة معه عبر توظيف راس المال الكنسي. الثورة الفرنسية فكت الشراكة بين رجال الدين والسلطة السياسية واصبحت العدالة الانسانية هي التي تحكم الصراع بين الفئات الاجتماعية. لم تكن المنطقة العربية خارج سياق العلاقة بين العدالة الالهية والعدالة الانسانية بل كانت العلاقة اكثر تداخلا بل ان جميع الحروب خاضها الاسلام على اساس تحقيق العدالة الالهية واعتبر تحقيق هذه العدالة يتضمن تحقيقا للعدالة الانسانية. ومع بداية القرن العشرون وسقوط الخلافة العثمانية وخضوع المنطقة تحت سيطرة الاستعمار المباشر اعيد انتاج طرح مفهوم تحقيق العدالة الالهية لليهودية هذه العدالة كان استحضارها لخدمة راس المال اليهودي الصهيوني الذي التقت مصالحه مع حركة راس المال العالمي واعتبر تحقيق العدالة الالهية لليهودية هدفا يحقق شرط العدالة المسيحية حسب النص الانجيلي في قيام المسيح او المقولة الاسلامية في عودة المهدي المنتظر. وفي هذا السياق اصطدم مفهوم تحقيق العدالة الالهية اليهودية وقسما من المسيحية مع العدالة الانسانية في فلسطين وبدأ الصراع على المكان (فلسطين الذي يشكل رمزية مكانية للعدالة الالهية) من على ارضية شرعية مفهوم العدالة الالهية واخرجت العدالة الانسانية من مفهوم الصراع. الدول الاستعمارية التي حيدت ممثلي العدالة الالهية واخرجتهم من الفعل السياسي في مجتمعاتها كانت حريصة على الاستثمار في العدالة الالهية في منطقتنا بل استثمرت في دعم تاسيس احزاب وتجمعات واستحضار الاتجاهات الدينية واعطائها دورا اجتماعيا وسياسيا وادخلتهم في تعارض مع تحقيق العدالة الانسانية وحرصت على ان تكون هذا الاحزاب او المرجعيات او الاتجاهات منغمسة في الفعل السياسي ووظفتها في تقويض الاتجاهات الوطنية التحررية وفي خوض حروبها الاديولوجية (افغانستان). ومع تطور العلاقة الراسمالية بين النظم القبيلية والعشائرية والعائلية وبين مراكز راس المال الذي كان يُسْتَخْدَم من قبل حركة راس المال الصهيوني للتوغل في المنطقة عبر شراكات غير مباشرة هذه الشراكات التي كانت ترى ان تحقيق العدالة الانسانية يتناقض مع مصالحها الراسمالية واستمرار بقاء نظمها كانت لها مصلحة مشتركة في تنمية الاتجاهات الاكثر رجعية في الاسلام التي لا تعير وزنا للقيم الانسانية التي يتضمنها الاسلام . هذه القيم الانسانية التي كانت سببا في انتشاره وادخالها في صراع مع مكوناتها الاجتماعية والسياسية التي كانت تعير اهتماما لقيم العدالة الانسانية وفلسطين كانت معيارها. وفي هذا السياق فان الدول الاستعمارية وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا والولايا ت المتحدة استثمرت في هذه الاتجاهات وادخلتها في صراع مع حواضنها واخرجت كل ما هو غير انساني تحمله في جوهرها هذا الاستخدام كان له هدفين تقويض الجوهر الانساني للعدالة الالهية بالمفهوم الاسلامي وفي ذات الوقت اضعاف مفهوم العدالة الانسانية وقواها التحررية وفرض وقائع ان العدالة الالهية الاسلامية لا تعير اية قيمة او وزن للعدالة الانسانية. وفي هذا السياق فان الدول الاستعمارية وادواتها المباشرة وغير المباشرة تشرع دعمها واستثمارها في القوى الدينية المسلحة وتعتبرها قوى تحرر وثورة (في سورية وتونس ومصر ....) وتخوض حرب تصفية للقوى الدينية التي تبرز العدالة الانسانية في حين تخوض حربا لا هوادة عليها في دولها . ان انتقاد العدالة الالهية في المجتمعات الغربية مشرع قانونيا تحت عنوان تحقيق العدالة الانسانية التي تعتبرها اولوية دنيوية وتحقيق العدالة الالهية اولوية في الآخرة. هذا المفهوم لا يصرف في منطقتنا وفي هذا السياق تفهم تصريحات الرئيس الفرنسي تحت عنوان محاربة الاسلام الراديكالي الذي هو ثمرة استثمارهم فيه سياسيا وعسكريا وفكريا . كيف يفهم ان تقوم فرنسا التي انطلقت من حناجر مواطنيها تعاليم الثورة الفرنسية من حرية وعدالة واخاء ان تستثمر في نظام طائفي رجعي في لبنان او تدعم نظم قبلية او عشائرية تستند لفكر معرفي يتناقض مع مفاهيم ثورتها وقيمها . كيف يمكن لفرنسا (اليمينية) وحليفاتها ان تدعم قيام دولة تقوم على اساس تحقيق العدالة الالهية التوراتية التي هي التعبير الابرز عن رجعية مفهوم العدالة الالهية التوراتية جوهرها يقوم على اساس قتل وتشريد والغاء هوية العدالة الانسانية الفلسطينية. سلوك القادة الفرنسيون (اليمينيون) ما زال يحمل الطابع الاستعماري الذي يتناقض مع تعاليم الثورة الفرنسية التي كانت مفصلا في التاريخ الانساني. العدالة الالهية لا يمكن ان تتحقق على ايدي ادوات بشرية لا تملك الامكانيات المعرفية لفهم الجوهر الانساني في الفكرة الالهية( قبل استخدامها كاداة للاستغلال السياسي) التي تقوم على اساس تحقيق مفاهيم العدالة التي اجمعت عليها كل الديانات التوحيدية وغيرها باستثناء اليهودية التي تحمل جوهرا عنصريا في مفهوم عليائها وتميزها وضرورة خدمة من هم خارج انتمائها لها وتتعارض مع الجوهر الانساني التسامحي للمسيحية والبذور التحررية في الاسلام. العدالة الالهية في الجوهر لا تتعارض مع تحقيق العدالة الانسانية اذا ما فهم على ان العدالة الانسانية ستكون معيارا لتحقيق العدالة الالهية في الآخرة. العدالة الالهية خاضعة لمعايير سلوك من يحملها وهم في النهاية بشر يصيبون ويخطئون ولهذا لا يمكن ان يكون سلوكهم معيارا لتقييم العدالة الالهية التي لن تظهر معاييرها الا في الآخرة حسب النص الديني التوحيدي والجميع يخضعون للحساب بما فيهم القادة الدينيون والسياسيون. فلسطين هي الحد الفاصل ما بين تحقيق العدالة الانسانية والعدالة الالهية وهي المعيار للعدالة الانسانية بكل قيمها وهذا لا ينفي ان عدالتها لا تحمل طابعا قوميا بل وطابعا انسانيا وحقوقيا واخلاقيا عالميا تتجسد فيها القيم الاخلاقية الالهية التي تتعارض مع الظلم والقتل والتشريد والالغاء للفلسطينيين. عدالة فلسطين لا تسقط بضعف او خيانة حاملي قضيتها بل هي قطب التعارض والتناقض مع الجوهر الغير انساني لراس المال الصهيوني الرجعي و حلفائه الاقليميين والدوليين. من الممكن ان تتراجع في ظل شراسة الهجمة عليها لكن لا يمكن انهائها لكونها تحمل طابعا موضوعيا يعكس التناقض بين قوى العدالة الانسانية وبين شرور حاملي الفضيلة الاستغلالية الاستعمارية الصهيونية وتابعيهم.