هو موسم المسارعة العربية نحو إسرائيل والتطبيع معها وتطبيع عدوانها، ليس على الشعب الفلسطيني فحسب، بل وعلى المنطقة وشعوبها على وجه العموم. تشعر بعض الأنظمة العربية بأنها في سباق مع الزمن، فالانتخابات الأميركية على الأبواب، ودونالد ترامب قد لا يفوز بفترة رئاسية ثانية. يريد ترامب مزيداً من اتفاقات الإذعان العربية أمام إسرائيل، يسمّونها اتفاقات سلام، علها تفيده في الانتخابات على بعد أقل من أسبوعين، أو على الأقل أن تسجّل في إرثه الرئاسي إن خسرها. أما الأنظمة اللاهثة وراء رضا ترامب، فتريد أن تحصل منه على مكاسب آنية أو ضيقة، قد لا يكون المرشح الديمقراطي، جو بايدن، في وارد عرضها عليهم. أشبعت الإمارات والبحرين شهوة استرضاء ترامب وتل أبيب، وتدندن السعودية وغيرها الموال ذاته. والآن، يبدو أن نظام الحكم في السودان بدأ هو الآخر بقرع طبول الإذعان، وقد نراه يوقع "اتفاق أبراهام" مع إسرائيل قبل الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أي اليوم الذي تجري فيه الانتخابات الرئاسية الأميركية، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك!
صحيحٌ أن النظام الحاكم في السودان جاء بعد ثورة شعبية أطاحت نظام عمر حسن البشير، العام الماضي، واضعة حداً لثلاثين سنة من تحكّمه في البلاد والعباد. ولكن نظام الحكم اليوم ليس ديمقراطياً، بل يسيطر عليه العسكر تحت لافتة "مجلس السيادة". أما الحكومة فما هي إلا ديكور تجميل، حتى الولايات المتحدة، والدول الغربية، التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية، لا تطالب بتمكينها. وبالمناسبة، هؤلاء العسكر ليسوا إلا صنائع نظام البشير نفسه، إلا أنهم قفزوا من المركب قبل أن يجرفهم الطوفان، هذا إن لم يهندسوه هم أنفسهم، بدعمٍ خارجي، للتخلص من القبطان المشترك معهم في الفساد. ومن ثمَّ، فإن أي حديثٍ عن قرار "سيادي" للمضي في التطبيع مع إسرائيل، كما تزعم أصوات النشاز المحسوبة على المحور السعودي - الإماراتي، إنما هو محض افتراء.
الآن، تترقب تل أبيب، أو القدس، إذ لم تعترض لا الإمارات ولا البحرين على الاعتراف بدولة إسرائيل وعاصمتها القدس.. تترقب لحاق الخرطوم بقطار المذعنين. نفتح قوساً هنا، قبل الاستطراد، لشرح داعي الإصرار على وصف الاتفاقات مع إسرائيل عقود إذعان. هذا ليس رأياً قِيمِيّاً منحازاً، بل هي قناعة عبر عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بكل وضوح، خلال حفل توقيع الاتفاقين مع الإمارات والبحرين في واشنطن الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول). "لقد كرست حياتي لتأمين مكانة إسرائيل بين الدول، ولضمان مستقبل الدولة اليهودية الوحيدة القائمة. لتحقيق هذا الهدف، أعمل على جعل إسرائيل، قوية، وقوية جدًا. لقد علمنا التاريخ أن القوة تجلب الأمن، والقوة تجلب الحلفاء، وفي المحصلة، كما قال الرئيس ترامب غير مرة، القوة تجلب السلام". هذا ما قاله نتنياهو أمام "شركاء السلام" المسارعين إليه، أو الذين جرى جلبهم أمامه.
إذن، تنتظر إسرائيل انكسار رمزية الخرطوم، العاصمة التي أطلق منها العرب المهزومون في حرب يونيو/ حزيران عام 1967، لاءاتهم الثلاث: "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل". ذلك زمنٌ ولّى وانقضى، فقد مسح العرب لاءاتهم وأصبحت لاؤهم نعم! وحتى لا نمضي بعيداً في الحديث عن رمزية الخرطوم في سياق الصراع مع المشروع الصهيوني وكأنها لم تضع بعد، من المهم التوضيح أن الحديث هنا هو عن تدشين انكسار تلك الرمزية رسمياً، أما عملياً فهي قد انكسرت منذ أشهر خلت.
في شهر فبراير/ شباط الماضي، هرول رئيس مجلس السيادة، الجنرال عبد الفتاح البرهان، إلى أوغندا للقاء نتنياهو بترتيب من الإمارات. وبعد أيام، فتح السودان مجاله الجوي أمام الطائرات التجارية الإسرائيلية. وفي أغسطس/ آب، حطت طائرة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في مطار الخرطوم قادمة من تل أبيب. الأجواء التي فتحها السودان أمام إسرائيل هي ذاتها التي انتهكتها طائرات حربية إسرائيلية، على الأقل أربع مرات، أعوام 2009، 2011، 2012، و2015، حيث شنت غارات على مدن سودانية، بما فيها الخرطوم نفسها (2012)، قضى فيها مواطنون سودانيون. دع عنك، طبعاً، مساعدة إسرائيل الحركات الانفصالية في ذلك البلد، والتي مزّقت وحدته جغرافياً، ومع ذلك، يجادل بعضهم في السودان بأن لا مشكلة مباشرة لديهم مع إسرائيل!
يترّقب السودان هذه الأيام رفع اسمه من القائمة الأميركية لـ"الدول الراعية للإرهاب" والتي أضيف إليها عام 1993 بتهمة إيواء جماعات إرهابية، مثل حركة حماس وحزب الله. تلك القائمة بحد ذاتها إحدى أدوات الإرهاب والإخضاع الأميركي عالمياً، إذ تجد أي دولة نفسها مدرجةً فيها تعاني عزلةً عن الاقتصاد العالمي، والإحجام عن الاستثمار الأجنبي فيها، وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وبالتالي انهيار اقتصادها. يوم الاثنين الماضي زفّ لنا ترامب عبر تغريدة "أخباراً رائعة"، فلقد "وافقت الحكومة السودانية .. على دفع 335 مليون دولار لضحايا الإرهاب من الأميركيين وعائلاتهم". وأعلن مزهواً: "بمجرد الإيداع، سأرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب". أما الإرهاب المتهم به السودان، فهو المسؤولية عن تفجير السفارتين الأميركيتين في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998، جرّاء استضافته زعيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، بضع سنين، ثم تفجير المدمرة الأميركية "كول" في ميناء عدن عام 2000. والمفارقة هنا أن واشنطن ردّت عام 1998 بقصف مصنع الشفاء للأدوية في العاصمة السودانية بصواريخ كروز، بذريعة أنه ينتج أسلحة كيميائية، كما ادّعت أن له صلة بتنظيم القاعدة. وعلى الرغم من أن التحقيقات لم تثبت دوراً للسودان في التفجيرات، كما أنها فنّدت المزاعم الأميركية بشأن مصنع الشفاء، وأكدت أنه ينتج فقط الأدوية، ويوفر ثلثي استهلاك السودان منه، وعلى الرغم من سقوط قتلى وجرحى سودانيون أبرياء جرّاء تلك الغارات، إلا أن هؤلاء لا بواكي لهم. الأدهى أن حصار السودان وخنقه منذ 1993 لا ينظر إليه جريمة أميركية يستحق التعويض عليها. أما زال هناك من يشكّك بعقود الإذعان والغَرَرِ؟
يقول مسؤولون أميركيون إنه في حال تمَّ رفع اسم السودان فعلاً من قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، بمعنى ألا يحاول الكونغرس تعطيل ذلك، فإننا قد نشهد مراسم توقيع اتفاق جديد بين الخرطوم وتل أبيب في واشنطن خلال أيام. الأنكى أن تجد بين المثقفين السودانيين من يحرّض على ذلك ويزيف الحقائق. قبل أيام، كنت مشاركاً في برنامج على إحدى القنوات العربية، وكان معي ضيفان آخران من الخرطوم. ساءني أن يزعم أحدهم أن غالبية الشعب السوداني تؤيد التطبيع مع إسرائيل، وأن من يرفضون ذلك هم هوامش. ولا يمكن أن يكون كلامه صحيحاً، ويكفي أن يشار هنا إلى نتائج "المؤشّر العربي" التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤخراً، وفيها أن 88% من العرب يرفضون أن تعترف بلدانهم بدولة الاحتلال الإسرائيلي، مقابل 6% يرون عكس ذلك. أما سودانياً، فإن 13% فقط من السودانيين يوافقون على اعتراف الخرطوم بدولة الاحتلال، مقابل رفض 79% منهم ذلك.
يدفعني ما سبق إلى تطوير نقطة أشير إليها آنفاً، نحن لسنا أمام نظام غير ديمقراطي في السودان، فحسب، جاء بعد ثورة شعبية، بل إننا أمام عصابة اختطفت ثورة وبلداً، وتجيّر كل شيء لمصالحها الخاصة. لو كانت عقود الإذعان والغرر مع إسرائيل تأتي بالسمن والعسل لكان الأوْلى أن يشهد الحال في مصر والأردن على ذلك. لكن الحقيقة المُرَّةَ أن مثل تلك الاتفاقات لا تأتي بخير لشعوبنا، بل هي مصمّمة لإطالة أعمار أنظمة القمع. والسودان تحت حكم الفاسدين، كغيره من دول عربية أخرى، لو ضخخت به مئات المليارات من الدولارات، وأعفيته من ديونه كلها، كما يتعشّم أصحاب القرار، فإن شيئاً لن يتغير ما دامت الثقوب السوداء تلتهم كل شيء.
(العربي الجديد)