2024-11-28 07:45 م

عالمنا اليوم، ونظرة إلى الغد

2020-10-15
بقلم: سمير الفزاع
منذ أمد ليس بالقريب، ومنطقتنا والعالم يعيشان حالة مروعة من عدم الإستقرار الشامل، وخلل هائل في موازين القوى، العنصر الأساس في رسم شكل العلاقات والنظام الدوليين... لينجم عنها: تمزق عدد كبير من الدول والتحالفات وظهور أخرى، وانزياحات تاريخية في خرائط دامت لعقود، وهجمة متوحشة لفرض سيطرة نموذج سياسي-اقتصادي-ثقافي... واحد على كوكبنا، واندلاع عدد كبير من الحروب الاقليمية شنها هذا النموذج "منفرداً أو ضمن تحالف اقليمي-دولي" عندما يفشل في إنفاذ مخطط ما أو عند استشعاره تهديداً وشيكاً لمصالحه أو حتى عندما يرى "ضرورة" في استهلال مشروعه لإعادة "هندسة" دولة أو اقليم ما "على الساخن"... . لقد أراد أصحاب هذا النموذج تحويل دول العالم بأسره، الى ولايات ومقاطعات تأخذ موقعها وشكلها ودورها وفقاً لمشيئة المركز أو "الحكومة العالمية" فيه. لقد تميّز هذا النظام الدولي الجديد ( القطب الأوحد) بخصائص فاقعة وسمته عميقاً خلال سعيه لفرض قيادته، خصائص دفعت البشريّة وشعوب منطقتنا خصوصاً، ثمنها دماً وخراباً وتسلطاً وتخلفاً وتمزيقاً... يصعب تخيله، ومنها: عولمة نظام النهب النيوليبرالي، شرعيّة القوة، تفريغ المؤسسات والمواثيق الدولية من محتواها حيناً والإنقلاب عليها أحياناً أخرى، اطفاء الصراعات والنزاعات وفقاً لمستجدات الوضع الدولي، سحق التمايز الحضاري-الإنساني، العبث بالخرائط واعادة تشكيل الأمم والشعوب عبر مقولات الهندسة الإجتماعية-السياسية... . لعقدين من الزمن، كانت هذه بعض السمات الأساسية لعالمنا، 1985-2005. لكن مع بداية تحول الغزو الأمريكي للكوكب إلى عبء شديد الوطأة يصعب الاستمرار بتحمل أثقاله منفرداً، وتعثر هذا الغزو في عدد من الميادين، وخصوصاً في العراق وافغانستان، على يد دول وقوى اقليمية قليلة قاومته دون أي غطاء دولي أو اقليمي واسع حتى، حاولت واشنطن تشتيت الجهد المقاوم واستنزاف قدراته، ومنح مشروعها للسيطرة العالمية دفعاً جديداً، واثبات قدرتها على شنّ الحروب مباشرة أو عبر أدواتها... فأمرت الكيان الصهيوني بشن عدوان تموز 2006. لكن النتائج كانت أسوأ من غزو العراق في بعض جوانبها، ليأتي تقرير بيكر-هاملتون بوصفة تحاول انقاذ ما تبقى من فرص القيادة و"الهيبة" الأمريكية في المنطقة والعالم، ولكن صوت العقل لم يعد مسموعاً في عاصمة استوطنها الهوس الإمبراطوري. بدأ الانكشاف الامريكي الاستراتيجي في المنطقة والعالم يأخذ أشكالاً أكثر عمقاً واتساعاً وجلبة، وصار الحديث عن هيمنة نظام الأحادية القطبية في العالم موضع شك. لم تكن دعوة الرئيس "بوتين" من ميونخ 2007 لإرساء نظام دولي جديد تسوده العدالة والتعاون واحترام المصالح المشتركة، وبعيداً عن تفرد دولة واحدة بادارة شؤون الكوكب، الا اشارة سياسية تحاكي وقائع وحقائق بدأت تفرض نفسها كمقدمات لتشكيل نظام دولي جديد، كانت تباشيره الحاسمة تأتي من مشرقنا العربي تحديداً. لم يكن إنكار الحقائق والوقائع، والهرب إلى المزيد من الحروب وسفك الدماء، للتعمية على الرعب المتنامي من فقدان الموقع والمكانة... كل ما قدمه "النموذج الأمريكي" للعالم، بل زاد من توحشه، ورفع من وتائر نهبه، وتضاعفت وقاحته واحتقاره للبشرية جمعاء ولم يسلم من هذا التوحش والنهب والوقاحة والاحتقار حتى أقرب حلفاء واشنطن، وأثمن أدواتها... . ويمكن فهم بعض من خلفيات هذا "السُعار" الأمريكي عبر التالية: 1- آليات الصعود والهبوط: كما الإنسان، تمر الإمبراطوريات بمراحل عمريّة معينة، وكما يكون الصعود سيأتي الهبوط حتماً... وهذا ما يخيف واشنطن، التهديد بالنزول عن "القمّة". 2- ثمن الهبوط: لا ينحصر "وجع" الدول والإمبراطوريات في خسارة "القمة" على "ألم" خسارتها فقط، بل غالباً ما تكون تداعيات هذه الخسارة أكثر إيلاماً وأشد كارثية، خصواً تلك الإمبراطوريات والدول التي "أفرطت" في استخدام مفردات القهر والإستبداد والاستغلال على حساب أدوات الاستعمار "الناعمة" والخبيثة لاحكام سيطرتها وقيادتها. في هذا السياق، أذكّر هنا بخطرين داهمين على واشنطن عند خسارتها موقعها الإمبراطوري: أ-يبدأ تحلل الإمبراطوريات من الأطراف، وغالباً ما تتناسب الأفعال "الإنتقامية" من هذه الإمبراطوريات وأدواتها وعملائها مع شدة توحشها/هم واستبدادها/هم، وكلنا يعرف مدى تطابق هذا النوع من الصفات على أمريكا وعملائها. ب-أحد أهم الوشائج التي تُبقي على "الكيان الأمريكي" قائماً مستمراً ثنائية القوة-الوفرة، وعندما تتصدع القوة وتتراجع، وتنتكس الوفرة والبحبوحة لأزمات وندرة... سيصير تماسك "المجتمع الأمريكي"، وبقاء كيانه موحداً أمراً شبه مستحيل... وهذا يساعدنا على اكتشاف بعض من خلفيات: انتخاب "البلطجي" ترامب، وحالة فقدان التوازن السياسي-الاجتماعي والاضطرابات الشعبية، ولماذا يبدو سيناريو الحرب غير التقليدية خيار أميركا "الوحيد" مستقبلاً خصوصاً وأنّنا أمام "بلد" يفتقر الى العمق التاريخي والحس الامبراطوري. 3- نقاط الارتكاز والسيطرة: عملت واشنطن على اضعاف واحتواء مراكز القوى الاقليمية والدولية المنافسة والعدوة على حدّ سواء، ولكن النتيجة كانت بأن القوى المناهضة لها، هي من تضاعفت قوتها وقدراتها على حساب واشنطن، وعلى حساب حلفائها الدوليين والاقليميين الذين أضعفتهم هي ذاتها في كثير من الأحيان لإرواء "عطشها" المزمن للسيطرة والاستعباد والنهب. وهنا يمكن الحديث عن وجهين جديدين للمأزق التاريخي الأمريكي في منطقتنا والعالم: أ-وصلت واشنطن في سعيها المحموم لإدارة العالم إلى مأزق إدارة أزماتها مع ذاتها ومع العالم، خصوصاً مع تراجع قواها وقدراتها لأسباب بات معظمنا يعرف أغلبها، وهي تمر اليوم في مخاض "إعادة إنتشار" سياسي-إقتصادي-عسكري "عسير". ب-في حال أغفلنا خيار الحرب، وخصوصاً غير التقليدية، ستكون مجبرة على الرضوخ لتسويات وتفاهمات إقليميّة ودوليّة تتنازل عبرها عن جزء من موقعها ومصالحها... لصالح منافسيها وأعدائها، ما يعني المزيد من الضعف والتراجع لها، والمزيد من القوة والتحرر لأعدائها ومنافسيها. وبذات الوقت، ستجد نفسها أمام تحدي "ضبط" أوزان وأحجام حلفائها الدوليين والإقليميين ضمن بيئة استراتيجية دولية متقلبة... بينما هي تعاني من ثنائية الضعف البنيوي وأعباء إعادة الانتشار الجيوسياسي من جهة، وتنامي مشاعر المنافسة واستحضار تجارب التاريخ وعقده بين حلفائها وأدواتها، وصراعهم المتنامي على وراثتها وخِلافَتِها... من جهة ثانية، وما الاشتباك الفرنسي-الصهيوني-المصري-السعودي-الاماراتي-اليوناني... مع تركيا-قطر-ليبيا-قبرص-وربما بريطانيا من خلفهم... الا نموذج على هذا التنافس، وإن كان جميعهم يدور ضمن الفلك الأمريكي حتى اللحظة... وللإشارة الى واحدة من أوجه وشكل هذا الصراع، أُذكر بأن بريطانيا جاءت بسفيرها السابق لدى تركيا، ريتشارد مور، رئيساً لجهاز المخابرات الخارجية (MI6)، وأما فرنسا فقد عينت سفيرها السابق في لبنان برنار إمييه، مديراً عاماً للأمن الخارجي (DGSE). 4- بناء تحالفات ملأ الفراغ: أيّاً تكن المسميات، صفقة القرن أو نيتو شرق أوسطي أو اتفاقات "أبراهام" وما يتفرع عنها من مخرجات كالتطبيع الاماراتي-الصهيوني، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركيّة-الليبيّة، ومنظمة شرق المتوسط للغاز... إن هي إلا صيغ أمريكيّة –وإن بدت متناقضة- لتحقيق مجموعة من الأهداف: أ- دمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وتحويله الى كيان "طبيعي" فيها. ب- إدامة سيطرتها على مصادر الطاقة وطرق نقلها. ج- منع تمدد القوى المناهضة والمنافسة لواشنطن. د- تعزيز "مناعة" حلفاء واشنطن في المنطقة والعالم عبر تحالفات سياسية-اقتصادية-عسكرية تسهل عليها اعادة انتشارها، وتخفف من مخاطر ملأ أعدائها للفراغ المتشكل، وبناء جبهة/ات عسكرية-اقتصادية تدعم موقعها المتآكل وقدرتها على التفاوض والمساومة... . ختاماً، من المفيد التذكير ببعض المحطات التاريخيّة ذات الدلالة في مقاربة المشهد الدولي-الإقليمي الحالي: 1-تقوم تركيا أردوغان بذات الدور الذي لعبته إبان رئاسة "مندريس" لها، حيث كانت الشريك الإقليمي وصلة الوصل بين حلفي النيتو وبغداد تحت ستار الدين والخلافة العثمانية. 2-ما زالت محميات جزيرة العرب مستمرة بحربها الضروس على القوميّة العربية، والعواصم التاريخية للعرب، واليمن، والقضية الفلسطينية... بالشراكة مع أعداء الأمة في واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب... . 3-حافظ الإسلام السياسي المُصنّع غربيّاً على موقعه في خدمة الاستراتيجيات الغربية. 4-بعد خروج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني، يُشنّ "العدوان الثلاثي" على آخر عواصم المشرق، دمشق، خصوصاً وأنّ بغداد ما زالت "محكومة" بدستور مندوب الاحتلال الأمريكي "بريمر". 5-كما اسهمت دمشق في اسقاط حلف بغداد، ومنع محميات الجزيرة العربية من وصل الداخل العربي بسواحل المتوسط خدمة لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" عبر مقولات "الربيع العربي"... تحارب وحلفائها، ليس فقط لعكس موجات الحرب الكونية نحو مصادرها، بل وللإرتقاء بالخلل في ميزان القوى والنظام الدوليين الى نظام دولي جديد لن تكون واشنطن مركزه الدولي الوحيد، ولا تركيا والكيان الصهيوني ومملكة آل سعود قواه الإقليمية الناظمة.