عندما تتحول «العداوة» إلى «فرصة»، وعلاقات «الصراع» إلى «دفء وحميمية»، وتُشرع الأبواب لاستضافة وفود المحتل ومواطنيه، ويضاف فوق ذلك كله بناء كنيسٍ، وافتتاح مطعم، وعقد بطولات؛ فلا عجب أن يُتوَّج هذا كله بصك تطبيع يُسقط آخر ورقة توت عن العلاقات الإماراتية- الإسرائيلية السرية، مفتتحًا فصلًا جديدًا أمام الأضواء، وعلى الملأ.
ولا يمكن أن يُذكَر ملف التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، دون أن يبرز اسم السفير الأربعيني، يوسف العتيبة، الذي يعده المحللون «عرَّاب» العلاقات الإماراتية الإسرائيلية ومهندسها؛ إذ لم تخلُ خطوة مهرولة تجاه إسرائيل من وجوده، ولعل آخرها ما استبق به إعلان التطبيع رسميًّا من مغازلة الإسرائيليين بمقال مكتوب باللغة العبرية في صحيفة «يديعوت أحرنوت» في الذكرى 51 لحريق المسجد الأقصى، أسهب فيه مدحًا واستجداءً، معددًا نقاط التقارب بين بلاده وإسرائيل. فمن هو هذا «العرَّاب»؟ ومنذ متى وصفحات عقد التطبيع تُمهَر بتوقيعه؟
بصمة العتيبة.. حيثما كان التقارب مع إسرائيل يكون السفير الإماراتي!
الطموح في «مستقبل أفضل للشرق الأوسط، وظهور جيل جديد يخلع عن نفسه ربقة الأفكار المتحاملة على إسرائيل»، كما عبر عنه العتيبة في مقاله الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرنوت» الإسرائيلية احتفاءً بتطبيع بلاده علاقتها مع إسرائيل، كان أحد أهداف السفير الأربعيني منذ دخوله معترك السياسة، وتحديدًا منذ أصبح سفيرًا لدولة الإمارات في الولايات المتحدة عام 2008م.
ولم تخل خطوات التقارب الإماراتية الرسمية باتجاه إسرائيل من وجودٍ للعتيبة، سواء بشخصه أو بمباركته، إذ شهد على سبيل المثال ولادة مشروع ترامب (صفقة القرن) الذي أعلنه في المؤتمر الصحفي يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2020م، وكان ثالث السفراء العرب الذين حضروا المؤتمر. وفاخر في مقاله الشهير في «يديعوت أحرنوت» بعمله الحثيث مع إدارة أوباما السابقة من أجل بناء الثقة في إسرائيل عبر تحسين علاقاتها بالدول العربية مقابل مزيد من الحكم الذاتي للفلسطينيين.
وقبلها؛ لم يُخفِ العُتيبة سعادته بافتتاح أول مطعم إسرائيلي في الإمارات، يوم الرابع من يونيو (حزيران) الماضي، حين قال: «أطلقت خدمة طعام كوشير (الطعام الحلال لليهود) جديدة في دبي لخدمة اليهود المتزايدين، وهو أول مجتمع يهودي جديد في العالم العربي منذ 100 عام».
وبينما شدد على عداء بلاده لكلٍّ من «حزب الله» و«حماس»، أكد في الوقت ذاته انفتاحها نحو الجالية اليهودية الآخذة في الازدياد في الإمارات، حتى إن بلاده تسعى لافتتاح كنيس يهودي، من المتوقع أن يفتتح في 2022م.
واستشهد العتيبة بدعوة إسرائيل للمشاركة في معرض «إكسبو دبي 2020»، المزمع إقامته العام القادم، بوصفها وسيلة دبلوماسية تعزز الإمكانات وتغير الديناميكيات تجاه إسرائيل؛ إذ لم يجد ما يمنع من مشاركة أي دولة في العالم هذا الـ«إكسبو الدولي»، بصفته خطوة أخرى نحو تشكيل منطقة «بعيدة عن الإرث التاريخي المحمَّل بالعداء والصراع، نحو مستقبل أكثر سلمًا وازدهارًا».
مأدبات طعام خاصة ولقاءات سرية وعلنية.. إرهاصات كشف المستور
خلال السنوات الماضية، لم تنقطع اللقاءات والاجتماعات التي يعقدها السفير الإماراتي في الولايات المتحدة، والتي لا تخلو من تقارب واضح مع الشخصيات الإسرائيلية واليهودية، وكانت بمثابة إرهاصات لما نشهده في اللحظة الراهنة.
وكان من الممكن ألا يعلم أحد عن لقائه السريِّ مع نتنياهو قبل عامين، لولا أن رصده مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» في البيت الأبيض، مارك لاندلر. فقبل عامين من إعلان التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، كان مراسل الصحيفة مدعوًّا لحضور حفل عشاء أقامه يوسف العتيبة في مطعم شهير في واشنطن، وفوجئ بوجود الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجتمعًا بالسفير الإماراتي، فيما طلب نتنياهو أن يبقى الأمر سرًّا.
في حين لاحظ مراسل صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مشاركة رون ديرمر، السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، طاولة واحدة مع السفير الإماراتي، يوسف العتيبة، حيث كانا يحضران عشاء للمعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي في يناير (كانون الثاني) 2018م، في إشارة واضحة للتقارب الإماراتي الإسرائيلي واستعداد البلدين للتصريح بتقاربهما علنًا.
وفي يونيو 2017م فاجأ العتيبة جيسون جرينبلات، مستشار المفاوضات لدى الرئيس ترامب، بدعوة على الإفطار (في رمضان) في مقر إقامته في واشنطن، وكان العشاء يضم أطعمة الكوشير (الحلال عند اليهود) المعدة خصيصًا للضيف اليهودي، فما كان من الأخير إلا أن أخرج هاتفه والتقط صورة لطبقه وأعرب عن سعادته وامتنانه عبر تغريدة على «تويتر».
وكان النصيب الأكبر من الفضل في الزخم الإعلامي الذي اكتسبه مقال العتيبة في «يديعوت أحرنوت» يعود للملياردير الأمريكي الإسرائيلي حاييم سابان، صديق يوسف الذي نصحه بنشر المقال بالعبرية، كما كشفت عن ذلك «القناة الإسرائيلية 12».
توماس باراك مثالًا.. علاقات راسخة مع الحاشية المقربة من ترامب
تُظهر تسريبات البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي علاقات راسخة مع الإدارة الأمريكية؛ إذ كشف موقع «ميدل إيست آي» البريطاني في يونيو 2018م عما دار بين توماس باراك، الصديق القديم لترامب والملياردير الداعم له، ويوسف العتيبة.
جمع توماس بين العتيبة وترامب في 2016م عندما كان مرشحًا رئاسيًّا، وكشف توماس عن مساعي العتيبة لمعرفة تعيينات الإدارة الأمريكية الجديدة، وحرصه على الحصول على وعود من القادة الجدد على أن تبقى مصالح بلاده في مركز اهتمامهم. وأرسل العتيبة رسالة لتوماس يطلب فيها بعض التلميحات عمن سيشغل منصب وزارة الخارجية، والدفاع، ووكالة المخابرات المركزية، ومستشار الأمن القومي؛ ليطلع رؤساءه عليها.
بدأ التواصل بين العتيبة وتوماس منذ 2009م على إثر صفقة عقارية في كاليفورنيا، ولكن هذه العلاقة تعمقت أكثر أثناء حملة ترامب الانتخابية. ويظهر ذلك في سلسلة المراسلات التي كشفت عنها التسريبات، ومنها محاولة الطمأنة التي قام بها توماس عندما عبَّر له العتيبة عن تخوفه من ترامب بعد إعلانه حظر دخول المسلمين لأمريكا؛ إذ أكد توماس أن ترامب ليس معاديًا للإسلام، وأتبع كلامه بالقول: «إننا باستطاعتنا تغيير رأيه فهو بحاجة إلى بعض العقول العربية الذكية، وأنت على رأس القائمة».
وعرَّف توماس العتيبة بمستشار الرئيس المستقبلي للشرق الأوسط وصهر ترامب، جاريد كوشنر، الذي وصف لاحقًا العتيبة بقوله: «إنه لا يتوقف عن التواصل عبر الهاتف أو الإيميل».
لكن العتيبة الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ذهب إلى ما هو أبعد، حين حاول تعيين فرانسيس تاونسند، مستشارة جورج بوش لمكافحة الإرهاب والأمن الداخلي، في منصب مدير الاستخبارات الوطنية، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لمنصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي؛ ما يظهر الباع الطويل والعلاقات المتينة بين يوسف العتيبة وصناع القرار في الولايات المتحدة.
وجهات نظر العتيبة تتطابق مع رؤى الإسرائيليين
بدأت علاقة العتيبة تتوثق بالولايات المتحدة مبكرًا جدًّا في حياته، فهو ابن أول وزير للنفط في الإمارات وأمه مصرية، ودرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهناك تعرف إلى سفير الولايات المتحدة في مصر في تلك الفترة.
ثم أكمل دراسته في جامعة جورجتاون الأمريكية، قبل أن يعينه محمد بن زايد مديرًا للشؤون الدولية، ويصبح ذراعه اليمنى وضابط الاتصال بين الإمارات والولايات المتحدة عسكريًّا واستخباراتيًّا.
وبعد تعيينه سفيرًا للإمارات العربية في أمريكا، عيَّن إيمي ليثيل توماس مسؤولة للبروتوكول في السفارة، وهي التي فتحت له الأبواب للولوج إلى عالم العلاقات الممتد مع الساسة وصناع القرار الأمريكيين.
بدأت علاقات العتيبة بالسياسيين الأمريكيين والإسرائيليين على حد سواء، واتضحت معها ملامح الاتفاق بشأن العديد من القضايا المشتعلة في الشرق الأوسط. ففي تقرير نشرته «هافنجتون بوست»، كشف عن تسريبات من الإيميل الشخصي للعتيبة، ظهر جليًّا أن رؤاه لا تكاد تختلف مع السفير الإسرائيلي في واشنطن.
فيما أظهر التقرير أيضًا سعي العتيبة، الذي عُرف في الأوساط الأمريكية بسفير عبد الفتاح السيسي، لرفع الحظر عن تصدير السلاح لمصر بعد أحداث يوليو (تموز) 2013، وهو المطلب ذاته الذي نادت به لجنة «إيباك»، اللوبي الصهيوني في أمريكا.
وكانت هذه اللجنة قد استشهدت بالعتيبة في يونيو الماضي بصفته أحد الأصوات المؤيدة لخطة ترامب للسلام، بهدف الضغط على الفلسطينيين، حين قال: «تثمن دولة الإمارات العربية المتحدة الجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذه الخطة هي مبادرة جادة تتناول العديد من القضايا التي أثيرت على مر السنين، وهي تمثل نقطة انطلاق مهمة للعودة إلى المفاوضات».
«إيران توحدنا».. الإمارات تسعى للحد من نفوذ إيران بأي وسيلة
لعل من أبرز نقاط الاتفاق بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية، هي تطويق إيران في المنطقة، والحد من مشروعها في الشرق الأوسط. إذ كشفت مصادر عن اجتماع جرى في البيت الأبيض في ديسمبر (كانون الثاني) 2019م، وجمع بين العتيبة ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، ناقشا فيه التعاون ضد إيران، وطرحا مسودة «اتفاق عدم اعتداء»، بوصفها مقدمة لخطوة دبلوماسية كاملة مع إسرائيل.
وقال موقع «ميدل إيست آي» إن اجتماعات ثلاثة جرت العام الماضي بين الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل، وسط جهود إسرائيل لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا.
وسبقت هذه اللقاءات العديد من الجهود التي كانت تسعى الإمارات من خلالها بالتعاون مع إسرائيل إلى وقف نفوذ إيران وتطويقها في المنطقة، ومعاقبة من يمد يده إليها بأي طريقة. وكشفت التسريبات المنشورة في موقع «إنترسبت» عام 2015م، من الإيميل الشخصي للعتيبة عن علاقته الوثيقة بمؤسسة «الدفاع عن الديمقراطيات» ومديرها التنفيذي، مارك دوبوفيتس، وكبير محاميي المؤسسة، جون هانا.
جدير بالذكر أنها مؤسسة أنشئت في 2001م بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، بهدف تكريس الجهود «من أجل الحرب على الإرهاب وتطوير الديمقراطية في أنحاء العالم». وكشفت المراسلات بين العتيبة وهذه المؤسسة عن إرسالها قائمة استهداف للشركات التي تستثمر في إيران، وفي دولة الإمارات، والمملكة العربية السعودية؛ لتضع الشركات أمام خيار واحد، وهو القطيعة مع إيران.
هل تصبح اللغة العبرية طريق العتيبة الجديد إلى قلوب الإسرائيليين؟
يبدو أن الكتابة بالعبرية قد راقت للسفير الإماراتي؛ إذ عاود الكرَّة يوم الجمعة الماضي وكتب مقالًا في صحيفة «يديعوت أحرنوت»، عنوانه «شالوم عليكم.. سلام عليكم»؛ يؤكد فيه أن اتفاق السلام مع إسرائيل يفتح الباب لمستقبل مزدهر في الشرق الأوسط.
وبشَّر في مقاله بالتعاون بين البلدين على الصعيد الدبلوماسي، والجوي، والطبي، والتجاري، ومجال الاتصالات، وغيرها من خطوات التطبيع التي ستكون شاهدة على عصر جديد لم تعد فيه إسرائيل عدوًّا.
ساسة بوست