كان الانفجار الذي دمر جزءًا كبيرًا من ميناء العاصمة اللبنانية بيروت في وقت مبكر من مساء يوم 4 أغسطس /آب كارثيا لدرجة أنه لا يمكن وصفه حادثا سوى بالاسم فقط.
يعد تخزين أكثر من 2750 طنًا من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار لما يقرب من 7 سنوات في ظل ظروف غير مناسبة بالقرب من منطقة مكتظة بالسكان، رغم التحذيرات المتكررة، سعيًا نحو كارثة.
وكان الإهمال الصارخ، وربما الإجرامي، والسخف البيروقراطي أسبابًا مباشرة للانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصًا، وجرح أكثر من 6 آلاف، وشرد ما يصل إلى 300 ألف، وتسبب في أضرار تقدر بنحو ملياري دولار للمدينة، وما زال العدد في تزايد.
أسوأ أعداء لبنان
وهكذا، فإن الكارثة ليست سوى أحدث مظهر من مظاهر الخلل الوظيفي الذي اتسمت به الدولة اللبنانية على مدى 3 عقود، وإن كان الأكثر دراماتيكية وتدميرًا.
إنه نتاج نخبة سياسية مفترسة أحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة وامتصت خيراتها فيما سمحت بانهيار مستوى الخدمات العامة إلى حد انعدام وجودها أصلًا.
وأدت شبكات النفوذ السياسي والمحسوبية والفساد إلى تعطيل المساءلة والإجراءات القانونية الواجبة والسلوك المهني على جميع المستويات.
ودفع سلوك هذه النخبة لبنان إلى حافة الإفلاس وأفقر الكثير من السكان، وقد وصف عنوان رئيسي في صحيفة "ديلي ستار" المحلية حقيقة الأمر قائلًا: "المسؤولون اللبنانيون هم أسوأ أعداء لبنان".
وما لم ترضخ هذه النخب السياسية إلى مطالب الإصلاح الأساسي، فإن لبنان سوف ينزلق أكثر إلى هاوية اقتصادية، وقد يؤدي الغضب الشعبي إلى الاضطرابات والعنف.
تسريع الانهيار الاقتصادي
سيؤدي الانفجار إلى تسريع الانهيار الاقتصادي اللبناني، مما يؤدي إلى إفقار جزء أكبر من السكان البالغ عددهم 6.8 ملايين نسمة، والذي يعتبر واحد من كل 5 منهم من اللاجئين السوريين.
فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها منذ أكتوبر/تشرين الأول، مما أدى إلى إفقار المواطنين الذين يكافحون الآن لشراء السلع الأساسية التي يتم استيرادها في الغالب.
كما رفضت البنوك إلى حد كبير صرف مدخرات عملائها، في الوقت الذي تتصارع فيه مع شبح الإفلاس. وفي 6 أغسطس/آب، أعلن المصرف المركزي اللبناني عن دعمه للشركات والأفراد الذين يسعون إلى إصلاح الأضرار، لكن الخبراء ما زالوا متشككين في قدرة المؤسسة على ضخ ما يكفي من الدولارات من احتياطياتها الأجنبية المتقلصة بما يكفي لإحداث فرق حقيقي.
أدت أزمة السيولة وفقدان الائتمان وانهيار الطلب المحلي، والذي فاقمته جائحة "كورونا"، إلى إجبار الشركات على تقليص عملياتها أو الإغلاق بالكامل، أو تسريح عشرات الآلاف من الموظفين أو إعطائهم إجازة، وتضاءلت الكهرباء التي توفرها الدولة إلى بضع ساعات فقط يوميًا، في ظل ندرة الوقود.
لم يظهر السياسيون اللبنانيون استجابة جدية للأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، حيث تجادلوا فيما بينهم حول حجم الخسائر التي تكبدتها البنوك اللبنانية التي لها ارتباطات سياسية، ومن الذي يجب أن يصلح الأمر، ونتيجة لذلك، وصلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ اقتصادي إلى طريق مسدود.
تفاقمت الأزمة الوطنية في لبنان الآن أكثر بكثير، وسيصعب جلب الإمدادات الكافية من الغذاء والدواء، في ظل عجز ميناء بيروت، وعدم قدرة المرافق الأصغر على طول الساحل اللبناني على تحمل الكثير من الحمولة.
دمر الانفجار أيضًا صوامع تخزين الحبوب الرئيسية ومخزونات من المعدات الطبية، وسيصعب على الشركات التي نجت من الأزمة حتى الآن استيراد المعدات والمواد لمواصلة العمل أو لتصدير منتجاتها.
كما ستنخفض عائدات الضرائب والجمارك بشكل أكبر، مما سيجبر الحكومة على تمويل ميزانيتها من خلال طبع الأموال وبالتالي بدء جولة جديدة من التضخم المفرط.
حتى قبل الكارثة الأخيرة، كان لبنان بحاجة إلى مساعدات إنسانية، أما الآن فأصبحت الحاجة ماسة، وازداد حجم المساعدات المطلوبة، ولا سيما الطاقم الطبي والإمدادات والغذاء لتجديد المخزونات المدمرة ومواد البناء لإصلاح الملاجئ المتضررة.
هناك عدد من البلدان في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا التي قررت المساهمة بالفعل لحسن الحظ، ولكن، سيتعين عليهم فعل المزيد، حيث إن آثار تدمير ميناء بيروت وتشريد مئات الآلاف من اللبنانيين تسبب في تفاقم بؤس البلاد. ويجب تقديم المساعدة مباشرة للسكان المتضررين ومن خلال المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية الموجودة على الأرض.
فرصة أخيرة للسياسيين
ربما لا تزال هناك فرصة أمام القيادة السياسية اللبنانية لفعل الصواب وإجراء إصلاحات طال انتظارها، والتي يطالب بها الشعب اللبناني، ويشترط المانحون الدوليون إجراءها قبل الإنقاذ الاقتصادي.
لا يمكن السماح باستمرار الترتيبات السياسية الفاسدة التي أفلست البلاد والتي أدت في النهاية إلى كارثة 4 أغسطس/آب؛ فقد وصلت لنهايتها ولن يتم إحياؤها بمعجزة من الأموال الأجنبية.
قبل شهرين، نشرت مجموعة الأزمات الدولية تقريراً حول كيفية إخراج لبنان من المستنقع، وأكدت أن النخبة السياسية التي حكمت لبنان على مدى الثلاثين عامًا الماضية يجب أن تقوم بإصلاحات هيكلية تمنع النخب الفاسدة المتمحورة حول مصلحتها من الاستيلاء على موارد الدولة وحقوق الناس، وذلك من أجل كسب الدعم الدولي الكبير الذي تحتاجه البلاد للخروج من الأزمة اقتصادية.
والآن تواجه تلك النخب مرة أخرى غضب الشعب، كما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما احتشد مئات الآلاف ضد المسؤولين السياسيين.
وكانت تلك الاحتجاجات قد جاءت في أعقاب كارثة أخرى عجزت فيها الحكومة عن السيطرة على حرائق الغابات بعد إهمالها لسنوات.
الكارثة الأخيرة هي فشل مماثل، ولكنها أكثر فتكًا وعلى نطاق هائل، ويبدو أنها من المحتمل أن تطلق موجة جديدة من الغضب الشعبي.
يعبر اللبنانيون عن غضبهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت المجموعات الناشطة التي لعبت دورًا بارزًا في حركة أكتوبر/تشرين الأول الاحتجاجية في التحرك مجددًا رافعين شعارهم الشعبي المطالب بإزالة النخب الحاكمة: "كلن يعني كلن".
أدت الاحتجاجات المتفرقة في أبريل/ نيسان ومايو/أيار، ضد تدهور الأحوال المعيشية إلى اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، مما أدى إلى وقوع إصابات، ويمكن أن تخرج المظاهرات الجديدة عن السيطرة تمامًا.
إذا كانت لدى النخب اللبنانية فرصة لإصلاح ما كسروه، فقد تكون هذه الفرصة الأخيرة لهم، وسيتعين عليهم، جنبًا إلى جنب مع السياسيين الذين قاموا بترقيتهم والمسؤولين الذين ساعدوا في تعيينهم، مواجهة الجمهور اللبناني الذي تعرض بعد سنوات عديدة من الإساءة والإهمال، لإرهاب من حكومته بانفجار كان يمكن منعه من الوقوع.
أصبح الجمهور الآن غاضبًا بشكل مبرر، وليس لديه الكثير ليخسره.
(الخليج الجديد)