بقلم: بثينة شعبان
لا تعلم أتفرح أم تحزن وأنت تشاهد القائد السياسي والإنساني التاريخي الكبير مهاتير محمد يتحدث على قناة الميادين عن القضية الفلسطينية من ضمن القضايا المهمة جداً التي طُرحت عليه. تفكّر في جوابه قبل أن تسمعه منه حين سُئل عن الدول العربية المهرولة للتطبيع مع العدوّ الصهيوني، وتستخدم وقت الترجمة لتقرّر لو كنت مكانه بماذا كنت سأجيب: أوّل جملة أجاب بها أنّ «ماليزيا لن تفعل هذا أبداً»، قالها وملامح وجهه لا تُخفي الشعور بالخيبة والحزن.
وأضاف: «ولكن سياساتهم هي سياساتهم، ونحن لا نستطيع تغييرها ولكن يمكننا التحكم في سياساتنا نحن؛ فنحن في ماليزيا لم نُقِم علاقات مع “إسرائيل”، ولم نقبل التعامل مع أيّ شركة إسرائيلية مع أننا نتعامل مع الشرق والغرب ومع الولايات المتحدة والصين”. ثمّ أدلى بآراء جديرة بأن تكون منهاج عمل، ليس للفلسطينيين فقط وإنما للعرب المؤمنين بمقاومة العدوّ الصهيوني وعدم السماح له بالسير قدماً في مخططاته والتي أصبح من الواضح أنها تستهدف منطقتنا العربية برمّتها؛ إذ قال مهاتير محمد: “ما هي المشكلة بين فتح وحماس؛ أوَليستا حركتي تحرّر تهدفان إلى تحرير الفلسطينيين من ربق الاحتلال؟
وجاءت الخطوات المشتركة بين “فتح” و”حماس” لتحقق استقراءه وأمنيته أيضاً، وكان من الواضح أنّ أيّ رؤية مشتركة بين الفلسطينيين والعرب تقضّ مضاجع العدوّ الصهيوني أكثر من تطوير أسلحة فتّاكة”. والسؤال هو: لماذا تأخذ مثل هذه الخطوة البديهية عقوداً كي تتحقّق، وهل حقاً يحتاج الفلسطينيون إلى عقود كي يتأكدوا من أنّ خطر الاحتلال والاستيطان هو خطر وجودي عليهم جميعاً، بل وعلى أمتهم العربية بكاملها؟ هل يُعقل أن يُغفل العرب أولوياتهم كلّ هذه العقود ويسمحوا للعدوّ بأن يبني على فشل آلياتهم وانعدام رؤيتهم المشتركة؟ لقد برهنت أحداث هذا الصراع، وخاصة بعد أوسلو أنّ العدوّ يحصد ثمار افتقار العرب إلى رؤية موّحّدة، وأنّه تمرّس على بثّ الدعاية في صفوفهم، وشقّ هذه الصفوف، وإقناع العالم بأنّ السلام مع العرب أصبح حقيقة بينما هو يستمرّ في قتل الفلسطينيين وأسرهم وهدم منازلهم فوق رؤوسهم من دون أن يتمكنوا من إيصال معاناتهم صوتاً وصورة إلى ضمائر العالم، التي ولا شكّ سوف تتحرّك لو وصلتها الحقيقة صارخة وقاسية ومجرمة كما يمارسها أعداؤنا ضدّنا وعلى أرضنا. أمّا مقولة أنّ العالم لم يعدّ مهتماً، فهي الدعاية التي يبثّها العدوّ ليل نهار كي يُقنع المؤمنين بقضاياهم ألّا جدوى من هذا الإيمان، ولا فائدة من تضحياتهم التي سوف تذهب سدى من دون أن توصلهم إلى أهدافهم المرجوّة. ولكن متى كان المقاومون والمؤمنون بحقوقهم يسترشدون بآراء أعدائهم المغرضة والمحبطة والهادفة دوماً إلى تثبيط عزائمهم؟!
لم تستعد الجزائر منذ أيام رفات مقاتلين أشدّاء نذروا دماءهم كي تحيا الجزائر حرّة مستقلة؟ وها هي الأجيال تكرّم رفاتهم بعد عقود على تحرير الجزائر، بينما يعيش أحفاد الخونة والمتعاملين مع الأعداء الذلّ والعار جيلاً بعد جيل. والسؤال هنا لماذا نضخّم نحن العرب من أهمية حملات التطبيع التي تقوم بها الإمارات والسعودية وأيّ دولة خليجية أخرى؟ ولماذا لا نركّز على استجماع القوى، عربية وغير عربية، لدعم الحقّ الفلسطيني والعربيّ في الأراضي العربية المحتلة، ونشحذ الأدوات المتاحة، كما قال مهاتير محمد، أوّلها التفاهم والتعاون وفرز الأولويات ووضع الرؤية الاستراتيجية المشتركة التي تتشاطرها دول محور المقاومة، وأيّ دولة عربية أو غير عربية أخرى كي نعلن أنّ القضية الفلسطينية هي قضية ضمير إنساني، وقضية أرض مسروقة وحقوق شعب، وأنّ الجولان العربي السوري جزء لا يتجزّأ من أراضي الجمهورية العربية السورية كما أقرّت ذلك كلّ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة وصوّتت عليها الأسرة الدولية برمّتها بما فيها الولايات المتحدة الأميركية؟
لماذا لا نلتقط الأدوات المتاحة، ونثمّن أهميتها، ونضع الخطط الواقعية لاستخدامها، ونتحلّى بالصبر، وندرك منذ البداية أنّ صراعنا طويل ومركّب؟ ولكنّه صراع الحقّ مع الباطل، ولذلك لا بدّ من أن ننتصر في النهاية. لقد تحدّث مهاتير عن حرب دبلوماسية ممكنة يقوم بها الفلسطينيون والعرب على الساحة الدولية تماماً كما قامت جنوب أفريقيا بحملات عالمية ضدّ حكم التمييز العنصري انتهت بانتهاء هذا الحكم، رغم أنّ الداعمين له في حينه كانوا القوى العظمى كالولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة البريطانية، وكثير من القوى التابعة لهما، ومع ذلك لم يحبط هذا المؤمنين بحقوقهم من المتابعة والعمل على مقاطعة هذا الحكم في المجالات الثقافية والرياضية والعلمية والاقتصادية إلى أن تمّت محاصرته، وانهار في وجه التضامن العالمي مع حركة التحرّر الجنوب أفريقيّة.
واليوم ليس صحيحاً أبداً أنّ الغرب كلّ الغرب يقف ضدّ الحقّ الفلسطيني، فقد نجحت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) الفلسطينية في إقناع جامعات غربية بمقاطعة الجامعات الصهيونية، كما أنّ هناك في أوروبا حركة مقاطعة لمنتجات الأراضي المحتلّة التي يصدرها الكيان الغاصب، والانتشار الفلسطيني والعربي اليوم في الولايات المتحدة وأوروبا قادر على مضاعفة هذا التأييد للحقوق العربية في ديارهم،فضلاً عن أميركا الجنوبية وشرق آسيا حيث مجالات العمل والدعم رحبة والأبواب مفتوحة لذلك. ولكن ما علينا أن نتذكّره هو حجم الإعلام الذي تبثّه الدوائر الصهيونية والتي تملك شركات إعلامية كبرى لإحباط الهمم ولإقناع المقاومين والعاملين في هذا السياق بألّا جدوى من نضالهم، وبأنّ الكيان الغاصب قد كسب عقول وقلوب العالم برمّته، الأمر الذي هو من صنع خيالها ورغباتها، حتى وإن طبّعت معه كلّ دول الخليج، فماذا يمثّل الخليج عدداً من هذه الأمة؟ وخاصة حين تُفتح القضية الفلسطينية على العالمية، ولا تعتمد فقط على العرب؛ فالقدس هي قبلة المسلمين والمسيحيين من كلّ أنحاء العالم، وفلسطين هي قضية ضمير إنساني تماماً كما كانت فيتنام وجنوب أفريقيا والجزائر، وكما تشكّل حركة المناهضة للعنصرية اليوم في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بأسره.
وكما أنّ أوّل الغيث قطرة، وأوّل الطريق خطوة، فإنّ الخطوة الأولى والأساس في هذه المعركة الطويلة هي توحيد الرؤى والأهداف أولاً بين أصحاب الشأن، ووضع الأولويات الحاسمة لهذه المعركة، وعدم الاهتمام بتفاصيل اختلافات لا وزن لها في هذه المعركة، بل التركيز على الهدف الأسمى والأهمّ، وعلى المساحة المشتركة والمصيرية، ودراسة الأدوات ونقاط القوة بعناية وعدم التوقّف عند نقاط الضعف، بل تأجيلها إلى ما بعد مراكمة نقاط القوة والبناء عليها إقليمياً وعالمياً ودفن كلّ ما يروّج له الطابور الخامس وأدوات الأعداء وعملائهم، وعدم السماح لهم بتشويش الرؤى أو باختراق الصفوف، وجدولة المعركة موضوعياً وزمنياً، فليس علينا أن نربح المعركة غداً ولكن علينا أن نبقى في سياق النضال والمقاومة والدفاع عن الحقوق وتسليم الراية إذا اضطررنا للأجيال المقبلة، من دون التخلّي عن ذرّة تراب من أرضنا أو عن أيّ حقّ من حقوقنا التاريخية غير القابلة للتصرّف.