في 12 يونيو/حزيران، ظهر مقال غير معتاد على صفحات صحيفة "يديعوت أحرونوت" الشعبية الإسرائيلية، والذي كتبه "يوسف العتيبة"، السفير الإماراتي في واشنطن.
في المقال، وصف "العتيبة" بإسهاب خطوات التطبيع العلنية التي اتخذتها دولة الإمارات في السنوات الأخيرة، وحذر من أن الضم الإسرائيلي للضفة الغربية "سيقوض بالتأكيد وعلى الفور التطلعات الإسرائيلية لتحسين العلاقات الأمنية والاقتصادية والثقافية مع الدول العربية ومع الإمارات."
الأنظمة الخليجية مسؤولة
يشجب قادة أنظمة الخليج العربي الآن محاولة تنفيذ رؤية اليمين الإسرائيلي، التي تهدف إلى منع إقامة دولة فلسطينية، لكن سياسات أنظمة الخليج العربي هي التي ساهمت بشكل مباشر في صعود اليمين الإسرائيلي وجعلت هذا الضم قابلًا للتحقق أكثر، من خلال تطبيع العلاقات مع (إسرائيل) على حساب الفلسطينيين.
حسنت أنظمة الخليج العربي العلاقات مع (إسرائيل) خلال العقد الماضي، حيث قامت السعودية والبحرين وعمان والإمارات بتوسيع التعاون مع (إسرائيل) في مختلف المجالات، بما في ذلك مبيعات الأسلحة وبرامج التجسس، والتدريب العسكري، وتبادل المعلومات الاستخبارية، والجهود الدبلوماسية المشتركة المتعلقة بالمصالح المتبادلة.
وفي السنوات الأخيرة، اتخذت هذه الأنظمة خطوات غير مسبوقة لتطبيع العلاقات مع (إسرائيل)، مثل السماح بحقوق التحليق لشركات الطيران الإسرائيلية، والمشاركة في التدريبات العسكرية إلى جانب سلاح الجو الإسرائيلي، والترحيب بكبار المسؤولين الإسرائيليين على أراضيهم، والانخراط علنًا مع المسؤولين الإسرائيليين في المؤتمرات، وتغيير لهجة تغطية ومناقشة (إسرائيل) في وسائل الإعلام الحكومية.
وقام "العتيبة" بشكل شخصي بتنمية علاقة وثيقة مع السفير الإسرائيلي في واشنطن، "رون ديرمر"، وهو أحد المؤيدين الرئيسيين للضم.
تغير الأولويات الخليجية
كانت هناك مجموعة جديدة من الأولويات التي دفعت قادة الخليج لهذه الخطوات نحو التطبيع، والتي ترتب عليها إهمال القضية الفلسطينية، وأصبحت هامشية بشكل متزايد ليس فقط في الخطاب العربي، ولكن أيضًا الدولي، على مدى العقد الماضي، نظرًا للاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط والنزاعات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وموجات النزوح.
تبلورت هذه المجموعة الجديدة من الأولويات على مدى العقدين الماضيين، حيث توافقت مخاوف القيادة الإسرائيلية ومخاوف معظم دول الخليج تدريجياً.
فقد غير نفوذ إيران المتزايد في الشرق الأوسط بعد حرب العراق عام 2003، والانتفاضات العربية التي بدأت في أواخر عام 2010 الحسابات في أبو ظبي والرياض وعواصم أخرى.
فقد رأوا أن التهديدات الرئيسية تمثلت في إيران، و"الإخوان المسلمون" والأنظمة الإسلامية (خاصة قطر وتركيا)، وكذلك شعوب المنطقة الذين يسعون إلى دور في حكم أنفسهم.
كانت (إسرائيل) على غرار الأنظمة الخليجية؛ تنظر بعين الريبة إلى الانتفاضات العربية، خوفاً من تحولها إلى "شتاء إسلامي".
وأعرب المسؤولون الإسرائيليون باستمرار عن شكوكهم حول قدرة العرب على إقامة ديمقراطيات لا يسيطر عليها الإسلاميون في نهاية المطاف.
وفي حين ربطت الدول العربية سابقًا التطبيع بإحراز تقدم في القضية الفلسطينية؛ شهد العقد الماضي عزوف (إسرائيل) عن إنهاء الاحتلال.
فمنذ عام 2000، تحولت السياسة الإسرائيلية والخطاب العام والسياسات إلى اليمين؛ فقد تضخم النمو الاستيطاني، ولا يزال الحصار المفروض على غزة خانقًا، كما تم تمرير قوانين متعددة تهدف إلى إضعاف المجتمع المدني واستقلال وسائل الإعلام والمحكمة العليا .
ولكن، لا يبدو أن هذه التغييرات ردعت الأنظمة الخليجية عن اتخاذ خطوات أكثر جرأة تجاه التطبيع.
التطبيع وتعزيز اليمين
ينبع هذا التحول في السياسة الإسرائيلية من عوامل داخلية متعددة؛ فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، تحول الشعب اليهودي الإسرائيلي بوضوح إلى اليمين.
ويمكن تفسير هذا التغيير من خلال تطورات متعددة، هي: التأثير الراديكالي للانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن 21 بعد انهيار محادثات السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، غياب مفاوضات السلام طوال هذه الفترة، التغيير الديموجرافي مع نمو المجتمع المتشدد ووفاة كبار السن الإسرائيليين الذين يميلون إلى أن يكونوا أكثر اعتدالا من الشباب الإسرائيليين؛ مع السيطرة المستمرة لليمين الإسرائيلي على وزارة التربية والتعليم ووزارة الاتصالات، مما سهل إدخال المحتوى اليميني في المناهج والخطاب الإعلامي السائد؛ بالإضافة إلى حكم رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" لمدة 10 سنوات، والذي تبنى خلاله بشكل متزايد الخطاب والسلوك المعادي للديمقراطية للبقاء في السلطة، وتغيير معايير السلوك السياسي في (إسرائيل).
ولكن هناك أيضًا عوامل خارجية ساهمت بشكل كبير في انهيار اليسار والوسط الإسرائيليين، وقرار الأنظمة الخليجية بتطبيع العلاقات مع (إسرائيل) تدريجيًا قبل نهاية الاحتلال، كان عاملاً رئيسيًا في هذه العملية.
فقد وجه التطبيع ضربة قاضية إلى اليسار الإسرائيلي المعتل، وزادت الانتفاضة الثانية من أهمية المخاوف الأمنية بشأن الآمال في السلام، مما أضعف إلى حد كبير اليسار الإسرائيلي، الذي يُنظر إليه على أنه لين فيما يخص الأمن.
لكن استطلاعات الرأي كانت تظهر أن الجمهور الإسرائيلي ما زال يريد السلام، وليس الأمن فقط، وكانت هذه هي الميزة التنافسية الرئيسية لليسار الإسرائيلي.
قبل التطبيع؛ كان اليسار وحده هو القادر على تقديم رؤية ذات مصداقية للسلام، والتي تستلزم إنهاء الاحتلال مقابل قبول وتطبيع العلاقات مع العالم العربي.
لكن الخطوات التي اتخذتها الأنظمة الخليجية قوضت هذه الحجة؛ فقد أثبت اليمين الإسرائيلي أنه يمكن للإسرائيليين أن يأخذوا ما يريدونه ويحصلوا على السلام، دون أن يقدموا تنازلات للفلسطينيين، الذين يُنظر إليهم على أنهم مصدر للتهديدات الأمنية.
يشجع التطبيع (إسرائيل) على الحفاظ على حكمها العسكري على ملايين الفلسطينيين، حيث يمكنها الآن الحصول على ما تريده، من اعتراف وقبول من دول الجوار، دون دفع أي شيء في المقابل؛ مثل إنهاء الاحتلال أو حتى الانخراط في مفاوضات جادة.
وفي ظل عدم قدرة اليسار على تقديم بديل لليمين الإسرائيلي، تقلصت قوته أكثر فأكثر مع كل انتخابات، وعمل تطبيع الأنظمة العربية، إلى جانب عدم الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، وعدم قدرة "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" على اكتساب الزخم، والدعم القوي من الرئيس "دونالد ترامب" لسياسات "نتنياهو" اليمينية، على إعادة التأكيد على الجمهور الإسرائيلي بأن تحذيرات اليسار الإسرائيلي من العزلة الدولية التي تلوح في الأفق لا أساس لها من الصحة، وهكذا؛ بقي المعسكر الإسرائيلي التقدمي بدون رؤية ولا "بعبع" فعال.
ترافق تآكل اليسار الإسرائيلي مع صعود اليمين المتطرف في (إسرائيل) واكتساب فكرة الضم للشعبية.
كان مفهوم ضم أجزاء من الضفة الغربية أو كلها فكرة مهمشة في السياسة الإسرائيلية، ولكن في عام 2013 فقط، بدأ حزب "البيت اليهودي" اليميني المتطرف في الدعوة إلى ذلك، وفي عام 2017 صوتت اللجنة المركزية لحزب "نتنياهو"، وهي هيئة تتكون من أعضاء متشددين، لجعل ضم الضفة الغربية الموقف الرسمي لـ"الليكود" .
خلاف حول الضم
ظهر مقال "العتيبة" في سياق نقاش داخلي ساخن في (إسرائيل) حول ضم أجزاء من الضفة الغربية، حيث أصبح نقاش الضم جزءًا من الخطاب السائد بسبب محاولة "نتنياهو" مغازلة الناخبين اليمينيين قبل الانتخابات الإسرائيلية الثانية في عام 2019.
ففي 10 سبتمبر/أيلول، قبل أسبوع من الانتخابات، أعلن "نتنياهو" أنه إذا تم انتخابه؛ فسيضم وادي الأردن، وكان ينوي إعلان الضم نفسه، لكنه انسحب عن الحافة بسبب المؤسسة العسكرية و"الشاباك"، التي تعد المعارضة الإسرائيلية الحقيقية هذه الأيام، والتي حذرت من تداعيات أمنية خطيرة.
أما الوسط الإسرائيلي الذي كان يفترض أن يمثل المعارضة الإسرائيلية السياسية لحكم "نتنياهو" طويل الأمد، فإنه لم يقدم رؤية بديلة للقضية الفلسطينية.
ففي الجولة الثالثة من الانتخابات؛ تبنى تحالف الوسط "أزرق أبيض" فكرة ضم غور الأردن، لكنه تعهد بفعل ذلك في إطار اتفاق دولي (وليس فلسطيني).
تمزقت هذه المعارضة السياسية بعد الانتخابات، حيث انضم ما يقرب من نصف أعضاء الكنيست من حزب "أزرق أبيض" إلى حكومة "نتنياهو".
أصبح ضم أجزاء من الضفة الغربية احتمالًا حقيقيًا وليس مجرد شعار انتخابي مع طرح إدارة "ترامب" لـ"صفقة القرن" في 28 يناير/كانون الثاني 020 ، في خطوة ينظر إليها على أنها تهدف إلى تعزيز فرص "نتنياهو" في الانتخابات.
تحول الخطة فلسطين إلى دولة أولية صغيرة، ويبدو أنها صممت لضمان رفض الفلسطينيين لها، وفي مثل هذه الحالة، تسمح الخطة لـ(إسرائيل) بضم ما يصل إلى 30% من الضفة الغربية.
كان سفراء 3 دول خليجية لواشنطن من الحاضرين لكشف الخطة، مما منحها درجة من الشرعية العربية؛ وهم سفراء البحرين وعُمان والإمارات.
هذا الدعم الضمني لـ"صفقة القرن"، إلى جانب الاستجابة الصامتة للأنظمة الخليجية لقرارات "ترامب" بالاعتراف بالضم الإسرائيلي لمرتفعات الجولان ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، من المحتمل أن يشجع قيادة (إسرائيل) على النظر بجدية في ضم أجزاء من الضفة الغربية.
وبما إن تلك الخطوات لم تشعل أزمة، فإن لدى "نتنياهو" أمل في أن ينطبق الأمر نفسه على ضم أجزاء من الضفة الغربية.
تجني أنظمة الخليج العربي الآن ما زرعته، فقد اتخذوا قرار إعطاء الأولوية لمواجهة التهديد الإيراني، و"الإخوان المسلمون"، وشعوب المنطقة، على حساب الفلسطينيين.
لهذا؛ يبدو احتجاجهم على خطة الضم أجوفًا بعد أن أمضوا سنوات في تطبيع العلاقات مع الحكومة الإسرائيلية أثناء ترسيخها لحكمها العسكري المجحف على الفلسطينيين.
حتى مقالة "العتيبة" هددت فقط بوقف المزيد من التقدم في مسار التطبيع، وليس إنهاء العلاقات بين البلدين، وإذا مضت (إسرائيل) بالفعل في ضم أجزاء من الضفة الغربية، فليس على الأنظمة الخليجية إلا أن تلوم نفسها.
الخليج الجديد