يعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية من أقوى الأحزاب العربية تنظيماً ومرونة، فهو الحزب الذي عايش مراحل النضال العربي عبر ثمانية عقود بما تضمنته هذه العقود من انفراجات وتضييق، كما تعتبر العقود الستة الماضية -منذ تسلم حزب البعث للحكم في العراق وسورية- هي المدارس النضالية الأولى في مسيرة تطوير الحزب من الناحية النظرية، لكن تجربة حزب البعث في سورية وديناميكيته بالتعامل مع تطلعات الشارع منذ سقوط بغداد في بداية الألفية الجديدة والتي توجها الحزب بشعار لمؤتمره القطري العاشر كانت المحطة النضالية الأبرز من الناحية العملية، فقد خاض الحزب تحد الانفتاح في خضم التهديد الذي كان يواجهه، فاستطاع أن يجتاز تلك المرحلة ببعض النجاحات، كما عابه في تلك الفترة بطء تعديل منطلقاته النظرية، الأمر لذي ساهم بحدوث فجوات في الأطر المعرفية للعديد من أعضائه بين فكر نظري محدد بعناية فائقة لمرحلة بدايات النضال والصراع العالمي، وتنفيذ عملي قائم على اجتهادات أعضاء لم يتمكنوا من توسيع دائرة النظر لقراراتهم في عصر العولمة المتسارعة، وقد رافق تلك المرحلة أيضاً انفتاحاً كبيراً على مستوى الدولة السورية جعلت من أيديولوجيا الحزب بعيدة عن ملامسة هموم أعضائه، الأمر الذي أشار إليه الأمين العام للحزب في كلمته التي وجهها لأعضاء الحزب بقوله أن:
""غياب الآليات والمعايير الموضوعية شكّل بعض الخلل في العلاقة بين القيادة والقاعدة داخل الحزب"" وقد نجم عن هذا الخلل في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة وصول موجة ما أطلق عليه آنذاك بالربيع العربي إلى سورية التي كان الجميع يظن أنها عصية على الاختراق لوجود حزب البعث فيها.
إنّ حزب البعث في سورية يقف اليوم أمام تحدْ جديد، يمكن اعتباره نظرياً مشابهاً لفترة حصار العراق قبل إسقاطه، ولكنه عملياً يفوقها خطورة نتيجة انكفاء الكفاءات الوطنية والخبرات عن الانخراط في صفوف الحزب –وفق ما أشار إليه الأمين العام للحزب- والدولة على حد سواء، خاصة بعد موجة كبيرة من هجرات الأدمغة السورية إلى البلاد الأوروبية في فترة الإرهاب الذي ضرب سورية، ولعل التحد الأخطر الذي يواجهه الحزب هو حاجته إلى منظرين جدد أو مراكز استشارية تساند عمليات اتخاذ القرارات على المستويات الفرعية والمركزية.
وقد أعلنت قيادة البعث كعادتها قبولها هذا التحد بنفس وطني قومي مفعم بالانتصار، فكان الاستئناس الحزبي الموسع لاختيار كتلة الحزب البرلمانية في تجربة جديدة تجمع بين أسلوب الكتل الناخبة وأسلوب شمولية التمثيل، في رسالة واضحة للداخل والخارج معاً، حيث تتضمن رسالة الداخل أنكم أنتم يا أعضاء الحزب ومنتسبيه وداعميه من غير المنتسبين معنييون بالمساهمة في صنع قرارات الحزب الذي قاد عملية إعمار الجمهورية في سبعينيات القرن الماضي، وعليكم أن تكونوا فاعلين في هذه المرحلة لأن الحزب هو حزب الشعب وهو من سيقود مرحلة الإعمار الآتية. وتتضمن رسالة الخارج أن بطء تعديل الأطر النظرية للحزب لن يشكل الفجوة نفسها التي دفعت ببعض منتسبي البعث في العراق لتسهيل عملية اختراقه، فاليوم يشكل حزب البعث مجدداً في سورية محط أنظار جميع المواطنين من المنتسبين وغير المنتسبين له لما يرون فيه من فكر يتسع للجميع، وقد دعّم هذه الرؤية حركة الإصلاح التي يقودها الأمين العام في صفوف الحزب الداخلية.
لقد شكل الاستئناس الموسع الذي ينفذه أعضاء وقيادات الحزب القاعدية في هذه الأيام رسالة تحول حضارية في نمط الصراع الذي يواجهه الحزب وسورية على حد سواء، وسوف تكتمل هذه الرسالة في الأيام القادمة عندما يقوم الحزب بإجراء مماثل يسمح لقيادات البعث القاعدية بمحاسبة أعضائه وفق لإنجازاتهم وتقصيرهم، وعندما يدرك أعضاء الحزب أهمية وخطورة اختياراتهم.
رسائل البعث في سورية : بين الداخل والخارج
2020-06-27
بقلم: د. يحيى محمد ركاج*