بقلم: عبد الحسين شعبان
هل ستشعل مياه النيل النار فى العلاقات المصرية الإثيوبية؟! أم ستطفئ لهيب النزاع وترطّب الأجواء؟ فقد وصلت المفاوضات بين البلدين إلى طريق مسدود بعد رحلة ماراثونية استمرت نحو عقد من الزمان، بسبب إصرار إثيوبيا على ملء خزان سدّ النهضة دون تنسيق وتفاهم مع مصر والسودان، أو مراعاة لمصالحهما كما تقتضى قواعد القانون الدولى والاتفاقيات الدولية بشأن الأنهار الدولية، لاسيّما اتفاقيتى هلسنكى لعام 1992 والأمم المتحدة لعام 1997.
وعلى الرغم من مخاوف القاهرة بشأن احتمال انفراد إثيوبيا بخطوة منفردة قد تحرجها، إلّا أنها أبدت مرونة عالية، بما فيها عدم إغلاق الأبواب أمام عودة المفاوضات «الثلاثية» شريطة عدم إقدام أديس أبابا على إجراءات أحادية بشأن السد تلحق أضرارا بها وبالخرطوم. ولم تهمل الاتصال بالمجتمع الدولى بشأن الضغط على إثيوبيا لثنيها عن تنفيذ خطتها، ولذلك أجرت اتصالات مع روسيا وألمانيا وإيطاليا، وبالطبع مع الوسيط الأمريكى لاطلاعهم على آخر تطورات الموقف والطلب منهم الضغط على أديس أبابا للتوصل إلى اتفاق بين الأطراف الثلاثة.
ويبدو أن التعنّت الأثيوبى يأتى متساوقا مع توتر العلاقات المصرية ــ التركية، بسبب دعم تركيا لحكومة طرابلس وإرسال السلاح والمسلحين من تنظيمات إرهابية إليها من جهة، ومن جهة أخرى فإن «إسرائيل» مستمرة فى مشاريعها الإلحاقية، فبعد خطوة الرئيس الأمريكى ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإهدائه «الجولان السورى» إلى تل أبيب بزعم سياسة «الأمر الواقع»، وتأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو رغبته بإعادة احتلال الضفة الغربية وضمّها، إضافة إلى محاولته ضم غور الأردن وشمال البحر الميت إلى «إسرائيل»، وهكذا تجرى محاولات الاستقواء على العرب من دول الجوار غير العربى، عبر استغلال ضعف الوضع العربى بكيدية وعداء سافرين.
وإذا ما عرفنا أن الماء عصب الحياة كما جاء فى القرآن الكريم «وجعلنا من الماء كل شىء حى» وأن النيل والحضارة المصرية توأمان لا ينفصلان منذ الأزل، فهو رمز بقائها وديمومتها، ولذلك فإن محاولات تغيير الجغرافيا سيؤثر ليس على مستقبلها وحياتها وأمنها ومصالحها الحيوية وحقوقها التاريخية.
لقد صبرت مصر طويلا وتحمّلت مماطلات لمفاوضات بدت عقيمة حتى باعتراف واشنطن التى تدخّلت أكثر من مرّة كوسيط لحلّ الأزمة، ولكن دون جدوى فأديس أبابا سادرة فى غيّها وعملت على نحو مراوغ وخادع لكسب الوقت حتى وصلنا إلى المرحلة الأخيرة للتشغيل (شهر يوليو القادم)، الأمر سيعنى خسارة كبيرة لمصر والسودان، حيث سيزداد العجز المائى فى مصر سنويا وسينعكس ذلك على تصحّر العديد من الأراضى الزراعية وخسارة فى القوى العاملة وارتفاع معدّلات البطالة.
لقد وضعت إثيوبيا عقبات قانونية وفنية لعرقلة أى اتفاقية أو معاهدة ملزمة وفقا لقواعد القانون الدولى والأنهار الدولية، واكتفت بأن أى توافق سيكون مجرد قواعد إرشادية يمكن لإثيوبيا أن تأخذها بنظر الاعتبار، دون التفكير بحل متوازن وعادل ووطيد، وهو ما دعا مجلس الأمن القومى الأمريكى إلى مخاطبة إثيوبيا للتوصل إلى إبرام صفقة عادلة قبل البدء بملء السد.
وكانت الأطراف الثلاثة قد توصلت فى العام 2015 إلى توقيع وثيقة الخرطوم (إعلان مبادئ) التى يفترض فيها حفاظ مصر على حصتها السنوية 55.5 مليار م3 والسودان على 18.5 مليار م3، ولكن التعنّت الإثيوبى والتملّص من توقيع اتفاقية دولية ملزمة، أصبح مصدر توتر فى حوض نهر النيل، وتتذرع أديس أبابا المدعومة «إسرائيليا» بأن حاجتها ضرورية لملء السد خلال 3 سنوات لتحقيق التنمية وتوليد الطاقة الكهربائية دون الالتفات إلى تهديد الموارد المائية المصرية والسودانية.
ومن خيارات مصر الأخرى اللجوء إلى مجلس الأمن الدولى، وهو ما أقدمت عليه بالفعل وإذا لم يتّخذ الخطوات اللازمة لوقف الإجراءات المنفردة، فيمكنها اللجوء إلى القضاء الدولى (محكمة العدل الدولية فى لاهاى التابعة للأمم المتحدة أيضا) للحصول على رأى استشارى مطالبة بالتعويض المادى عن الأضرار التى ستلحق بها، وذلك طبقا لاتفاقية «إعلان المبادئ» والتى تنصّ على أن لا يتم ملء السد إلّا بالاتفاق على قواعد التشغيل والجوانب الفنية الأخرى، ولكن أديس أبابا لم تكترث لأى من الضغوطات، بل قالت إنها ستدافع بقوة عن نفسها ومصالحها فى سد النهضة، محذّرة القاهرة من اللجوء إلى الخيار العسكرى الذى سيلحق ضررا بالسدود السودانية قبل غيرها.
شخصيا كنت أتوقع أن الرئيس الإثيوبى آبى أحمد على الذى حاز على جائزة نوبل للسلام فى 2019 وبدا خطابه معتدلا على الصعيدين الداخلى والإقليمى سيلجأ إلى خيار العقل والحكمة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وحسن الجوار والسلام، وليس إلى خيار انفرادى، فأديس أبابا مهما كانت علاقتها وثيقة بتل أبيب ومهما حصلت على دعم مباشر أو غير مباشر من أنقرة، فإنها فى نهاية المطاف دولة إفريقية، وأن ثلثى العرب هم فى القارة السوداء، وأنها ترتبط مع العرب بوشائج تاريخية، فلا بدّ من إيجاد مخرج لحل عادل وتسوية متوازنة فالجغرافيا والتاريخ يقفان إلى جانب مثل هذا الحل.
باحث ومفكر عربي
الشروق