2024-11-29 02:35 م

يوم القدس العالمي وأيام المُطبعين

2020-05-21
بقلم: د. وليد القططي 
بلحيته الطويلة وجلبابه القصير أمَر الشيخُ من المُريدِ أنْ يُجهّزَ نفسَهُ ومجموعتَهُ للسفرِ إلى أفغانستانِ منْ أجلِ الجهادَ في سبيلِ اللهِ، فسألَهُ المُريدُ مستغرباً: لماذا نذهبُ إلى أفغانستان رغم بعدها عنّا ونتركُ فلسطين رغم قربها منّا؟!، وأضاف متعجباً: وكيف تطلب منّا ذلك وليس بيننا وبين القدس إلاّ هذه الأسلاك الشائكة؟! ، فكيف لا تأمرنا أن نتخطاها ونجاهد فيها؟! . فأجابه الشيخ مُفسّراً: الأمة في سُبات، ولا يوجد راية للإسلام في فلسطين نجاهد تحتها، وأفغانستان هي الطريق إلى فلسطين وإن اختلف الاتجاه. فسأله: وكيف ذلك؟ ، فأجابه الشيخ: في أفغانستان سنستعد لتحرير فلسطين، ففيها سنتدرب على القتال، وسنعد كوادراً مجاهدة، حتى إذا ما تحقق النصر بإذن الله عُدنا إلى فلسطين مجاهدين. اقتنع المُريد وإخوانه بما ساقه الشيخ من مبررات، ولحقهم إلى أفغانستان شباب بالمئات، ثم أصبحوا بالآلاف بعد سنوات. فمرت السنون، وانتصر المجاهدون، فإذا هم شراذم يقتتلون، فعاد الأفغان العرب مجاهدين إلى كل بلاد الأرض- ما عدا فلسطين - ولم تُصوّب أي بندقية لهم باتجاه القدس وفلسطين. وفي مشهدٍ آخر، كان مُفكرٌ ببدلته الرسمية، يُجري حواراً فكرياً وسياسياً مع إخوانه ومُريديه، موضوعه حل الإشكالية التي أخرجت هؤلاء الشباب للقتال في أفغانستان دون فلسطين، وأخرجت غيرهم للقتال في فلسطين بدون الإسلام، فأثمر الحوار معرفة كلمة السر التي حلت الإشكالية، وهي: الإسلام والجهاد وفلسطين، الإسلام كمنطلق، والجهاد كوسيلة، وفلسطين كهدف. سألوه عن تلك البندقية البعيدة عن القدس والإسلام، فكان رده أنَّ البندقية التي لا توّجه بوصلتها نحو القدس مشبوهة، وأنَّ البندقية التي لا يوّجه الإسلام بوصلتها ضالة. وعند السؤال عن القدس وموضعها في الصراع، أجابهم: هي قلب فلسطين ومركزها، وفلسطين مركز الصراع الكوني بين الحق والباطل، فالقدس تختصر فلسطين والعالم... وفي الحوار عن يوم القدس العالمي، ذلك اليوم الذي أبدعه قائد الثورة الإسلامية في إيران ومؤسس جمهوريتها الإسلامية، جاء رده الواعي المُفعم بالإيمان والثورة: إنَّ يوم القدس يختصر الحاضر تاريخاً وجغرافيا ومعنى، إذ يعني أن يدوم الصراع حتى حل مشكلة الموازين المُختلّة، وأن يدوم الصراع حتى يكبر الخير ويشتد عوده، حتى يكتمل تمام الحق في مواجهة تمام الباطل، إذ يعني ألاّ تكون أورشليم، بل بيت المقدس. ما بين المشهدين يبقى يومُ القدس العالمي فاصلاً بين نهجين، أحدهما يوّجه بوصلته نحو القدس وفلسطين، وآخر يوّجه بوصلته في كل الاتجاهات ما عدا القدس وفلسطين. وما بين الحوارين يبقى يوم القدس العالمي شاهِداً على طريقين: الأول يريد أن تكون كل الأيام للقدس، وكل الأرض فلسطين، والثاني يريد أن لا يكون يوم القدس، وأن تُحذف فلسطين من الأرض. وما بين هذين النهجين والطريقين تصوّب بوصلة الأمة نحو القدس وفلسطين، أو تنحرف عن القدس وفلسطين، وهكذا تسير عجلة الأحداث منذ أيام حرب أفغانستان الأولى، وحتى أيام عربان التطبيع الأخيرة، مروراً بتصويب بوصلة المقاومة على يد حماس والجهاد الإسلامي نحو القدس وفلسطين، وانحراف بوصلة الجهاد تحت راية (الإسلام الأمريكي) بمنظومة عقيدية وفقهية أسست لانحراف بوصلة الجهاد ضد الكيان الصهيوني في القدس وفلسطين، فأصدرت طوفان الفتاوى الداعية إلى أولوية قتال (المرتدين والرافضة) على المحتلين المُعتدين وخاصة الكيان الصهيوني، فعاثوا في الأرض فساداً وقتلاً وتدميراً، حتى يخلوا لهم الأمر على بحر من الدماء والأشلاء، فلا يبقى على ظهر الأرض إلاّ فرقتهم الناجية وشعب الله المختار، وكأنهما فرعان لشجرةٍ خبيثة واحدة، ارتوت من ماءٍ آسن مخلوط بخلاصة الشر والسوء والضلال. والغريب العجيب أنَّ امتدادهم في فلسطين لم يرَ في الكيان الصهيوني عدواً قريباً يجب قتاله، فخرج منها ليُقاتل (عدواً بعيداً) وبقي المُعذّرون من الجهّال في فلسطين ليوجهوا بوصلة بندقيتهم إلى مجاهديها دون محتليها. وأيام المُطبعين المناقضة ليوم القدس العالمي لا تختلف كثيراً عن أيام اتباع قرن الشيطان من أنصار القاعدة وأصحاب الدولة، فكلاهما في انحراف البوصلة عن القدس وفلسطين سواء، وكلاهما مأموران غير مختارين، ومسيران غير مخيرين" وصاحب الأمر هو صاحب صفقة القرن، التي جوهرها تصفية قضية فلسطين، وبدايتها إعلان القدس عاصمة للمحتلين، وهدفها تطبيع العلاقات مع (إسرائيل) بدون القدس وفلسطين. وأصل الحكاية بدأت من (المبادرة العربية للسلام)، وشعارها الأرض مقابل السلام والتطبيع، ومع مرور الزمن كبرت مساحة العجز والضعف والهوان، وصغرت مساحة القدس وفلسطين في حسابات الأنظمة العربية، فسقطت الأرض من المقايضة، فقُدِم السلام للعدو دون الأرض، مُضافاً له التطبيع لتأكيد تبعية العُربان لأسيادهم الأمريكان، فبرزت على سطح أيام المطبعين نماذجاً من أقبحها شعار (فلسطين ليست قضيتي)، ومقال (نساء في ذاكرة التاريخ: جولدا مائير)، ومسلسل (أم هارون)، ومسلسل (مخرج سبعة)، والبرامج التلفزيونية التي تستضيف الصهاينة لعرض الرواية الإسرائيلية للعرب، وكل الجهود الإعلامية والدرامية لشيطنة الفلسطينيين، وأنسنة الإسرائيليين... وكل ذلك ضربٌ من انحراف بوصلة الأمة عن القدس وفلسطين لا يقل خطورة عن اتباع قرن الشيطان، فكلاهما يقودهما سيد واحد، فبئس القائد والمقود. خُلاصة القول أن القدس وفلسطين ستظل هي البوصلة التي يُميَّز من خلالها بين الحق والباطل، ويُفصَل فيها بين الصواب والخطأ، فمن يقترب منها ويوّجه بوصلته نحوها يقترب من الحق والصواب ويبتعد عن الخطأ والضلال، ومن يبتعد عنها يوّجه بوصلته لغيرها يقترب من الباطل والخطأ ويبتعد عن الحق والصواب. ومهما كثُرت أيام المُطبعين في الزمن الأمريكي الزائل لا محالة، فإنها ستظل أياماً عابرة في تاريخ الأمة، وسيظل يوم القدس هو كل أيام الأمة، ذلك بأن أيام المطبعين كشجرةٍ خبيثة لن تنبت في وجدان شعوب الأمة وستُجتث جذورها يوما ما ليُلقى بها في غياهب النسيان، وسيظل يوم القدس العالمي كشجرةٍ طيبة جذورها ضاربة في عقيدة الأمة ووجدانها، فكم كان مُبدعاً مؤسس يوم القدس وهو يربط بين قداسة الزمان في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، وقداسة المكان في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وقداسة القرآن في سورة الإسراء حيث وعد الآخرة بتحرير القدس، لتُثمر الثلاثية المُقدسة يوم القدس العالمي، الذي سيخرج فيه يوماً ما عباد الله أولي البأس الشديد ليُدمروا علو وإفساد دولة الباطل ويتبروا ما علو تتبيرا، ونراه قريبا.