2024-11-29 07:47 م

كورونا.. القيامة والكمامة!

2020-04-17
بقلم: عزالدين ميهوبي

كعادتهم يخرج المنجمون والفلكيون والعرافات وقارئات الكف والفنجان من شرنقتهم ليبشروا العالم بأيام أكثر إشراقا أو ينذروه بفواجع في 2020 فيقولون سيعم السلام الشرق الأوسط وتتعافى اقتصاديات العالم وتؤول جائزة نوبل للسلام لشخصية عربية، وبالمقابل ستحدث كوارث وزلازل واغتيالات، لأن القمر يقترب للمرة الأولى من الأرض، والمشتري يقترن بزحل، والزهرة ستكون على مدار عطارد، وكل يبحث في برجه عن حظ يبعد عنه التعاسة ويفتح أمامه أبواب الرزق من أهل المال والسياسة. ولم ينتبه العالم إلى التحذير الذي أطلقه الطبيب لي وين ليانغ في مستشفى وُوهان الصينية في أواخر 2019 منبهًا إلى فيروس غير عادي، قد يحول حياة الناس إلى جحيم، ولكن صوت الطبيب لم يتجاوز جدران المستشفى، ومات وفي حلقه غصة.. وتحول إلى مجرد رقم من الأرقام التي يعرضها علينا كل مساء الدكتور تيدروس أدهانوم..
كشف فيروس كوفيد 19، عورة العالم التي لا تكفي غابةٌ من ورق التوت لتغطيتها، وفضح خرافة القيم الإنسانية التي يتبجح بها المنتصرون بعد كل حرب مدمرة، فهي لا تعدو أن تكون أكثر من كذبة يطلقها الكبار فيصدقها الصغار ويدفعون ثمنها “كاش” رغم أنوفهم..

كشف كوفيد 19 أن التضامن بين الشعوب والتكافل بين الأمم مجرد شعار أجوف، لا يختلف عن فقاعات صابون أو حبات ملح تذوب في الماء، وكشف أن المنظومات التي تدار بها المجتمعات هشة أو مهترئة، لا تقوى على الصمود والمقاومة ولو لأسابيع، فعندما يجد الناس أنفسهم يعدون النعوش ويودعون أحبتهم عاجزين، لا يفهمون جدوى التغني بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والاقتصاد الحر في غياب كمامة أو جهاز للتنفس. ولا يجدون سببا للتغني بالمثل العليا التي تكرس سيطرة الأقوياء، سياسيا بالفيتو، واقتصاديا بما تقرره مجموعة الثمانية الكبار..

صحيح هناك عوالم ثلاثة، عالم لم تكفه الأرض فاحتل الفضاء وادعى ملكيته، وعالم يسعى لابتلاع ما ومن في الأرض، وعالم يعيش تحت الأرض. العالم الأول اعتقدَ أن التكنولوجيا والقوة الاقتصادية كفيلتان بجعله الحاكم الأبدي للأرض، يطوع ويروع شعوبها كما يشاء، إذا صفعها على خد صعرت خدها الآخر صاغرة، عالمٌ يعيش على الحروب، ويستثمر في ماضيه الاستعماري، ويبني فلسفته على الخوف والتخويف وهو الغرب بقيادة أمريكا، والعالم الثاني، آخر همه أن يدخل حربا أو ينفخ في رمادها، يفتتح في كل ساعة مصنعا، ويطرق أبواب كل البلدان عارضا منتجاته، يبيع الإبرة والقطارات السريعة.. يدرك أنّ تأمين قوت مليار ونصف من الأفواه لا يتحقق إلا بشعار “اعمل أو مت“.. عالمٌ تتراجع فيه الإيديولوجيا ويكبر فيه الاقتصاد، تقوده الصين وأخواتها، وعالمٌ ثالث، يتلمس طريقه في أرض ملغمة، لم يعثر على وصفة للخروج من بناء الطابق الأرضي للدولة، وهو لا يعرف طريقه إلى التطور والتنمية، فيلقي أحيانا اللائمة على الاستعمار، وأحيانا على الإمبريالية والعولمة المتوحشة، يراوح في مكانه، يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين، غارقًا في أزماته المتعددة الأشكال، مستسلمًا لأسئلة الخوف من المستقبل. عالمٌ يمثله ثلاثة أرباع بلدان العالم.

لقد شكلت محنة كورونا امتحانًا حقيقيا للعالم الذي وجد نفسه أمام مرآة الواقع التي كشفت عيوبه وما أكثرها، إذ لا يمكن لأي بلد، ولو كان عضوا في النادي النووي، أن يدعي قدرة على مواجهة الفيروس، وحماية شعبه ومنحه الطمأنينة اللازمة، فكل الأنظمة الصحية، مهما بلغت درجة تطورها وتعقيدها، تهاوت أمام سرعة انتشار الوباء، فانقلبت موازين التعاطي مع واقع الحال، وصار عاديا أن تتلقى إيطاليا الدعم من دول محدودة النمو، وانهارت كبرياء أمريكا في ظل عجز صريح عن منع تفشي الوباء، فألقت باللائمة على الصين ومنظمة الصحة العالمية لعدم تحليهما بالشفافية، وأبان العالم، في لحظة نفاق إنساني، عن ملامح مؤقتة لروح التضامن المفقودة، إذ تقول الحكمة “أثناء العاصفة يتعارف البحارة“. إنها استفاقة متأخرة، جاءت إكراهًا بالرغم من الكراهية التي تولدت عن صراعات الحرب الباردة ونزعة التفوق.

نعم، ليس هناك علاج متفق عليه بين الدول ومختبراتها، أحيانًا نسمع هنا وهناك، أن العمل يجري للوصول إلى لقاح، أو تطوير مصل مشابه، بينما منظمة الصحة العالمية تائهة بين خبر يدفع نحو التفاؤل ومعلومة تفتح أبواب السوداوية المرعبة. وكلما ازدادت حدة الفيروس انتشارا، زاد الحديث عن حرب المختبرات، بينما يستسلم العالم لما تضخه وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي من أخبار، يتداخل فيها الصحيح بالمغلوط أو المضلل، عن مشاريع حلول تكمن في أدوية الملاريا وتعديل في تركيباتها، أو باستخدام بلازما الدم، وأمام اليأس يلجأ الناس إلى الطب البديل، والعلاج بالعسل والزنجبيل والقرنفل والزعفران والحبة السوداء وخلطة الثوم والزيت والبصل وبخار الماء.. فيما أجمع الخبراء على أن العلاج الأفضل الذي لا يتم تحصيله من الصيدليات هو الوقاية بالحجر الصحي وغسل اليدين ووضع كمامة عند التواصل مع الآخرين والحفاظ على مسافة مترين..

عجيب أمر هذا العالم، دخل قلب الذرة، ونجح في فك شفرة الجينوم، واستثمر في الهندسة الوراثية، وأرسل مسابر لاستكشاف المجرات والبحث عن حياة في كواكب بعيدة، يقف اليوم عاجزا أمام فيروس، غير مرئي، عابر للقارات ومخترق للقصبات الهوائية.. عالمٌ يتجند بكل مقدراته من أجل كمامة.

في لحظة فارقة اكتشف العالم أن الصحة، فعلا، تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وهم في هذه الأزمة الوبائية سواء، لأن الفيروس “ديمقراطي” في فعلته، يدخل أكواخ الفقراء مثلما يلج قصور الأثرياء.. حيث لا يعنيه اللون أو الدين أو العرق أو الجاه أو المركز السياسي.. يدمر الرئتين ويرحل في ثانيتين.
واكتشف العالم حجم التقصير الذي مارسته الحكومات في حق شعوبها، فهي ترهقها بالضرائب ورفع الأسعار، والتضييق في الحرية، وتحد من روح المبادرة، وتعجز عن توفير كمامات تقيها الوباء وشره..

إذن، من حق مواطن في بوتسوانا أو غواتيمالا أو سلوفينيا أو سريلانكا شأنه شأن مواطن أمريكي أو ألماني أو ياباني أو انجليزي أن يسأل لماذا يتم تخزين ترسانات الأسلحة الفتاكة، وتقام آلاف القواعد العسكرية التي تستنزف ميزانيات الدول، وتبقي على ثلاثة أرباع سكان العالم تحت خط الفقر، وفوق خط الموت، لا يملكون تأمينا على حياتهم، وأسوأ من ذلك، لا يملكون كمامة تؤجل موتهم إلى حين.

هذه الأيام، بدا كثير من كبار أمريكا أمثال كارتر وكيسنغر غاضبين من الرئيس ترامب، ومن أسلوب تعامله مع بقية العالم، مستهدفا خصومه الديمقراطيين في الداخل، وخصومه في الخارج، الصين وإيران والاتحاد الأوروبي كعادته، إذ قالوا له، منذ نصف قرن، لم نسمع أن الصين دخلت حربًا أو أنفقت دولارا واحدًا في نزاع مسلح، بل وجهت جهودها لبناء اقتصاد قوي، وإنشاء آلاف المصانع والبحث عن أسواق لها في كل بلاد الدنيا، بينما دخلت أمريكا مئات الحروب والنزاعات باسم توسيع النفوذ ومحاربة الإرهاب والتبشير بالديمقراطية والحرية، وأنفقت خمسة آلاف مليار دولار على وَهْم قيادة العالم.. وهي اليوم عاجزة عن توفير كمامات لمواطنيها الذين يموتون مختنقين بفيروس.. أسماه ترامب في بدايته الفيروس الصيني، إحراجا لـشي جين بينغ، غير أنه لم يجد بُدا من طلب الدعم بعد أن ابتلعَ الطعم.

الوباء لا يستثني أحدا، وهو يحصد الأرواح أمام دهشة العالم. فترامب يشكو قلة حيلته أمام ما يحدث.. وارتفاع أعداد المصابين لم يُقنع الجمهور بالتبريرات المقدمة، وبدا أن أسلوبه كرجل أعمال لم يتغير إزاء الأزمة، فهو يبرز جهود إدارته بالأرقام، ويتعاطى مع كورونا وكأنها سلعة في السوق يسعى إلى إغراقها خاصة إذا كانت صينية المنشأ(..) وبقدر إحصائه للأموات، يتحدث عن البورصة وإنعاش الشركات، والمحافظة على مناصب الشغل، ودعم الفئات المحرومة.. ولأن الأمر لا يخلو من السياسة، فهو يعرف أن انتخابات الخريف المقبل على الأبواب، وأن متاعبه بدأت مع كوفيد 19 وزادت مع الركود الاقتصادي وتقلبات سوق النفط وانحسار الدولار الذي تخلت عنه الدول الآسيوية لصالح اليوان وارتمائها في جلباب العم بينغ، بحثا عن الأمان.. إن ترامب في معركته مع كورونا والوضع الاقتصادي لا يختلف عن سيزيف وصخرته..

يقول هنري كيسنغر إن الأمريكان اليوم يكتشفون “معنى الموت“، الموت بالجملة، وليس بالمفرق، كما هو في حروب كثيرة دخلوها بحسابات الربح، وخرجوا منها بنتائج الخسارة.. وهذا ستكون له تبعات كبيرة. ولعل من المظاهر التي سجلتها بعض المواقع الإلكترونية، والتي أبانت عن ضغط نفسي كبير بسبب انتشار الوباء حتى أن هناك من شبهها بحالات الفزع التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر. الهلع في كل مكان.

ومن مفارقات المشهد الأمريكي القاسي أن أصواتًا ارتفعت في المكسيك تطالب ترامب بالإسراع في بناء الجدار العازل بين البلدين حتى لا تنتقل عدوى كورونا.. فالهجرة لم تعد تستهوي المكسيكيين أو تسيل لعابهم. هم يعرفون “معنى الحياة“.

هناك إجماعٌ على أن ساسة أمريكا، اليوم، باختلاف توجهاتهم، محكومٌ عليهم بإعادة تحميض الصورة النمطية التي تكرست عنهم في عيون الأمم الأخرى، لأن منظريهم في جامعات يلْ وجورج تاون وهارفارد وستانفورد، أوْهَمُوهم أنهم هم من يصنع التاريخ ومن يغير الجغرافيا، ومن يعلم الناس كيف يجدون متعتهم في الماكدونالد والبيسبول.. ويُكرهون العالم على قبول أنهم النموذج الأوحد والأخير للبشرية. صدقوا كذبة منظري حقبة القوة والمواجهة، هنتنغتون وفوكوياما، ففضحهم كوفيد 19 المخادع.. العالم ليس واحدًا، إنه متعدد بالفطرة. ولم تكن كتابات المفكرين والمحللين السياسيين الأمريكان أكثر تشاؤمًا كهذه المرحلة..

لا يختلف اثنان في أن أوروبا هي التي التهمت الحربان العالميتان أكثر من خمسين مليون من أبنائها وأبناء مستعمراتها، وشهدت قبل ذاك أكثر من وباء ابتلع الملايين أيضا، هُم يحاولون التعالي على عدد ضحايا الفيروس بالقول “جاء بغتة.. ولم نكن مهيئين له“، ثم شرعوا في تصفية حسابات الدكاكين فيما بينهم، مما جعل الاتحاد الأوروبي يبدو كأفراد عائلة وقعوا في ورطة، يسعى كل واحد منهم لإنقاذ رأسه، والخروج من المأزق بأخف الأضرار. ولعل صورة إيطاليا، شهيدة كورونا، وهي تعد ضحاياها كل يوم، أمام عجز كامل للدولة ومؤسساتها، ودهشة شعبها، هي صورة لبؤس التضامن الأوروبي الذي يخفي كثيرا من الأنانية، إذ صارت أيقونة الحضارة والتاريخ القديم والإبداع الراقي في أوروبا تستجدي الجيران والأصدقاء أمام الارتفاع المهول لعدد الأموات، فلم تجد سوى طواقم بوتين وخبراء شي جين، وأطباء كاسترو..

استيقظ الاتحاد الأوروبي متأخرا، لأنه شعر أن الفيروس سيفعل بالقارة العجوز ما لم يفعله البريكسيت بعد خروج الانجليز، وأنه سيزيد الهوة ويوسع الشرخ، ويهدد البيت الأوروبي بانهيار وشيك، ويعود كل بلد إلى شرنقته الأولى، فتسقط المواطنة الأوروبية، وتستعيد القوميات الأصلية حيويتها، ويقول الآباء المؤسسون وداعًا لماستريخت ولفضاء شينغين.. وليلزم كل واحد كوخَه، ويأكل برتقاله وخوخَه.

منذ البداية ظهر رأيان حول جائحة كورونا، الرأي الأول يقول إنه نتاج مختبرات سرية هدفها تركيع الصين لأمريكا، أو العكس، أمريكا للصين، في ظل الحرب التجارية القائمة بينهما، والتي اشتدت مع مجيء ترامب وتحرشاته المتواصلة بالتنين، أو ربما هي شراكة بين دول لتحييد الصين وروسيا عن مركز الاستقطاب الجديد، وتُذكر إسرائيل كطرف فاعل في هذه المعادلة، وبعضهم يرى أنها تهدف لتأديب الاتحاد الأوروبي الذي لم يحسن إدارة شؤونه، فهو يعيش حالة تيهان مستمر أو إرباك سياسي، مرة يتهيأ له أنه مستقل تماما، ومرة يقترب من روسيا، ومرات يميل إلى أمريكا، وأحيانا إلى الصين، أو يبدي مرونة مع إيران.. وهذا ما يرفضه ترامب جملة وتفصيلا، فعلى الأوروبيين أن يحفظوا وديعة مارشال، رأسمال العلاقات التاريخية بين العالمين الجديد والقديم.

عشرات التقارير المنسوبة للمخابرات الأمريكية أو الأجهزة المنتحلة، أو غيرها، تشير إلى أن الأمر دُبر بليل، وأن كورونا المستجد حلقة في حرب طويلة، لا يُعرف إن كان الأمر مبيتا، أو حدث في ووهان ما حدث في تشيرنوبيل، من فقدان للسيطرة على انفلات فيروسي غير محسوب، أو أنه، كما جاء في الرواية الصينية، جاء بفعل تسريب من الجيش الأمريكي على الأراضي الصينية، وليس هناك من يؤكد أو ينفي، لأن الفأس وقعت في الرأس.

وهناك من يقول إن حكاية الوباء وردت في كتب فكرية وروايات أو أفلام الخيال العلمي وو.. تتحدث عن فيروس مبتكر سيفتك بشعوب العالم، وأنه سينطلق من مدينة ووهان الصينية، على غرار رواية “عيون في الظلام” The Eyes of Darkness التي صدرت في 1981 للكاتب الأمريكي دين كونتز Dean Koontz والتي يتحدث فيها بصريح الكلمة عن فيروس فتاك يظهر في ووهان أي قبل أربعين عاما. وغيرها من الكتابات التي عززت نظرية المؤامرة، ويذهبون إلى أن طبيبًا أمريكيا اسمه تشارلز ليبير Charles LIEBER، يدير دائرة البيولوجيا والكيمياء في جامعة هارفارد، هو من قام بتصنيع الفيروس وابتاعته الصين منه، واستخدمته بالصورة التي أدخلت العالم في كابوس مرعب. وتذكر المصادر أنه تم القبض على ليبير.. والأيام وحدها ستكشف مدى صحة المعلومة. ويسعى آخرون إلى إلصاق الـتهمة بـبيل غيتس Bill Gates لأنه تحدث منذ سنوات عن إمكانية ظهور فيروسات قاتلة في المستقبل.. وربما هذا ما يدفع الخبراء إلى التساؤل: لماذا يصل الفيروس إلى كل بقاع العالم، وينتشر في القارات الست، ولا يدخل العاصمة بيجين حيث قيادة الصين السياسية ومدينة شنغهاي حيث القيادة الاقتصادية، وهما قريبتان من ووهان؟ وكيف نجحت الصين في السيطرة على انتشار الوباء في أسابيع قليلة بينما فشلت دول قوية، منها أمريكا.. هذا كلام تروج له دوائر في الغرب في محاولة لتبرير العجز التام والاستسلام للوباء، وهي في النهاية قراءات تتم تحت طائلة نظرية المؤامرة.

وهناك من يقول إن تقريرا لمجموعة علماء أصدروه في عام 1973 بأستراليا حذروا من أن العالم سيواجه كارثة بيولوجية وبيئية في 2020 بسبب التلوث والاحتباس الحراري.. وأنها أشبه بالقيامة أو نهاية العالم. وتذهب بعض القراءات المغرضة إلى أن الغرب أراد أن يتخلص من العجزة وكبار السن، ممن يتجاوزن العقد السابع، فأرسل عليهم الفيروس الذي يخلصهم منهم دون أدنى كلفة.. وهي قراءات فاقدة لأية قيمة إنسانية، وهي لا تختلف عن نظرية الموت الرحيم..

أما الرأي الثاني فيرى أن ظهور جائحة كورونا، هو لعنة حلت بالبشر، لأنهم حادوا عن الطريق القويم وخالفوا الشرائع والنواميس، وأنهم يغالبون خالقهم في خلقه، وأنها بمثابة امتحان رباني للبشرية التي خانت وعدَ الله.. لهذا نشر كثير من الناس مقولات أو تنبؤات على ألسنة أسماء نكرات في التراث الإنساني، إذا استثني نوستراداموس الذي فُسرت بعض رباعياته الشهيرة على أنها تتنبأ بالفيروس القادم من الصين، وأكثرها سوادًا تلك التي تتنبأ بمستقبل فرنسا غير المحمود العواقب، ويذهب المتنبئ الفرنسي إلى أن الاقتصاد العالمي سينهار كليا.

هناك، مثلا، من أخرج كتابا تراثيا عنوانه “دعائم الدهور” أو عظائم الدهور لمؤلف اسمه أبو علي الدبيزي(..) ونسب إليه أنه ذكر في أرجوزة له أن وباءً قاتلا يأتي من الصين وسببه الخفاش، وسيصيب كثيرا من الأقوام وخاصة الطليان.. ويُرجع مروجو هذا المخطوط إلى أنه يعود للعام 565 للهجرة، أي قبل أحد عشر قرنًا.. وهذا دليل على الكذب والتلفيق، علمًا أن مخطوط الدبيزي مذكور في المراجع التراثية ولكن لا أثر له.. وكثيرة هي الحكايات الصفراء التي يحفل بها عالم الأنترنيت المثقل بالمغالطات والأكاذيب والخرافات..

كتب المفكر الفرنسي المولود بالجزائر جاك أتالي مقالا حول كورونا وتأثيره على العالم الذي وجد نفسه بين مطرقة الفيروس وسندان الانهيار الاقتصادي، ولا خيار إلا البحث عن حلول للأزمتين معًا، وإلا فلا يمكن التنبؤ بما سيكون. يقول أتالي إن الوباء العظيم، أو ما أطلق عليه الموت الأسود، الذي أتى على ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر دفع الإنسان إلى الاحتماء بالكنيسة، وأن وباء القرن الثامن عشر جعل الناس يلجؤون إلى قوة الدولة، ومع كوفيد 19 وجد الناس ملاذهم الأخير في المشافي والمصحات.. وبالتالي فإن كل وباء يحيل الإنسان على قوة تحميه، إما رجل دين أو شرطي أو طبيب. هو بحاجة إلى خيط يتعلق به، لا خيار له. وحتى نكون أكثر إنصافا، فإن مواجهة الوباء لا يمكن أن تتم إلا بالدواء والدعاء.. والحجر في البيوت، أي بفعالية المختبرات وبقوة وصدق الإيمان.

ولعل الشيء الذي أكد أن الناس يتعلقون بأدنى قشة عندما يجدون أنفسهم على مسافة شبر من القبر هو العودة إلى الله وكتبه السماوية، فقد شاهد العالم الإيطاليين وهم يتضرعون إلى الله، مؤمنين أو ملحدين، لأنهم جربوا كل شيء، ولا حل إلا في معجزة.. وفي مشاهد أخرى، لوحظ خروج بعض الوُعاظ من دعاة الكنيسة الأنجليكانية في شوارع نيويورك وهم يدعون الناس إلى التوبة عن الانحراف، فما يجري هو إرهاصات القيامة.. وهو المشهد الذي يتكرر في شوارع المدن الكبرى، المتضررة من الوباء، روما، بروكسل، طنجة.. وهي تتضرع إلى الله ليصرف البلاء ويبعد الأذى.. وفي عديد المنابر، يفسرون غلق دور العبادة من مساجد وبيَع وكنائس على أنهُ دليلٌ على غضب من الله. الله يُمهلُ خلقهُ ليتوبوا عن الضلال الذي هم فيه ويعودون إلى رشدهم.

وخصصت مجلة “نيوزويك” الأمريكية منذ أسابيع مقالا أشارت فيه إلى أن النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، هو أول من اقترح الحجر الصحي إذا ما انتشر الطاعون، بقوله “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها“. وتساءلت المجلة إن كانت قوة الصلاة فعلاً قادرة على هزيمة الوباء؟.

لم يصدق الناس أن أوروبا التي أنجبت الثورة الصناعية وتفوقت في التكنولوجيا وبناء مجتمعات متحضرة، تعجز ـ كأي بلد تحت محدود النمو ـ عن مواجهة الوباء، وكيف تفشل أنظمتها الصحية عن التكفل بالأمر، فقد سمع الناس نداءات الإستغاثة تطلع من روما ومدريد ولندن وأمستردام.. مثلما سمعوها منذ سنوات من مونروفيا ولاغوس وكوناكري وفريتاون بعد تفشي وباء إيبولا. أمام الوباء، لا فرق بين من يصنف كقوة عظمى ومن ينتسب لعالم تحت الفقر. والأمر المستهجن في ظل هذه الجائحة، عندما يجرؤ أطباء فرنسيون على اقتراح إجراء تجارب للقاح كوفيد 19 على الأفارقة للتأكد من فعاليته، وهو ما اعتُبر موقفا عنصريا منبوذًا.. بل يؤكد وجود نزعة كولونيالية لدى الذين يفكرون بهذا المنطق الأخرق، وكأن الأفارقة فئران تجارب.

لم يتفق العلماء والساسة في الوصول إلى أجوبة نهائية مقنعة بشأن هذا الوباء الذي يحصد الآلاف يوميا، هل هو بفعل فاعل، امتحان إلهي، أم بفعل فاعل، قوة استخبارية تسعى لتركيع أخرى؟ هل تقف وراءه جهة تهدف لتحقيق ضربة تجارية تاريخية؟ هل يمكن الوصول إلى لقاح يقي البشر فيروس الشر؟ إلى أي حد يمكن للعالم أن يصمد أمام إكراهات الحجر وماذا عن قدرة الدول على تأمين القوت اليومي لمليارات الأفواه في ظل الركود الاقتصادي وموت الإنتاج؟ وأسئلة أخرى، من قبيل كم حكومة ستصمد إذا استمر الوضع على ما هو عليه؟ هل سيبقى النظام الدولي بتركيبته الحالية أم ستعاد هيكلته ليس على أساس القوة، ولكن على أساس الحفاظ على وحدة الكوكب وانسجام شعوبه؟ وهل سيصدق الناس مستقبلا القيم التي تبشر بها الأنظمة القائمة؟ وكأننا على مشارف القيامة أو أضحى عالمُنا منتهي الصلاحية. وبالتالي فالذي لا يختلف حوله اثنان أو ثلاثة، هو أن العالم سيخرج مُنهكا من هذه الأزمة، منهكٌ صحيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ونفسيًا، سيكون عالمًا بالغ الهشاسة، يتنفسُ ببطء، وكأنه أدرك شيخوخته قبل الأوان.

ما يمكن استخلاصه أن كل الأجوبة تبقى مجرد تخمينات وافتراضات، ولكن المؤكد أن مقاومات شرسة ستحدث بعد أن تحط الحرب على الوباء أوزارها. مقاومة للحفاظ على الإرث التاريخي للأنظمة الغربية والشرقية وما بينهما على السواء، أي تنقذ ما يمكن إنقاذه، ولو تشهد المرحلة سقوط حكومات، وتزول من شاشة الرادار السياسي مئات الوجوه التي أخفقت في إدارة الأزمة، ومع هذا يكون السؤال الأكبر في الغرب خاصة هو أين مكانة التضامن الإنساني في أجندة الحوكمة المستقبلية؟ وهل يمكن ترميم المشاعر التي ترك فيها الوباء ندوبًا عميقة؟ وهل ستُبقي بعض الدول على نمط المجتمعات المؤسسة على الفرد دون المجموعة؟ وهل سيتعزز موقع أنظمة الشرق، بقيادة الصين وروسيا، كونها أشعرت مواطنيها، وجزءًا من العالم، أنها تمتلك آليات الدولة المانحة المجموعة أولوية على الفرد الواحد، كون المواطن في الغرب يتبع الشركة التي تؤمن له قوت عياله، وما انتماؤه للدولة إلا مجرد حق في المواطنة، بينما في الشرق، ينبع الولاء للدولة من تأمينها الشروط الضرورية للعيش بين الجماعة والإفادة من ريع الدولة.. وهناك دول تأخذ بالنظامين، لذا بدت درجة الاحتجاج أقل ضررا، وأوفر أمانا. بلا شك، سيبحث العالم عن أنظمة أكثر مواءمة للحق في الحياة، وربما تثور الشعوب على الحروب التي لا رابح فيها سوى كارتلات السلاح التي يدير أصحابها دفات الحكم، في هذا البلد وذاك، كما يريدون.. ويرتفع منسوب الضغط على الأمم المتحدة لتُنهي بؤر الصراع والتوتر المتجدد في نقاط من العالم، كالشرق الأوسط، وربما يعود الناس إلى أفكار الأنبياء والفلاسفة والساسة الملهمين أمثال النبي محمد، وكونفوشيوس والفردوسي وماركس ولينكولن وغاندي ومانديلا ولي كوان ومهاتير.. ليعيدوا صياغة عالم جديد يتخلص فيه من فيروسات الأنانية والكراهية والخوف.

العالم بعد كورونا، وهي حتميّة تاريخية فرضها عارضٌ صحي عميق، سيعيد صياغة المفاهيم والقيم التي دمرها فيروس الأنانية، فيعيد بناء منظومة قيم جديدة تلامس كل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي ونفسي، للحفاظ على الجنس البشري، وأن يكون التضامن بين الأمم هو عنوان المستقبل، وأن يرتكز الاهتمام على ضرورة حماية الكوكب، وتنظيف رئتيه من إفرازات مصانع الموت التي تسبب فيها الإنسان، وتحريره من الإحتباس الحراري بفعل التغير المناخي المقلق وإفراغه من التلوث القاتل، وجعل بيئة الأرض أكثر قابلية للحياة. إن من حتمية الأشياء أن تخصص أغلفة مالية كبرى لتأمين البشر من الأوبئة والأمراض المستعصية. بلا شك، سيمتلك العالم الجرأة للبحث في مسببات المجاعة والتطرف والإرهاب والهجرة السرية والإتجار بالبشر والمخدرات وحماية التراث الثقافي الانساني، وأن يتجاوز العالم مفاهيم الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان والحق في الاختلاف إلى الحوار من أجل حماية الإنسان وكوكبه. وسيرتفع خطابٌ نبذ ثقافة العنف والكراهية في مختلف أشكال التعبير والإبداع، وستتعزز مكانة القيم الروحية في مختلف المجتمعات، وتُعلن الحربُ على الحروب والنزاعات المسلحة التي تستنزف موارد الشعوب الفقيرة التي لا تملك نمط عيش ثابت، ويأخذ التكافل بين البلدان مكانا متقدما في العلاقات الدولية، ويُعطى مفهوم الاقتصاد التشاركي قيمة أكبر مستقبلا، وتبرز البدائل الجديدة في الطاقة والاقتصاديات الناعمة، فضلا عن تطوير منظومات البحث العلمي والتكنولوجي لأجل تفكيك أسئلة ما استعصي على الطب والتصدي للأوبئة والأمراض المزمنة لبلوغ سقف مقبول من راحة الإنسان.. وبذلك تأخذ قيم السعادة والتعاون والمبادرة مكان البؤس والخوف والأنانية..

قد تُستبق هذه التصورات بمراحل انتقالية ببروز أجيال حاملة لهذه الأفكار والقناعات، أو ما يمكن تسميته أجيال ما بعد كورونا. قد تكون مجرد تهويمات أو تهيؤات لقيم مُثلى، أو أن فيها شيئا من جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، لكن التاريخ علمنا أنه بعد كل وباء يلبس العالم رداءً مختلفًا، يأنس فيه إلى مجتمع آمن.. وإذا اختزلنا الصورة، فيمكن القول إن العالم سينتقل من العولمة السالبة لحق الإنسان في أمنه وغذائه، إلى الأنسنة العادلة التي من شأنها أن تعيد العالم إلى جوهر العيش المشترك والتعايش الحتمي، بعيدا عن حسابات الدين واللغة والعرق والإيديولوجيا. إن فك شفرة المستقبل تكمن في بناء العالم/العائلة.

بوابة الشروق