2024-11-30 02:33 م

كيف تفقد بلاد الحرمين بوصلة النجاة ؟

2020-04-16
بقلم: المهدي بوتمزين
إن البسيطة التي تنزلت عليها أسمى الرسالات السماوية و بعثت فيها أفضل الرسل و كانت محلا للدعوة الإبراهيمية '' ربي إجعل هذا البلد اَمنا '' , لا يستقيم أن نتعجل الحكم المسبق على إيالتها و سياستها حتى تقام الحجة البينة و الدليل الواضح . فالجزيرة العربية بما تحمله من إرث ديني و تاريخي تبقى المرجع الأساس لباقي الدول العربية , فهي صاحبة المشورة العظمى و إمام أهل الحل و العقد فيما سبق أو جد و استجد . و حتى وقت قريب كانت السعودية تتمتع بالمكانة المتميزة في نظر الجميع بما يليق بمقامها الديني أولا ؛ هذا قبل إنطلاق شرارة الربيع العربي التي أربكت كل الحسابات فأدخلت الدول العربية في صراع ضد الزمن تحسبا لربيع خليجي يمكن أن يباشره التيار الإسلامي الذي يملك اليد الحديدية في الجزيرة العربية . الأمر الذي َبرح خفاءه وتجلت حقيقته هو التصور التقليدي الجليل و المزيف تلازميا ؛ الذي طالما حملته الشعوب العربية في أعماق أحاسيسها اتجاه الإيالة السعودية . فحتى في وقت سابق لما استغلت الدعوة الجهادية الوهابية لإرسال المجاهدين إلى أفغانستان و إتحاذ ديانات ملونة مثل نموذج الإسلام السياسي بين السلفية و الإخوان المسلمين ؛ بقيت الصورة المتبلورة في المخيلة الشعبية العامة أو في الفكر الخاص بالنخبة المثقفة المنقِبة عن الحقيقة التاريخية و صدقية المعطيات الاَنية ؛ ظلت تتراوح بين الأبيض و الرمادي دون أن تتجرأ ولو من باب الحق في التعبير على أن تخترق الطيف المرئي المزيف الذي ظل راسخا في أفاق العين المجردة غير مدرك بوجودية حقائق مطقلة سوداوية مخالفة ؛ فيما وراء الطبيعة المألوفة حول المملكة السعودية . النهج الحالي للعربية السعودية يتجاوز الموقف الثاني ليركن في الدرجة الرابعة أو الخامسة , لأن أية فرضيات أو إحتمالات ماضوية لا يمكن أن تتوقع ما اَلت إليه الرياض حاليا . من يصدق أنها أضحت كما وصفها البعض ب 'لاس فيغاس العرب '' , لكن أن تحمل وصم'' البقرة الحلوب'' من قبل قائد الروم فهذه من الفرية و الأبنة في الحكم و الدين . فإذا كان ما يحدث في لاس فيغاس يظل محصورا فيها , فإن ما تملكه خزينة السعودية من أموال العامة لا يبقى فيها إنما يقدم كإتاوة أو في أسوء التصورات السياسية يقدم كهبة إلى البيت الترامبي الذي مازال ملونا بالأبيض على الأقل ظاهريا . أستحضر هنا نظرية الإستذكار الأفلاطونية التي تعتبر أن العالم المثالي هو الكفيل بتقديم تصورات معرفية حقيقية لكن عندما يسقط الإنسان – في مقامنا هنا الدولة- إلى الوجود المادي فإنه يفقد اَلية توليد المعارف ذاتيا ليصبح مجرد متلقي جامد و سلبي لما سبق إكتسابه من معرفة عن طريق الإستذكار فقط . هذا يسري على الرياض أيضا كمدينة فاضلة عاشت في ظل الحياة الخيرة قبل أن تقذف بنفسها إلى العوالم السفلى حيث الديستوبيا المؤطرة بالمادية المقيتة و السياسة المتلونة و الفوضى الخلاقة . أولى الكبوات كانت في خياراتها السياسيىة عندما وقفت في محور الثورة المضادة لقرارات الشعوب العربية ؛ التي باشرت ربيعا عربيا قبل أن تتاَمر عليه قوى الغرب الإمبريالي فتجعله خريفا يهلك الحرث و الزرع و الأموال و الأعراض في حواضن ثورية عديدة . الركون إلى هذا الخيار يحمل دلالات قوية عن ارتباط متين بالمرجعية الغربية التي تعلن شعار الديمقراطية إعلاميا و توطد ذلقراطية و رجعية جاهلية في مستعمراتها السالفة . المعنى المستنبط الاَخر يحيلنا إلى الرُّهاب من انتقال المد الإنتفاضي الرافض للحكم الأوتوقراطي التحكمي و التهكمي الذي لا يعطي محلا لقرارات الشعوب , التي ترى اليوم بعين العولمة ما بلغته و حققته نظيراتها من الشعوب الغربية من تنزيل فعلي لروح العقد الإجتماعي . الوضع الطبيعي و الفطرة السليمة التي يجب أن تكون عليها المملكة السعودية هو الحياد اتجاه القضايا الداخلية للدول العربية . أما موقفها حيال المد الشيعي الذي تقوده جمهورية إيران الإسلامية فلا يصح إلا أن نصطف إلى جانب الحق ؛ و الحق في مقامنا هذا هو كبح التوسع الإسرائلي و الغربي - من خلال قواعده العسكرية المتقدمة - بدل الجنوح إلى صراعات طائفية مفتلعة و الكمون وراءها بدل مواجهة الخطر الحقيقي الذي لا يقتصر على نتائج الإختلافات الفقهية و العقائدية أيضا بين المذهبين السني و الشيعي حول الإمامة و غيرها ؛ لكن الأمر المريب حقا هو السعي الصهيوني الحثيث لإقامة الهيكل السليماني المزعوم ؛ دون إغفال الهدف الإستراتجي المبطن الذي يهدف لرسم خارطة إسرائيل الكبرى على الواقع , و التي تجُبُّ أطراف شمالية من السعودية و فصل قبلي للمدينة المنورة و مكة المكرمة . في يوم وقفت رئيس وزراء إسرائيل '' جولدا مائير'' على شاطئ خليج العقبة صادحة بقولها المأثور '' إني أشم رائحة أجدادي في خيبر '' . في هذا السياق أحبذ أن أذكر أن ما أورده في المتون أو الهوامش من دعوة صريحة لمواجهة الحركات السياسية أو الفكرية أو حتى التجارية التي تؤثر سلبا على الكينونة العربية, لا يعني البتة أني أقف في إحدى الخندقين , بل أعتبر أن الغرب قدم نموذجا حضاريا راقيا في التاريخ الحديث , كما أحس بالإرتباط الإنساني مع اليهود و التعلق الديني مع ديانتهم السماوية , لكن هذا التقدم لم يترجم على المستوى الكوني , فما زالت تجليات التشرذم و الإنحطاط تتجلى عبر الحروب المستمرة و المستعرة ضد الرسالة الختامية و حمَلتها . إن محاولة تقييم السياسة الحالية للعربية السعودية يضعنا لزوما أمام نتائج سلبية ستكون لها اَثارها الخطيرة على المدى القريب و البعيد إذا لم يتم تدارك هذه الأخطاء و إعادة إحياء الدور الروحي و الواقعي لبلاد الحرمين . فالتدخل السعودي في أكثر من جبهة دون تحقيق مرامي واضحة جعلها تتخبط و تتكبد الألم و الحسرة , بدءا من حصار دولة قطر و التدخل في سوريا تارة بدعم جيش الإسلام و تارة أخرى بدعم النظام السوري نفسه لتكون جزءا من اَلة التدمير الذاتية للجسم العربي الذي بات فاقدا للحكمة و الأناة . أما القشة التي قسمت ظهر البعير فكانت عاصفة الحزم بقيادة السعودية التي شنت حملة عسكرية ضد الحوثيين لكن سرعان ما تهاوت على أرض سبأ , حيث يبدو أن القيادة العسكرية السعودية لم تخطط جيدا لهذه الحرب أو مازلت فاقدة للحنكة العسكرية بعد أزيد من 40 سنة على حادثة جهيمان العتيبي . فالسعودية التي تريد دعم الرئيس اليمني الحالي'' عبد ربه منصور'' ذي الخبرة العسكرية التي جمع فيها بين المدرسة الغربية – بريطانيا – و المدرسة الشرقية – الإتحاد السوفياتي سابقا- وجدت نفسها قاصرة عن صد هجمات قوات غير نظامية تمكنت من ضرب أهم المنشاَت الصناعية '' أرامكو'' . الأمر واضح , ليس هناك حاجة لمزيد من السقطات المدوية بعد حصار دولة خليجية صديقة '' دولة قطر '' و الفشل المريع في الحرب اليمنية التي أرتكبت فيها جرائم حرب موثقة لدى الهيئات الحقوقية . و اليوم يخرج الحوثيون منتصرين في اللعبة السياسية أيضا , من خلال دعوة عبد الملك الحوثي السعودية لتبادل أسراها مقابل إفراج هذه الأخيرة عن أسرى حركة حماس . فالرياض لا تعادي فقط الحوثيين و إيران و قطر بل تشمل دائرة خصومها المقاومة الفلسطينية أيضا . و تقعيدا على ما سبق أعتبر أن مجمل الخيارات التي تنهجها السعودية اليوم لا تصادف الصواب , فالمملكة العربية تعرف أزمات داخلية قوية بسبب أحقية ولاية العهد و وراثة الحكم , إضافة إلى الإعتقالات اللاقانونية و اللإنساتية التي طالت الجميع بما فيهم العلماء و الدعاة . في مقابل تثبيت نمط حياة جديد يتماهى و النمط الغربي الذي يتجاوز حرية المرأة إلى هدم أساطين الدولة الإسلامية بل و القبيلة في الجزيرة العربية . فهل نشهد حالة من الإستثنائية فيما يمكن اعتباره داخلية أخلاقية تجعل من القناعات الشخصية دافعا و تسويغا حاسما للتغيير , فأي تصور موضوعي ستكون عليه أرض الحرمين بعد هذا التحول السريالي الذي لم يكن أحد من المفسرين و المعبرين أن يستطيع توقعه أو تقديم صورة حقيقية حوله في فهم أشراط الساعة , كما هو الاَن الحال مع هيئة الترفيه .