د.علي مطر
أدى انتشار وباء كورونا إلى إعادة الحديث عن القيم والمبادئ الإنسانية. بدأت على اثره تختلط المفاهيم في النظرة السياسية، والفلسفة المجتمعية، خاصة في الغرب الذي وصفه الإمام السيد علي الخامنئي بالمتوحش، مستدلاً على ذلك بطرق التعامل مع انتشار الوباء وحماية الناس والتقاتل على أبسط الوسائل لمواجهة الفيروس، مما يفضح العنصرية والفردية التي تقوم عليها الفلسفة الغربية. لقد أشار سماحته في هذا السياق الى أن "قرصنة المساعدات الإنسانية والتمييز بمعالجة المرضى تعكس ثقافة الغرب القائمة على الفلسفة المادية الفردية"، في مقابل فلسفة مجتمعية اخرى قائمة على القيم الإسلامية التي تجسدت في التضامن والتكافل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي قامت على هذه القيم منذ تأسيسها على يد الإمام الخميني قدس سره، منطلقة في بنائها السياسي والمجتمعي والاقتصادي من الشريعة الإلهية لا من الفلسفات الوضعية الإنسانية خاصة التي تحكم العالم اليوم والقائمة على الليبرالية.
اولاً: الغرب بين التقدم والأزمات الأخلاقية والاجتماعية
لقد وضع انتشار وباء كورونا حكومات العالم خاصة تلك التي تدعي التطور والتقدم أمام اختبار صعب لادعاءاتها العلمية والسلطوية والقيمية، لكنها فشلت في هذا الامتحان الذي يعتبر الأول من نوعه، حيث ان البشرية على مختلف منطلقاتها ومشاربها في العالم لم تصل وفق ما يبين الإمام الخامنئي الى "مرحلة الامان وليست سعيدة، مليارات الناس ليس لديهم طمأنينة اليوم ولديهم اضطراب وقلق"، خاصةً النماذج الليبرالية التي كانت تدعي احتكار التقدم، لتقسم العالم وفق مصالحها إلى عالم متقدم معولم ومدوّل تحتكره وعالم نام تنظر إليه بعين الاحتكار، وهذا ما ولّد أيضاً شعوراً بعقدة الدونية لشعوب هذا العالم، نتيجة البروباغندا الإعلامية والتي كانت تطال ايضاً المشاريع الإسلامية وتعتبر أن الإسلام غير قادر على قيادة الامة.
لقد فضح انتشار الوباء الأزمات الأخلاقية والاجتماعية لدى الغرب، حيث يقول الإمام الخميني قدس سره في كتابه الحكومة الإسلامية، إنه حتى لو ذهب أولئك إلى المرّيخ، بل إلى المجرّات أيضًا، فسيظلّون مع هذا عاجزين عن تحقيق الفضائل الأخلاقيّة والرقيّ النفسيّ، وغير قادرين على حلّ مشاكلهم الاجتماعيّة، إذ إنّ حلّ مشاكلهم الاجتماعيّة وتعاستهم يحتاج إلى حلول عقائديّة وأخلاقيّة. وتحصيل القوّة المادّيّة أو الثروة، والسيطرة على الطبيعة والفضاء، كلّ ذلك لا يؤمّن الحلّ. فالثروة والقوّة المادّيّة والسيطرة على الفضاء، هذا كلّه يحتاج إلى الإيمان والاعتقاد والأخلاق الإسلاميّة، ليكتمل ويعتدل ويكون في خدمة الإنسان، لا وبالًا عليه.
ثانياً: ترويج عجز الحكومة الإسلامية
لقد سعى الغرب المستعمر دائماً إلى ترويج مفهوم فصل الدين عن السياسة، على أساس أنّ الإسلام لا شأن له بالسياسة أو الحكم أو الحكومة أو إدارة المجتمع، وأنّه ينحصر في أحكام العبادات، وغير ذلك من الشؤون الفرديّة في علاقة الإنسان مع ربّه. وقد قال الإمام الخميني قدس سره في كتابه الحكومة الإسلامية في هذا الصدد: "كانوا يُشِيْعون أنّ الإسلام ليس دينًا جامعًا، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم..لقد أوحى إلينا المستعمرون أنّ الإسلام ليس فيه حكومة، ولا يمتلك نظام حكم! وعلى فرض وجود أحكام فيه، فليس لديه سلطة تنفيذيّة (حاكم)، والخلاصة أنّ الإسلام مشرّع فحسب. ومن الواضح أنّ هذه الدعايات جزءٌ من مخطّط المستعمرين لإبعاد المسلمين عن السياسة وأساس الحكومة".
لقد وضع المستعمرون خططًا وبرامج ضمن مشروعهم لإحكام السيطرة على بلادنا الإسلاميّة، ومن أجل إخراج الإسلام الحقيقيّ من حياة المسلمين. وقد ساهم ذلك في تغرّب الأمّة عن ثقافتها، ومن ضمنها ولاية الفقيه، وسبب موقف المستعمرين من الإسلام ودعايتهم ضدّه، هو ما يشكّله من مانعٍ دون الوصول إلى غاياتهم، لا بسبب جانبه العباديّ الفرديّ. لكن الدين الإسلامي بل جميع الأديان الإلهية وفق ما يقول الإمام السيد علي الخامنئي في معالجة هذه النقطة "تحتوي في داخلها على السياسة والعلم والحياة والقضايا الاجتماعية. فالدين مدير حياة الإنسان على كافة الصعد ومنها الصعيد السياسي. وعلى عكس ذلك فإن ظاهرة الاستعمار التي أغرقت عشرات البلدان وملايين البشر طوال سنوات متمادية في أحلك وأشد المحن، من الظواهر التي وقعت بسبب فصل العلم عن المعنوية والسياسة عن المعنوية، والدولة عن الأخلاق في أوروبا".
ثالثاً: الإسلام يقود الحياة
من الواضح أن ما أوصلنا إلى ما يحصل اليوم، هو ابتعاد السياسة عن الأخلاق وخلوها من الجوانب المعنوية والفضيلة الأخلاقية. أي أن "تتغلب الممارسات الشيطانية على السياسة، وتسيطر عليها الأهواء النفسية للأشخاص ومصالح الطبقات المتغطرسة وأرباب المال في المجتمع وتأخذها ذات اليمين وذات الشمال" وفق ما يفند الإمام الخامنئي أيضاً. فالدين والسياسة جزآن لا ينفصلان أبداً. فلا يمكن أن تكون هناك قوة بدون سياسة ولا يمكن ان تكون قوة بدون دين. الدين هو منهج الاستقامة بالنسبة للسياسة فلولا الدين لانحرفت السياسة عن الشرع السماوي الذي يضمن الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، فإن "سياستنا عين ديننا، وديننا عين سياستنا". لهذا لا بد من خط تكاملي بين السياسة وبين الدين فكل منهما يكمل الآخر ولا بد أن يتلازما خطوة بخطوة حتى نضمن القوة في كل الجوانب.
ويمكن الاستناد في قياة الإسلام للحياة، إلى ما كتبه السيد الشهيد العظيم محمد باقر الصدر ضمن كتب طبعت تحت عنوان: "الإسلام يقود الحياة"، ولا سيما كتاب "خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء" وكتاب "تصور عن دستور الجمهورية الإسلامية"، وكذلك بحث السيد الشهيد في كتاب منابع القدرة في الدولة الإسلامية، حيث أشار قدس سره إلى القدرات الهائلة التي تتميز بها الدولة الإسلامية في مجال التطوير الحضاري للأمة، والقضاء على أوضاع التخلف، فرأى أن إقامة الدولة الإسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب، بل هي ضرورة حضارية، وذلك لتميز الدولة الإسلامية بميزتين رئيسيتين هما:
1- التركيب العقائدي للدولة.
2- التركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم في واقع عالمنا الإسلامي.
فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية يتميز بوعيها لهدفها الذي تتجه نحوه وهو الله سبحانه، والذي يشكل بدوره الوقود والزخم في اندفاعتها، وذلك إنه هدف مطلق غير محدود. والهدف المطلق لا تخمد جذوته، بل هي في حالة اتقاد دائمة وإشعاع مستمر. كما يتميز بأخلاقيته، وتحريره للإنسان من الانشداد إلى الدنيا ومغرياتها، وإرادته له أن يكون سيداً لها لا عبداً. ومن أجل ذلك عمد الإسلام إلى تبيان حقيقة الدنيا في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الشريفة. وللتركيب العقائدي للدولة الإسلامية أيضاً مدلولات سياسية تقوم بأدوار عظيمة في تنمية الطاقات الخيرة لدى المرء، وتوظيفها لخدمة الإنسان منها:
أـ "استئصال الدولة الإسلامية لكل علاقات الاستغلال الاقتصادية والفكرية والسياسية التي تسود المجتمعات. ب ـ الوضع الواقعي الذي يعيشه الحاكم ومن حوله كمواطنين اعتياديين في الأمة في حياتهم الخاصة، من المساواة بينهم وبين رعيتهم.
ج ـ تعامل الدولة الإسلامية على الساحة الدولية على أساس الحق والعدل ونصرة المستضعفين، لا على أساس الاستغلال وخداع الناس تحت هذه العناوين البرّاقة". وهذا ما نراه تحديداً في تعاملات الجمهورية الإسلامية في إيران.
وقد كشفت أزمة كورونا أهمية قيام الدولة بوظائفها العامة اتجاه الأفراد، حيث يرى السيد الصدر أن المسؤوليّات العامّة للدولة الإسلاميّة والتي من أساسياتها بحسب ما يشير في كتيب " الإنسان منهج حياة" والتي التزمت بها الجمهورية الإسلامية في إيران ايضاً خلال مواجهة وباء كورونا وصولاً للبدء في السيطرة عليه على عكس الولايات المتحدة الأميركية التي تمثلت في إدارة دونالد ترامب الاستعلائية على شعبه في الداخل وعلى شعوب العالم، ومن أهم هذه الوظائف:
أ- مسؤوليّة الضمان الاجتماعيّ انطلاقاً من حقّ الأمّة جميعها في الانتفاع بثروات الطبيعة وخيراتها.
ب- مسؤوليّات التوازن الاجتماعيّ، بمعنى توفير حدّ أدنى من الراحة والرفاه لكلِّ أفراد المجتمع من خلال توفير إمكانات العمل وفرص الإنتاج للجميع، ومن خلال منع تجاوز مستوى المعيشة بصورة حادّة، أو احتكار الثروة في طبقة خاصّة.
وبالتالي فإن القول بأن الإسلام يقود الحياة ينطلق من:
أوّلاً: أنّ الإسلام ليس ديناً وعقيدة فقط، بل هو ثورة ومنهج للحياة في كلّ زمان ومكان.
ثانياً: لقد استطاعت ثورة الأنبياء عليهم السلام كثورة اجتماعيّة أنْ تُزيل مواقع الظلم والاستغلال نهائيّاً.
ثالثاً: أنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحيّة دائماً، ومن منطلق عناصره الثابتة والمتحرِّكة، بحيث يُمكن أنْ يستوعب كلّ مشاكل الحياة المعاصرة ووضع العلاج المناسب لها.
رابعاً: تحتوي الشريعة الإسلاميّة على خطوط عامّة ومؤشّرات أساسيّة ترتسم من خلالها صورة متكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ، ومن أبرز تلك المؤشّرات والخطوط ممارسة المعصوم (نبيّاً أو وصيّاً)، بحيث تُشكّل بمجموعها دلالة ثابتة يُمكن أنْ يستفيد منها الحاكم الشرعيّ (وليّ الأمر) في عصر الغيْبة، والعمل على تحقيق أهدافها وقيمها ضمن نطاق صلاحيّاته الشرعيّة.
خامساً: لقد وضع الإسلام صورتين لأحكام الثروة والموارد الطبيعيّة، الأولى: الصورة الكاملة للمجتمع الإسلاميّ، والثانية: الصورة المحدّدة للفرد وعلاقاته مع الطبيعة والإنسان الآخر.
وفق ما تقدم، نرى أن الإسلام في حال طبق بشكله الصحيح في الدولة الإسلامية، كما طبق بعد الثورة الإسلامية في إيران، فهو الأقدر على قيادة هذه الحياة بوجود هامات عالية كالإمام الخميني قدس سره والإمام الخامنئي للقيام بدور الحاكم الإسلامي صاحب المعايير السليمة القائمة على العلم والعدالة والقيادة الحكيمة لإدارة الأمة وهذا ما ظهر في كل الأزمات التي عصفت بهذه الدولة التي تخطت كل تلك الأزمات على الرغم من الحروب والحصار الظالم والجائر الذي تشنه الولايات المتحدة الأميركية هذه القوة الاستكبارية القائمة على أفكار الهيمنة والتي لم تظهر إلا التوحش والتعجرف خلال كل مسيرتها السياسية وصولاً إلى تعامل إدارتها مع أزمة وباء كورونا.
(العهد)