بقلم: ستيفن أ. سيش*
قبل خمسة أعوام، سارعت المملكة العربية السعودية وبكل قوتها إلى حشر نفسها في حرب أهلية على الأراضي اليمنية، دون أن يكون لديها أية نظرة مسؤولة إزاء العواقب التي قد تترتب على ذلك.
والآن وبعد مرور كل تلك السنوات العجاف، ها هي مرة أخرى تطلق العنان لخيالها الجامح لتفكر في الانسحاب من تلك الارض بعد أن دمرتها ومزقتها شر ممزق؛ الأمر الذي أثار الكثير من المخاوف في ظل عدم وجود ما يؤكد إدراكها الجيد للآثار والتبعات التي قد يتمخض عنها تنفيذ ذلك القرار إذ بات من الواضح انها كانت أقل إدراكاً لتلك المخاطر لدى تورطها في هكذا صراع.
ومنذ بداية الخريف الماضي، شرع السعوديون في التفاوض بشكل مباشر مع جماعة أنصار الله، التي أدى الأتساع المقلق لرقعة نفوذها في اليمن في أوائل العام 2015 إلى إعلان التدخل العسكري لقوات التحالف العربي الذي تقوده الرياض.
وبالرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته المحادثات الثنائية في أواخر العام 2019، إذ تمكنت من التخفيف من حدة ذلك الصراع الدامي، إلا أن ذلك لم يُكتب له الاستمرار، حيث شهدت وتيرة الحرب تصاعداً مقلقاً في الأسابيع الأخيرة على أثر توغل القوات البرية لجماعة أنصار الله داخل مناطق في شمال اليمن كان يعتقد سابقاً أنها عصية المنال.
قبضة أنصار الله الحديدية على العاصمة صنعاء:
وفي ضوء تلك التطورات العسكرية، التي زادت من حدة الانقسام في صفوف التحالف العربي بقيادة السعودية، بدأت مصداقية الرأي القائل بأن أنصار الله قد انتصروا بالفعل في الحرب تلقى ترحيباً كبيراً في الأوساط السياسية. وفي ظل مثل هذه الظروف، سوف يغدو الحوثيون أقل ميلاً لتقديم التنازلات، الأمر الذي سيجعل من الجهود السعودية الهادفة إلى الانسحاب لحفظ ماء وجهها أكثر تعقيداً وأقل قابلية للتنفيذ.
فضلاً عن ذلك، لا يخفى على أحد أن أنصار الله يستحوذون على مقاليد الحكم في العاصمة صنعاء، كما يمارسون سيطرة لا منازع لها على غالبية سكان اليمن البالغ تعدادهم 30 مليون نسمة، حيث يعيش معظمهم في المرتفعات الشمالية التي تمنح الحوثيين ميزة استراتيجية لا يستهان بها.
ومن هذا المنطلق شكلت درجة التفوق العسكري التي يتمتعون بها العنصر الذي يمكنهم من أجراء المناورات المنهكة للقوات الموالية لحكومة الرئيس اليمني الهارب، عبد ربه منصور هادي – المعترف به دولياً– على غرار صنيعهم في الأسابيع الأخيرة.
وهي هذا السياق، ترى المحللة اليمنية، ندوى الدوسري، أن “التحركات العسكرية التي يقوم بتنفيذها الحوثيون استراتيجية وتتماشى بالتوازي مع الاشتباكات الحاصلة في جنوب وغرب البلد؛ ومن المحتمل أن يغدو ذلك سبباً رئيساً في تمكين أنصار الله من توسيع نطاق نفوذها في جميع أنحاء المنطقة مرة أخرى”.
وفي الوقت الذي تهدد فيه الحرب بابتلاع جميع الأراضي اليمنية التي اتسمت بالهدوء النسبي حتى وقت قريب، لا زال المفاوضون السعوديون مستمرين في جهودهم على أمل التوصل إلى صيغة مرضية مع نظرائهم الحوثيين لتأمين الحدود الجنوبية للمملكة لما في ذلك من أهمية كبيرة وضرورية لتتمكن الرياض من إنهاء تدخلها العسكري في اليمن.
ومن الوارد بشدة أن يكون إخفاق الجانب السعودي في تحقيق أهدافه الأخرى، التي تشمل استعادة شرعية حكومة هادي والتقليل من الوجود الإيراني على الأراضي اليمنية إلى حد آمن، ليس سوى محاولة بائسة للتحلل مما حمله على عاتقه من مسؤولية:
ففي المقام الأول، تسود الساحة الدولية، وعلى نطاق واسع، نظرة واثقة بعدم قدرة الرئيس هادي على قيادة اليمن؛ ومن المعلوم للجميع أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2216 – الذي تم اقراره في العام 2015 – هو ما مكَّن هادي من البقاء في منصبه، كونه يقر بصيغة صريحة “بشرعية الرئيس هادي”، في الوقت الذي كانت تطالب فيه جماعة الحوثي بمطالب محددة؛ ولكن في الوقت الراهن وعقب الزخم الكبير الذي باتوا يتمتعون به على إثر الانتصارات الأخيرة التي حققوها في ساحة المعركة، من المرجح أن يجد أنصار الله تلك المطالب أقل إغراء مما كانت عليه منذ خمس سنوات مضت.
وفيما يتعلق بالمكاسب التي يعرضها النظام الشيعي في إيران على الحوثيين، فمن المرجح أن يعتمد السعوديون إلى حد كبير على اعتقاد الحوثيين بأن الرياض في وضع أفضل من طهران، المتعثرة والضعيفة اقتصادياً، ليقدموا لهم كل ما يحتاجون إليه على المدى الطويل.
وفي هذا الاتجاه ذهب المحلل اليمني، عبد الغني الأرياني، إلى التأكيد على حقيقة “أن سكان منطقة صعدة، التي تمثل القاعدة الرئيسية والتقليدية للحوثيين والتي تقع شمال غربي اليمن، كانوا لفترة طويلة من الزمن على ارتباط وثيق بالسعودية.
وعلى مدى أجيال، كانت صعدة جزءً هاماً من الاقتصاد السعودي, كما أن الزواج والروابط العائلية الممتدة عبر الحدود كانت ولا زالت شائعة, ومن هنا، لا شك أن الوضع الحالي، الذي جعل منهم أعداء للمملكة العربية السعودية، ليس سوى حالة استثنائية”.
وإلى جانب ذلك، لا نغفل هنا قدرة الرياض على توفير المساعدة الاقتصادية اللازمة لإعادة أعمار منطقة صعدة وكذلك انعاشها اقتصادياً؛ زد على ذلك أنها أكثر قدرة من طهران لضمان حصول أنصار الله على مستوى عالٍ من التمثيل في أي حكومة وحدة وطنية مستقبلية وبما يتناسب مع النفوذ الذي يتمتعون به حالياً في البلد.
وعموماً يتمثل التحدي الذي تواجهه المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن في الضرورة التي تحتم عليها عدم الانسحاب من معركتها دون إرساء القواعد الأساسية لحل سياسي مستدام يحول دون تقسيم اليمن.
وفي حال عدم توفر ما يلزم لتحقيق ذلك سوف يتبقى أمامها خيار واحد يستلزم منها أبرام صفقة مع الحوثيين تؤمن بها الحدود المشتركة معها فقط؛ إلا أن لجوئها لمثل هكذا خيار من شأنه أن يقضي فعلياً على كل أمكانية لأجراء مفاوضات وطنية أكثر أتساعاً في المستقبل، كما سيدفع بالعناصر الحوثية الأكثر تطرفاً للاستفادة من المكاسب الأخيرة التي حققتها الرياض أو حتى التوجه نحو إنهاء الحرب عسكرياً.
وعلى ما يبدو أن مثل هذا السيناريو قد بدأ في التبلور على أرض الواقع في ظل الاستعدادات الجادة التي شرعت فيها القوات التابعة للحوثيين لشن هجوم بري على محافظة مأرب باعتبارها آخر معقل لحكومة هادي في شمال اليمن.
ومنذ مطلع العام، كانت تلك القوات تحرص جيداً على فرض سيطرتها على الأراضي التي تمكنت من سلبها من القوات الموالية للحكومة الشرعية، بل وتحرص كذلك على التقدم باستمرار نحو مدينة مأرب التي تعد عاصمة المحافظة.
ومن زاوية أخرى، من المؤسف القول بأن معركة ضارية للسيطرة على هذه المنطقة الغنية بالنفط والزخم الاقتصادي المحرك للمنطقة ستشكل كابوساً حقيقياً لما يقرب من 800 ألف يمني من الذين دفعت بهم الحرب للنزوح إليها.
ومن الوارد أيضاً، وكما ذكرنا سابقاً، أن يوفر ذلك للحوثيين مساراً جيداً لمحاولة أخرى لاستعادة الأراضي الجنوبية التي كانوا مضطرين للتخلي عنها في المراحل الأولى من الحرب تحت ضغط الزخم العسكري الكبير الذي مارسته قواته التحالف بقيادة السعودية آنذاك.
وليتم تحقيق ذلك، قد يميل الحوثيون إلى عقد صفقة عاجلة مع المجلس الانتقالي الجنوبي المتمركز في عدن, ولا شك أن ذلك التنظيم ذو العقلية الانفصالية قد برز على الساحة الجنوبية كقوة لا يستهان بها منذ البداية؛ وما ذاك إلا بفضل دولة الإمارات العربية المتحدة التي قدمت له كل ما يلزم من دعم ومساندة على مختلف الصعد سياسياً وعسكرياً ولوجستياً؛ ومن المعروف أن هذه الأخيرة عملت بكل جهدٍ على تدريب مقاتلي ذاك التنظيم، فضلاً عن الدعم السياسي الحاسم الذي مكن المجلس الانتقالي الجنوبي من تأمين موقعه في مدينة عدن، وهو تطور عارضته حكومة هادي بشكل قاطع دون الخروج بأي نتيجة تعكس ذلك المسار المحسوم.
بل وعلى العكس من ذلك، ففي نوفمبر من العام 2019 تم تعزيز وتوسيع نفوذ المجلس الانتقالي بشكل أكبر من خلال توقيع اتفاقية الرياض التي أعطت الجنوب تمثيلاً متساوياً في حكومة وطنية مقرها عدن، كما ضمنت له، وللمرة الأولى، مكاناً خاصاً في أي مفاوضات مستقبلية حول شكل اليمن ما بعد الصراع.
وبعبارة موجزة، فإن كل صفقة من هذا القبيل قد يبرمها الحوثيون مع الميليشيات وقوات الأمن المتحالفة معهم سابقاً سوف تهدد بتقسيم اليمن على نحو لم يسبق له مثيل.
وفي مثل هذه الحالة، سيكون الجزء الوحيد من اليمن الذي يحمل سمات الدولة هو الأراضي التي يسيطر عليها أنصار الله في الشمال، بينما ستنحدر بقية البلاد نحو هوة من الفوضى والتناحر، حيث ستقتتل الجماعات المسلحة التي تجمعها المصالح الإقليمية أو القبلية أو السياسية فيما بينها لفرض سيطرتها على الأراضي والموارد.
وللحيلولة دون الوقوع في سيناريو مماثل ومزيد من التدهور في الوضع الإنساني المتردي بالفعل في اليمن، لا بد من استمرار الرياض في مشاركتها السياسية؛ وبالرغم من أن ذلك يتعارض مع المصالح السعودية إلا أن واشنطن تحظى بما يلزم لحملها على تغيير تلك المصالح بفضل علاقات التفاهم القائمة بينهما.
وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تضغط على السعوديين للسعي نحو إنهاء مشاركتهم في الحرب من خلال المفاوضات، كانت كثيراً ما تتوجس من الاعتماد على القيادة في الرياض نظر لعدد القضايا الأخرى التي ترى أنها تحتاج إلى دعم سعودي اعتبارا من قضية أسعار النفط وحتى حملة الضغوط التي تمارسها على النظام في إيران, ولكن لعل الوقت الآن قد صار مناسباً للاستفادة من بعض الثقة التي اكتسبتها مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قبل أن يتحول الزخم بشكل حاسم إلى ساحة المعركة، مما يعني استمرار الحرب والمعاناة المأساوية التي ألحقها بالسكان المدنيين في اليمن على مدى خمس سنوات ماضية.
* السفير الأميركي الأسبق في اليمن (2010-2007) ونائب الرئيس التنفيذي الحالي لـ “معهد الدول العربية الخليجية” في واشنطن.
(صحيفة “كوريية أنترناسيونال” الفرنسية – ترجمة: محمد السياري – سبأ)