2024-11-29 07:41 م

أممية الفيروس.. وشقاء الإنسانية

2020-03-21
بقلم: الفضل شلق
في مواجهة الكورونا، يستخدم الانسان، من رجال الدين في لبنان.. الى رؤساء الامبراطوريات في العالم، مجازاً أو تشبيهاً، مصطلح “الحرب”. كأن الحرب بين طرفين، يحمل كل منهما معنى أو ايديولوجيا أو تطلّعا للسلطة والسيطرة التي تحتاج الى قوة حربية للدفاع عنها. هو بكل بساطة موجود ويشكّل خطراً على الانسان، كما يشكّل كل نوع حي، بطريقته، خطراً على الكائنات الحية الأخرى. يتغلّب كل نوع يكون أكثر ملاءمة للطبيعة. هاجس الفيروس التلاؤم مع الطبيعة لا الحرب. هاجس الانسان الحرب على الانسان والطبيعة؛ السيطرة على الطبيعة من أجل السيطرة على الانسان الآخر. ليس عند الفيروس طبقية، بل مساواة كاملة. لا تراتبية اجتماعية حيث تعيش طبقة على حساب طبقات أخرى، وحيث تصنع طبقة ثروتها وتجمعها من قوة عمل الآخرين: البروليتاريا وغيرهم. ليس للمعاني عنده أهمية. لا أخلاق. هو أدنى أشكال الحياة وأسرعها انتشاراً. نستخدم مجازات الحرب للصراع معه لأننا تعودنا أن تكون المواجهة بيننا هي الحرب؛ كأننا لا نعرف غير الحرب سبيلاً.

سؤال المرض يطرح نفسه. هل هو الانسان (المريض) أم الفيروس؛ وهل المرض إلا حالة اعتبارية؟ من المؤكد أن الفيروس لا يعتبر نفسه مريضاً؛ بالتالي فهو غير مريض. أما الانسان، فهو لا يستطيع الإرساء على تعريف المرض؛ هل هو حالة غير اعتبارية؟ لا يريد الانسان أن يخضع لقوانين الطبيعة، فيقبل تكاثر الإصابات الى أن يصل المنحنى (الإصابات) الى أقصاه، وعندها يكون الانسان قد اكتسب مناعة، فيتداعى المنحنى ويزول تدريجياً كل أثر للفيروس.

كان بالإمكان تلافي الفيروس باستخدام العلم والتقنيات، لو كان عند الرأسمالية أولوية الحياة لا الربح. أهملوا عن عمد مراكز البحوث الجرثومية لدواعٍ مالية عند الحكومات وما يُسمى القطاع الخاص كي ينصرفوا الى بحوث علمية صيدلانية في سبيل الربح. لا أولوية للانسان. هذه الأدوية تصبح بعد فترة من الزمن “جينريك”. يفقد المكتشف احتكار حق الملكية ويصير الدواء أو اللقاح، ويصير الإنتاج “جينريك”، أي الإنتاج لمن أراد. إنتاج الأدوية واللقاحات في سبيل الربح بسبب الكثير من الشكوك عند الناس؛ هناك أيضاً نظرية المؤامرة بأن الوباء مفتعل لمصلحة دواء ما وشركة ما ورأس مال ما. ليس عند الفيروس ميل للتكاثر في سبيل الربح. نُموه يشكّل مرضاً معدياً عند الانسان. لكنه لم يفكر بذلك. ليس عنده أفكار. الأفكار عند غيره، كالانسان، هي دائماً في خدمة الانسان على الانسان، والطبقة على الطبقة.

الأسوأ أن الانسان يمكن أن يستخدم هذا الفيروس وغيره سلاحاً بيولوجياً. عداء الانسان للانسان حسب التركيبات الاجتماعية والقومية، يفوق عداءه للفيروس. ربما يرى البعض في الفيروس القاتل، معاذ الله، سلاحاً قاتلاً في حرب بين قطيع بشري وآخر. على كل حال، سمعنا مصطلحات “القتل” و”الحرب” عند متكلمي السياسة في العالم حول المواجهة بين الانسان والفيروس.

فجأة مع انتشار الفيروس يتحدث قادة العالم في كل دولة عن التعاون في المواجهة. على الجميع تنفيذ تعليمات الدولة والتعاون والتكاتف والتضامن وراء القادة في سبيل إلحاق الهزيمة بعدو غير منظور؛ عدو خطر. يمكن أن يعيق نموه وانتشاره توسع البشرية، إن لم يكن هلاكها.

سؤالان هنا يتبادران الى الذهن. أولاً، هل جرى تطوير الفيروس في مختبرات؟ وهل كان في النية استخدامه صناعيا – حربيا؟

بوسع غيرنا الجواب على هذا السؤال الذي ربما لن يكون هناك جواب عليه. سيبقى الأمر سراً. لدى سلطات الدول أسرار مخيفة. منها أسرار صنع السلاح النووي الذي إذا تم استخدامه يبيد البشرية. وهو يتوفّر لدى 15 دولة. مصدره الأساس الولايات المتحدة الأميركية. السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية: لماذا تطلب الحكومات (الطبقات الحاكمة) التعاون البشري والتكامل في هذه الظروف فقط؟ ألا يحتاج الانسان الى التعاون في غير ظروف الأزمات؟ وأهم أشكال التعاون التوقف عن إنتاج الفقر والفقراء والمعدمين والجوع والحرمان والمحرومين. أم أن التعاون مطلوب لأن الفيروس لا يميّز بين طبقات المصابين ولا بين قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم. لم يزر الفيروس دائرة سجل النفوس ليعرّف عن طائفته.

تتعرّض البشرية للخطر. جميعها هذه المرة من دون تمييز. ابناء الطبقات العليا أكثر خوفاً على حياتهم. يدافعون عن أنفسهم حين يطالبون بالتضامن والتكافل. ما كان مصير مليارات البشر ليكون مهماً لديهم لولا أن الفيروس يهددهم بحياتهم الهادفة لتكريس المزيد من الثروة. عملياً، يعيشون من أجل الثروة. ربما لا يوجد متعة أخرى تضاهيها، وإلا لما أصروا على أولوية الثروة. التنامي غير المحدود للثروة لا الكفاية هو هدفهم.

أما كانت البشرية تحتاج من الطبقات الحاكمة والمحتكرة للثروة الى الدعوة للتعاون والتكافل في جميع الظروف؟ ألا تحتاج الحياة العادية الى علاقات أكثر انسانية وعدالة ومساواة بين البشر؟ ألا تستحق النيوليبرالية، والرأسمالية عامة، إعادة النظر ليس فقط لإزالة تفاوت المداخيل الهائل في سبيل حياة أكثر اطمئناناً؟ أليس الفقر والثروة مصدراً من أهم مصادر شقاء الانسانية؟

تستخدمون الانسانية حينما تحتاجونها للحفاظ على حياتكم الخاصة والثروات. لا تحتاجون البشرية إلا للعمل وإنتاج الثروة لكم في الأحوال العادية. تتسامحون مع البشرية في أوقات الأزمات التي تهدد وجودكم (أو وجود الجميع طبعا)؛ فقط في أيام الأزمات. تعيدون البشرية الى التنابذ والفقر في الأحوال العادية. تتعاملون مع الطبيعة بنفس الأسلوب. تدمرون الطبيعة في سبيل الربح والثروة. في أوقات الأزمة تعودون الى التفكير في نتائج حروب الدمار الشامل وأسلحتها. تذيعون يومياً على الشاشات نتائج “ول ستريت” وبقية البورصات. هلا صنعتم، وبيدكم السلطة، وباقي أجهزة الدولة، بورصة للفقر؟ إنتصرتم على فيروس كورونا إلا انكم لن تستطيعوا الانتصار على أنفسكم. الانتصار على الجشع الذي يكون جوهر أنفسكم ويقرر سلوككم ويجعلكم تقررون سلوك البشرية على هذا الأساس.

عاش الانسان الأول في انسجام مع الطبيعة والكون. في زمن الرأسمالية تعيش الطبقة العليا في عداء مع الطبيعة ومعظم البشرية والكون. ابتدعت الأخلاق والدين والايديولوجيا والأكاديميا لصالحها. جُيّرت المعرفة لصالح جمع الثروة. جيّرت الانسان ليصير عبداً. جمعتم الآلهة البدائيين وصيرتموهم في واحد ليكون الانسان عبداً له، وبالتالي عبدا لكم. التاريخ البشري ليس مشرفاً. هو تاريخ تسلّط وحروب وتجميع البشر في قوميات وأديان تقاتل بعضها وانتم تضحكون من هبل الانسان العادي الذي يقاتل من أجلكم، في حين يعتقد أنه يقاتل في سبيل قضايا كونية كبرى. زرعتم في أدمغة الفقراء أنهم يقاتلون من أجل خلاصهم عندما يقتلون بعضهم البعض في الحرب من أجلكم.  وهذه المنطقة العربية ضحية نفطكم. أدخلتم في ذهن العرب أن النفط في أرضهم هو ملكهم بينما يصادره الغرب في الحقيقة. وجاءنا “رجل” من أقصى المدينة ليقول لنا أن “اكتشاف” و”استخراج” النفط في لبنان سيكون حلاً للأزمة المالية وليس للطبقة العليا والشركات العالمية.

تعرّف الرأسمالية الطبيعي بأنه ما هو سائد، سواء أكان أبدياً أو جاء تطوره تلقائياً ليتوّج مسيرة البشرية عبر السنين. تُغفل الرأسمالية أنها نظام بدأ منذ بضعة قرون وسينتهي عندما تتوفر الظروف. هي ليست نظاماً طبيعياً، بالتالي إزالته لا تحدث خللا بتوازن الطبيعة. العكس هو الصحيح. إن انتهاك الرأسمالية للطبيعة يجعلها خطراً على الانسان كما أن إنتهاكها للإنسان العامل يشكّل خطراً على الطبيعة (نرى آثار ذلك في نتائج انتشار الكورونا فيروس) وأن انتهاكها المال يجعله مجرد سجلات في مصارف يشكل خطراً على التبادل، وعلى الإنتاج والاستهلاك، أي على الاقتصاد عامة.

مشكلة البشرية الآن هي أنها لا تجد حلاً للرأسمالية، مثلما وجدت حلولاً لأنماط العيش السابقة. لا شك أنها بنت عالماً معولماً ينتقل من أزمة الى أزمة، ويخلق متاعب الاستقرار حول المصير عند الجميع في مواجهة الكورونا فيروس. لا تطمئن الى النظام الرأسمالي سوى قلة قليلة من البشر. تعطي الأزمة السلطات الحاكمة حول العالم سلطة غير مسبوقة في أنظمة تعتبر نفسها ليبرالية لتقيّد حركة البشر وما يتبع ذلك من تقييد لحرياتهم.

النظام الطبيعي هو الكورونا فيروس. وجد فرصة انتشاره في اكتظاظ البشرية ووسائل النقل وطرق توزيع المواد الغذائية واستعداد الرأسمالية للغش في المنتجات وانتهاك الموارد الطبيعية. الرأسمالية لا يهمها في الإنتاج والتوزيع إلا الربح. أنهكت الإنسان بما فعلته من استغلال وبنى اجتماعية ومعمارية ووسائل نقل لا تفيد إلا في انتقال الفيروس. لم يكن النظام العالمي الرأسمالي قادراً على المواجهة، خاصة في البداية، لأنه لم يفهم القادم الجديد ولم يتوقعه. تؤملنا الرأسمالية بإيجاد اللقاح لمعالجة الوضع. سيأخذ الأمر شهوراً عديدة. يكون الفيروس قد انتشر وحصد الملايين وواجهه الجسم البشري بمناعة تقلل أثره. في هذه الأثناء، يخسر الملايين من البشر أرواحهم.

تجد الرأسمالية فرصة للربح الى أن تستطيع شركاتها (وما يُسمى الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام، كما يسمي ذلك زعماؤها وحكام العالم) من مواجهة الوضع.  تطلب من البشرية أن تتضامن وتتكافل لحين توفّر المضادات. وعندها تكون البشرية جاهزة لشكر الرأسمالية على انجازاتها. وتكون الرأسمالية حققت أرباحها وراكمت ثروات غير مسبوقة، خلال ذلك تكون البشرية خاضعة لأخطار أكثر إماتة.