2024-11-29 08:35 م

وعلى العرب كتابة صفقات قرون إذعانهم بأيديهم!

2020-03-03
بقلم: ابراهيم نصرالله
منذ ما قبل نشوئه، خطط الفكر الصهيوني للسيطرة على فلسطين وما حولها، ولعل الصهيونية كانت على الدوام أوضح عدو، لكننا كنا نعاني على الدوام من أنظمة عمياء، أو متعامية، أو متواطئة، أو رافعة للفكرة الصهيونية وحاضنة لها عبر العمل المباشر معها أو في الكواليس، أو أننا كنا نعاني من أنظمة تمارس هذا كله!
في هذا الوقت الذي كان فيه الفكر الصهيوني يوسّع أهدافه، كانت القيادات الفلسطينية، في معظمها، تضيِّق أهدافنا. ولذا، ليس من التجنّي عليها القول: إنها مهدت بصفقات قرن صغيرة متتالية لهذه الصفقة التي تهدف إلى محو ما يشير إلى وجود فلسطين.
والحقيقة أن الصهيونية لم تكن مستعدة في أي يوم لوجود كيان فلسطيني، أيّ كيان، حتى لو كان أرخبيليّاً، وباهتاً في فلسطين، أو في أي مكان خارجها، فالحرب هي حرب المحو، والاسم يجب أن يُمحى لضمان محو فلسطين والفلسطينيين أنفسهم.
نعود لنقول إن القيادات الفلسطينية، وبالذات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، مهّدت لمحو فكرة فلسطين التاريخية؛ من نهرها لبحرها. مهّدت لذلك على مستوى تضبيب الوعي بالفكرة حين قبِلتْ بتضييق مساحة فلسطين لتصبح الضفة الغربية وغزة، وقد عملتْ هذه القيادة، فعلاً، على ترسيخ حلم وجود سلطة فلسطينية، واستماتت لتحقق هذا، قافزة عن الشعب وأحلامه ونضالاته وتضحياته وتضحيات قيادات كبيرة تمّت تصفيتها. لقد بات طموحها متمثلاً في حلم منقوص؛ أي أن تكون لهذه القيادة سلطة، لا أن يكون لها وطن؛ ففي أزمنة القهر والتبعية كان مسخ الوطن هو السبيل الأساس لكي تكون هناك سلطة، بشرطة قامعة لا تتقن غير استخدام الكلبشات، وعلَم بسارية لا تتجاوز طول حامله.
تحدثنا في مطلع هذا المقال عن أشكال الأنظمة العربية، لكن النظام الفلسطيني بقي يطاوع هنا ويمانع هناك، إلى أن غدا نظاماً لا يختلف عن تلك الأنظمة العربية التي ساقت جيوش (إنقاذها) عام 1948 لإنقاذ ما أرادت أن تُسلِّمه للصهيونية في المسرحية الأكثر صفاقة في تاريخنا الحديث، حيث كانت تلك الجيوش جزءاً تطبيقياً لخطة وعد بلفور.
.. ومنذ أوسلو حققت القيادة الفلسطينية حلمها، لا بوصولها إلى دولة، بل بنجاحها في أن تكون نظاماً عربياً لا يختلف عن أي نظام آخر، وهذه واحدة من الحالات النادرة؛ أن تتحوّل ثورة إلى نظام قمعي قبل أن تحرّر أي شيء!
أول ما فعلته أنها أفسدتْ وأتخمتْ وروضتْ، وهمشتْ، وسجنتْ، وعذَّبتْ واستعانت بأقبح المروضين لإذلال شعبها، وكتمتْ كل صوت حرّ، وأفسدت كثيراً من الكتاب والمثقفين الذين كانوا صوتاً للحرية خارج حدود الدويلة، واشترتْ كل من عرَض نفسه سلعة، وربطت اقتصادنا ومياهنا وهواءنا وأمننا بالأمن الصهيوني مباشرة. وحتى حينما كانت تصحو من سكرات فرحتها بالسلطة، كانت تصحو لأنها اكتشفت أن هذا العدو لا يتركها تهنأ بالسلطة التي توهَّمتها مُلكاً لها.
لقد أثير الكثير عن اتفاقية (أبو مازن- بيلين) باعتبارها الخلية الأولى التي استُنْسِخَ منها وحشُ صفقة القرن. ومن السخرية كثيراً أن نتحدث عن تلك الاتفاقية وكأنها سرية بين متفاوضين، فمفاوضاتها استمرت عاماً وبإشراف القيادة الفلسطينية التي لم تكن تسمح لأي ذبابة أن تطير في فضاء «المقاطعة» إلا بإذنها. ففي الجانب الفلسطيني كان هناك رجال الرئيس الذين نعاني منهم اليوم، فهو الذي اختارهم وأرسلهم وقرَّبهم، وهو الذي مكَّنهم، وهو الذي مهّد لهم الطريق ليكونوا خلفاءه، وليست أيدي بعضهم نظيفة حين نتحدث عن تصفيته رغم استماتته لعقد أوسلو واحتضانهم. ولهذا، على الفلسطينيين اليوم أن يملكوا جرأة قراءة مسارات قادتهم، وأن يقولوا بوضوح ما لهؤلاء القادة وما عليهم، ففي واقع كان فيه الشعب الفلسطيني، ولم يزل، من أكثر الشعوب العربية شباباً، تجاوزت القيادات الفلسطينية في مسألة بقائها في الحكم، أجل الحكم؛ حكم التنظيمات والمنظمة والدويلة، تجاوزت حكمَ كثير من القيادات العربية فيما يتعلق ببقائها على رأس السلطة.
لعل أسوأ ما في تمهيد القيادة الفلسطينية، لما نعيشه اليوم، بوهمها أو غبائها أو غرورها أو تبعيتها، هو أنها أنهكت فلسطين وشعب فلسطين وقيَّدتهما بهذا الواقع الذي رسَّخته، بدل أن تقودهما؛ فكما أنهك الإنكليزُ الفلسطينيين ليكونوا لقمة سهلة للمشروع الصهيوني، أنهك النهج الفلسطيني الرسمي فلسطين لتكون لقمة سهلة للهجمة الأخيرة لابتلاعها.
نقول ذلك كله من دون أن ننسى أن الشعب الفلسطيني ليس شعباً مُخترعاً، فلهذا الشعب هويته التي باتت جزءاً أساسياً من هويات العالم على مستوى القيم والنضال والثقافة، الفلسطينيون لهم أدباؤهم وفنانوهم ومفكروهم ورموزهم، ونضالهم المستمر منذ أكثر من مئة عام. ولم يعد باستطاعة أي صهيوني أو من يناصره، أن يمحو ذلك كله مهما فعل، وإن كانت معضلة الطليعة الفلسطينية أنها كلما بَنَتْ أرواح شعبها جاءت السلطة لتهدم ما بنتْه الطليعة التي تعود للبناء من جديد، أو لنفض الغبار عن حلم شعبها بالحرية والعودة والاستقلال.
أما ما يدعو، اليوم، للفجيعة أكثر فهو هذه الأنظمة العربية التي تهرول للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وكأنه منقذها من أخطار الخارج وحامي لقمة أطفالها وزرقة سمائها. هذه الأنظمة، التي تتناسى أن القيادة الفلسطينية قدّمت أكثر من كل ما يمكن أن تقدِّمه هي، حين تنازلت عن ثلاثة أرباع فلسطين، وحين عانقت الصهاينة، ليس سراً فقط، بل على الهواء مباشرة، وحين احتضنت سفاحي المذابح.
كل اتفاقية سلام تمّ توقيعها مع ذلك العدو كانت صفقة قرن تبرّعت بها الأنظمة لتمكين ذلك العدو من أن يسيطر ويتحكم ويروّض الحاضر والماضي والمستقبل، ويستولي ويهيمن. وكل ما تفعله الأنظمة التي توسّع دائرة التطبيع هو قيامها بصياغة صفقات قرن جديدة بأيديها للتنازل عن أوطان ومقدرات وأحلام شعوبها.
وبعـــد:
في الشريط الفيلمي القصير المتداول منذ ثلاثة أيام، يطلب الجنود الصهاينة من متظاهري الخليل عشر دقائق استراحة! فقد تعِبَ الجنود! لكن متظاهري الخليل، وسواها، يعرفون اليوم أنهم لن يكرروا المُهلة التي منحتْها الأنظمة العربية للكيان الصهيوني، المُهلة التي تجاوزت سبعين عاماً، ومكّنت هذا العدو من أن يصول ويجول في كثير من أوطان العرب، وبعد المهلة التي منحتها له قيادة أوسلو، منذ سبعة وعشرين عاماً، لكي يحفر قبراً لفلسطين وقضيتها..
وبعـــد أيضاً:
أوصيكَ يا ولدي دائماً
حين تمتدُّ أرضُ السواحل عاريةً
أو يكثرُ الجُنْد حولكَ.. كن في امتداد السّهول جبلْ
وكن أنتَ دولتكَ العاليةْ
حين تسقطُ خلفكَ كلُّ الدّولْ
(العربي الجديد)