بقلم: مأمون خلف
الزمان عام 2050. المكان، مدينة تل أبيب. مدينة متطورة للغاية، وقلب الشرق الأوسط الاقتصادي الأهم على الإطلاق. والمدينة الأكثر تحصينًا نتيجة شبكة معقدة من معاهدات عدم الاعتداء والحماية المتبادلة بين دول المنطقة، ورمز القوة العسكرية التي لا تقهر، في محيط ليس في وارده فكرة المقاومة أو حتى الممانعة، سواء بمحض الإرادة الحرّة، أو بسبب الأحلام الاقتصادية، أو بسبب الالتزامات الأمنية الموقع عليها في معاهدات السلام العربية الإسرائيلية، تحت شعار «لمَ نتقاتل بينما يمكننا أن نتعامل؟».
المحصلة النهائية تنتشر في الأرجاء كيانات اقتصادية بمسميات مختلفة: «سلطة»، و«دولة»، و«إمارة» أو حتى «مملكة» كلها مرتبطة بالمركز الإقليمي الأهم، إسرائيل. كلٌّ في موقعه في منظومة الشرق الأوسط الكبير يؤدي ما هو مرسوم له بعناية ودقة فائقة، كساعة سويسرية فاخرة الصنع. بحسب ما تفترضه نصوص ما يعرف إعلاميًا بصفقة القرن، أو مبادرة ترامب.
المشهد أعلاه قابل للتحقق بناءً على تصور رؤية ترامب لكيفية إعادة تركيب المنطقة، وبناء على التوقعات لنمو الاقتصاد الإسرائيلي والعربي الذي يشي بتطور مستمر للاقتصاد الإسرائيلي، ويفترض نموًا بطيئًا للاقتصادات العربية إذا لم تسارع للسلام مع تل أبيب. الوعود التي تبوح نصوص الوثيقة ببعض تفاصيلها، تنبئ عن أن العرب إذا تبعوا الوعود الاقتصادية الواردة في الرؤية ربما سيكون مصيرهم كالبشر في فيلم «الماتركس». حيث لا يدرك معظمهم حقيقة أنهم يعيشون في عالم من وهم، وأن أجسادهم ليست سوى بطاريات إنتاج للطاقة في مكان بارد مظلم ومعتم، بالرغم من الحلم الوردي الذي تعيشه أدمغتهم الموصولة بالآلة الكبرى، وهو ما سيشرحه التقرير التالي.
على الأرجح لن يكون إنسان المنطقة العربية المستهدف بالوثيقة أكثر من وحدة طاقة مشابهة، غرضها تزويد نظام «الآلات المتقدم» بما يحتاجه من الحماية والقوة الدافعة لعجلة الإثراء. سيمتص هذا النظام، الذي صُمِّم بعناية فائقة لمصلحة الآلة المصدر، شعوب وأنظمة المنطقة بينما تمضي عمرها في الفقر، وهي تحاول أن تضع قدمًا على أعتاب هذه الجنّة الاقتصادية التي طالما وعدت بها ولا تستطيع. في هذه الأثناء يرتقي من هم حول السلطة وبيدهم مقاليد القوة في درجات الثراء والرخاء، أمّا فقراء المنطقة ينحدرون على دركات العوز بشكل مستمر. في الواقع تبوح الوثيقة بكل ذلك وأكثر.
يقول الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز «برت ستيفنز» في مقال لقي صدى واسعًا أن على الفلسطينيين والعرب ألا يضيعوا الفرصة التي تقدمّها مبادرة البيت الأبيض خصوصًا أنهم تاريخيًا، بحسبه، خسروا في كل مرّة قالوا لا للمبادرات الأمريكية والدولية المشابهة. لكن يبدو أن الواقع العربي يقول عكس ما ذهب إليه برت في مقالته الرائجة، وأن خساراتهم من الانخراط في العملية السلمية تفوق مكاسبهم.
رحلة الـ«نعم» العربية.. ماذا خسر العرب سياسيًا من التنازلات؟
في يونيو (حزيران) 2009 كانت إحدى قاعات جامعة بار إيلان الرئيسية ممتلئة عن بكرة أبيها بانتظار محاضرة يلقيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتنسيق مع مركز «بيجن-السادات لدراسات السلام» بعد شهور قليلة من تدمير قطاع غزة إثر انتهاء عملية «الرصاص المصبوب» آنذاك. يحدثنا نتنياهو هنا بوضوح عمّا يريده وما تريده إدارات إسرائيل المتعاقبة من العملية السلمية والمشروع الإسرائيلي في المنطقة:
ضاف نتياهو حينها: «هذا الاعتراف يجب أن يرافقه تطبيق عملي.. ويجب أن يكون واضحًا أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين يجب أن تحل خارج حدود دولة إسرائيل. وليكن واضحًا كذلك أن أي مطالبات لإعادة توطينهم داخل حدود إسرائيل يهدد استمرارية إسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي.
وقال: «دعوني أقول إن روابط الشعب اليهودي مع أرض إسرائيل تمتد لأكثر من 35 ألف عام. يهودا والسامرة هي حيث عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداوود وسليمان، هذه ليست أرضًا غريبة عنّا، إنها أرض أجدادنا… المآسي التي عانى منها شعبنا بسبب عدم امتلاكه القوة توضح لماذا من حق إسرائيل أن يكون لديها قوة دفاع سيادية عن النفس. في وطننا يعيش مجتمع فلسطيني كبير لا نريد أن نحكمه أو نفرض عليه حضارتنا. هناك ما يوحدنا معهم أكثر مما يفرقنا. جئت هذا المساء لأوضح هذه الوحدة، ولأوضح أن مبدأي السلام والأمن سابقان على أي اتفاق سلام مع المجتمع الإسرائيلي».
وأوضح حينها نتنياهو «الأسس التي توجه سياستنا بهذا الخصوص. المبدأ الأول؛ أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولة للشعب اليهودي بوضوح ودون مواربة. والمبدأ الثاني هو نزع السلاح. الأراضي التي تخضع لسلطة الفلسطينيين يجب أن تكون منزوعة السلاح. لتحقيق السلام يجب أن نتأكد من عدم قدرة الفلسطينيين على إدخال الصواريخ إلى أراضيهم، وأن لا يشكلوا جيشًا، وأن لا يغلقوا مجالهم الجوي علينا، أو أن يتحالفوا مع قوى مثل حزب الله وإيران».
في الواقع منذ أن ثبتت إسرائيل مخالبها في خاصرة المنطقة العربية عام 1948، وتحولت إلى ما يشبه الأمر الواقع الذي لا فكاك منه خصوصًا بعد توسعها في أعقاب حرب عام 1967، كانت فكرة تحقيق الدولة القومية اليهودية المتفوقة عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا على جيرانها العرب الهدف الذي وضعته الإدارات الإسرائيلية المتعاقبة نصب عينيها في أي حرب أو مفاوضات خاضتها مع العرب منذ وقت مبكر، ولم تتوقف إزاء ذلك القرارات والمبادرات الدولية عن التدخل ومحاولة فض النزاع. خصوصًا من واشنطن التي عرضت العديد من مبادرات السلام مع العرب تحت مظلة الإغراءات الاقتصادية المتواترة التي حابت الجانب الإسرائيلي على حساب الجانب العربي. خصوصًا منذ مبادراتها الأولى بعد حرب الأيام الستة وطوال فترة حرب الاستنزاف، أو ما يعرف بمبادرة روجرز.
أسست الهزيمة العسكرية الثقيلة للعرب في العام 1967 لمشوار طويل من التنازلات يمكن القول اليوم إنها جاءت في مصلحة إسرائيل أكثر مما حققته من مصالح للجانب العربي. إذ انتهت الحرب بصدور قرار مجلس الأمن رقم 242، القاضي بوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية التي تم احتلالها آنذاك والاعتراف العربي بإسرائيل، وعدم ربط قضية فلسطين بالصراع العربي الإسرائيلي. نص القرار في بنوده على احترام سيادة دول المنطقة على أراضيها، وحرية الملاحة الدولية في مضيقي صنافير وتيران المصريين حينها، وحل مشكلة اللاجئين، وإنشاء مناطق منزوعة السلاح، وسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
إلا أن إسرائيل تنصلت من الالتزام بالقرار الأممي رقم 242 ورفضت الاعتراف به، واكتفت بوقف لإطلاق النار، وهو أشبه بتوقيع هدنة بين العرب وإسرائيل مع ترك الحال على ما هو عليه. ولم تسفر حرب الاستنزاف طوال الأعوام اللاحقة عن استرداد أي من تلك الأراضي، أو تغيير الواقع الذي فرضته إسرائيل على العرب، ما أقنع الرئيس المصري جمال عبدالناصر بقبول بمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار في العام 1970.
وبعد عدة جولات من الانتصارات المصرية في حرب تشرين التحريرية عام 1973 في عهد السادات، نجحت الوساطة الأمريكية في إقناع الطرفين بتوقيع اتفاق فض الاشتباك المسلح عام 1974. لتبدأ عدة جولات تفاوضية أسفرت عام 1978 – 1979 عن توقيع معاهدة كامب ديفد بين الجانبين المصري والإسرائيلي. أخرجت بها تل أبيب مصر، الدولة الأهم ضمن المنظومة العربية، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. وكان لذلك أهمية قصوى إذ تمكنت إسرائيل في العام 1981 من إعلان ضم القدس وأراضي الجولان المحتل قانونيًا، وفي العام نفسه دمرّت المفاعل النووي العراقي أمام ناظري القاهرة التي كُبّلت باتفاقية كامب ديفيد. ويبقى أن الشرخ في الجسم العربي أهم ما نتج عن خطوة القاهرة التي حرمت من عضوية الجامعة العربية حتى عام 1989.
في فترة الغياب المصرية هذه عن محيطها، كان صيف يونيو (حزيران) 1982 يشهد اشتباكًا عنيفًا بين مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية والقوات الإسرائيلية امتد على طول الجنوب اللبناني حتى مدينة بيروت. وافقت على إثره القوات الفدائية الفلسطينية على الخروج من بيروت بعد حصار قاس، ومعركة شرسة مع القوات الإسرائيلية المهاجمة.
أعلن الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، في سبتمبر (أيلول) حينها مشروعًا بعنوان «مبادرة سلام أمريكية لشعوب الشرق الأوسط» حاولت إقناع العرب والفلسطينيين بالكف عن إنكار إسرائيل، والاعتراف بها أمرًا واقعًا من موقع أنها أثبتت نفسها باعتبارها القوة العسكرية الأهم في الشرق الأوسط. جاء في بنود الاتفاقية السبعة أن لا أمل للفلسطينين بتحقيق حلمهم بالدولة إلا من خلال التعاون الأمني مع تل أبيب. لتأتي قرارات القمة العربية الاستثنائية في مدينة فاس في سبتمبر 1982، وتعترف ضمنيًا بوجود إسرائيل من خلال إقرارها بمشروع السلام مع تل أبيب، والتي بالمناسبة رفضت مشروع ريجان كما رفضت مبادرة روجرز من قبل.
شهدت هذه الحقبة تحولًا كبيرًا على المشروع الوطني الفلسطيني منذ العام التالي لحرب 1973. إذ شهدت تنازلًا عن شعار «التحرير والعودة» لصالح اعتماد برنامج «النقاط العشر»، الذي يقضي بإقامة سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره، واعُتبر برنامجًا مرحليًا، ليصبح بعد ذلك حلًا نهائيًا من خلال اعتماد برنامج (حق تقرير المصير والعودة والدولة) في عام 1988. اعتبرت الموافقة الفلسطينية على قرار 242، استعدادًا للاعتراف بإسرائيل الذي تمّ رسميًا بعد سنوات قليلة بتوقيع «اتفاق أوسلو» عام 1993 على ضوء مبادرة من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في مارس 1991 بعد الإعلان عن تحرير الكويت.
وتصف أهمية المدينة بالنسبة للمسلمين من كونها كانت «معراج نبي الإسلام»، وبسبب أن القرآن أشار إليها في نصوصه. لذلك أولت كثير من الخلافات الإسلامية المتعاقبة المدينة اهتمامها ورعايتها بحسب الوثيقة، وليس لأي سبب جوهري. تنحاز الصياغة، التي جاء فيها لفظ يهودي 1591 مرّة، بشكل فاضح لصالح تل أبيب وأحقيتها التاريخية على حساب كل من المسيحيين، الذين ذكروا في نص الوثيقة 645 مرّة، والعرب المسلمين الذين ذكروا تحت كلمة مسلم/ون 517 مرّة. فالوثيقة تعتبر القدس بالنسبة لإسرائيل مركزًا سياسيًا وروحيًا، في حين أنها دينية فقط بالنسبة للعالم المسيحي، وذات بعد ديني فقط للمسلمين، أمّا سياسيًا فلم تكن المدينة أبدًا عاصمة لحكم إسلامي ذي شأن، بل اهتمام فقط بحكم الوازع الديني، بحسب الوثيقة.
لا تتوقف الوثيقة الرسمية على تبني الرواية الإسرائيلية بخصوص الصراع مع العرب حول فلسطين فقط، بل توفّر أدوات إعادة صياغة الوعي العربي ومحتواه من خلال بنودها التي تتعلق بجانبي التربية والتعليم، فتواتر الإشارات طوال فقرات ونصوص الرؤية التي تصرّ على أن الأراضي الفلسطينية يهودية خالصة، تدفع باتجاه إعادة صياغة وعي أبناء المنطقة، بحيث تكون تكون دولة إسرائيل التوراتية قبلته وكعبته. وأركانه الثلاثة الأساسية هي القدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة، ولا لاجئين اقتلعوا من مدنهم وقراهم، وأن لا حق في العودة للفلسطينيين إلى «أراضي يهودا والسامرة» العبرية.
يأتي قسم «التعليم وثقافة السلام» في المبادرة للتأكيد على هذا المفهوم. بحسب الرؤية الأمريكية يجب أن تُوَظّف أدوات الإعلام العربية بما فيها الحكومية والمناهج والكتب المدرسية، بحيث تروج لثقافة «السلام والتعايش». الهدف كما يقول نص الرؤية هو «تهيئة بيئة عربية من قيم التعايش والاحترام المتبادل» مع إسرائيل. إلّا أن اللافت أن هذا الجانب يخص إعادة صياغة الوعي عند الجانب العربي فقط ولا يتطرق للمناهج ووسائل الإعلام الإسرائيلية بطبيعة الحال، وعليه فإنه من المفترض أن يقوم الإعلام العربي والمناهج بإعادة صياغة وعي الأجيال القادمة حول ثلاث نقاط أساسية بديلة فيما يخص القضية الفلسطينية هي: أن القدس تاريخيًا كانت وستبقى عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة، وأن أرض فلسطين وطن قومي ليهود العالم، وأن عودة اليهود إليها وعد توراتي وليس استيطانًا.
تبين لغة الأرقام هذا الانحياز الذي تطفح به الوثيقة الرسمية الأمريكية لصالح إسرائيل على حساب شعوب المنطقة. فقد ذكرت كلمة إسرائيل 8323 مرّة في نصوص الرؤية مقابل 7109 مرّات لكلمة فلسطين. ويميل الميزان لصالح كلمة الإسرائيليين التي وردت 5191 مرّة على حساب كلمة الفلسطينيين التي جاءت فقط 3795 مرّة، وعلى حساب كلمة عرب عندما يعنى بها القومية 172 مرّة فقط. تريد هذه الوثيقة التي ورد فيها ذكر كلمة سلام 4431 مرّة أن تقنع الإنسان العربي بأنها لتحقيق الأمن والسلم المجتمعي بين شعوب المنطقة، من خلال بوابة الاقتصاد التي ذكرت 2739 مرّة والازدهار التي جاءت 1035 مرّة على الرغم من ورود كلمة أمن 5566 مرّة متفوقة على الجميع في عدد التكرارات.
تؤكد هذه النتائج ارتباط كلمة أمن مع صفة «الإسرائيلي» 391 مرّة بينما ترتبط نفس الكلمة مع صفة «فلسطيني» فقط 47 مرّة كأنها تؤكد أهمية الأمن الإسرائيلي على حساب الأمن العربي. وفي مقابل تعبير «السلام الفلسطيني» الذي ورد مكررًا 1505 مرّات، لا نجد تعبير «السلام الإسرائيلي» ولا حتى مرّة واحدة. ما يدعم مزاعم المعسكر الرافض للوثيقة الذي يقول أن المطلوب من هذه المبادرة هو أن تسهر دول المنطقة على أمن إسرائيل، مقابل محاولة تحقيق السلام للفلسطينيين.
الوثيقة كسابقاتها من المبادرات الأمريكية تتعكز على الإغراءات الاقتصادية التي لم يستطع العرب حتى الآن الإمساك بشيء من سرابها، مقابل تل أبيب التي راكمت ولا تزال تراكم المكتسبات. فقد حلّت إسرائيل في المركز 32 عالميًا من حيث الناتج الإجمالي المحلّي بحسب أرقام البنك الدولي لعام 2018. متقدمة على دول معسكر السلام العربي (مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية) الذين حلّوا في المراكز (44، 91، 124) تباعًا بحسب التقرير ذاته.
ساسة بوست