أسامة يوسف
يكاد كل من اطلع على مضمون صفقة القرن، التي أُعلن عنها بعد طول انتظار، يخرج بخلاصة لا لبس فيها مفادها بأن ما هو مطروح في الصفقة من أولها إلى آخرها هو مشروع متكامل لتصفية القضية الفلسطينية بكل مكوناتها وتجلياتها الدينية والتاريخية والمعنوية والمادية، طبعاً باستثناء اليمين المتطرف في دولة الاحتلال أو الادارة الأميركية وبعض المتصهينين من العرب الجدد، وأن لا أحد من الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه وتلوناته السياسية، ولا حتى من الشعوب العربية والإسلامية يمكن أن يقبل مجرد طرحها عوضاً عن قبول بعضها.
ولكن قبل الخوض في مضمون الصفقة والإطار العام وما يمكن أن تحققه إسرائيلياً، لا بد من تتبع السياق والأساس الذي بنيت عليه الصفقة، والظرف الزماني الذي أُعلنت فيه بعد أن تم تأجيل الإعلان عنها عدة مرات، بنظرة فاحصة على مخططات الحل الصهيونية بعد عدوان عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وما أطلق عليه صهيونياً "خرائط المصالح الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية في الضفة والقدس"، فإن صفقة القرن هي تتويج لهذه المخططات بصيغتها الفجة، وهي الطرح الأوضح والأكثر تفصيلاً لما يرنو إليه ليس فقط اليمين المتطرف الديني والعلماني، بل قطاع عريض من المؤسسة الأمنية والنخب السياسية والجمهور الإسرائيلي، وهي ليست وليدة الأعوام القليلة الماضية، بل هي نفس المخطط تقريباً لما عرضه نتنياهو سراً على السلطة الفلسطينية عام 2012 كما كشف رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات، وطبعاً تم رفضه في حينه جملةً وتفصيلاً.
ولكن ما يرنو إليه اليمين الإسرائيلي من إهدار الحق الفلسطيني وطمس مشروعه الوطني عبر مجرد الإعلان عن صفقة القرن شيء، وما يمكن تطبيقه على أرض الواقع شيء آخر، لأن الهدف من إعلان الصفقة في هذه المرحلة ليس لتطبيقها على أرض الواقع بقدر ما هو توفير مسوغات لتطبيق بعض الخطوات بشكل أحادي، لدواع داخلية إسرائيلية بحتة، وتوظيفاً لمعطيات إقليمية ودولية مواتية لمصلحة الكيان، وهنا يأتي السياق الزماني لإعلان الصفقة، فنتنياهو يخوض معركته الانتخابية الوجودية التي قد تضع مستقبله السياسي على المحك بالتوازي مع إجراءات محاكمته جنائياً بتهم الفساد وخيانة الأمانة والتي لا يؤخرها سوى منصبه السياسي. أما على الصعيد الإقليمي فإن نتنياهو يراهن على التطبيع، وكما صرح أكثر من مرة، فإن "إسرائيل في أوج عملية تطبيع مع دول عربية وإسلامية مهمة"، بمعنى أن النظام العربي الرسمي الذي يعاني الانهيار فقد قدرته على الصمود أمام الضغوط الأميركية الإسرائيلية، بل هناك من تطوع من القادة العرب المتصهينين نيابة عن نتنياهو للترويج والتبشير بصفقة القرن ولوم الفلسطينيين على عدم القبول بها. أما ترامب وفريقه الذي ادعى زوراً وضعه لمخطط صفقة القرن والذي يجهل بديهيات المسألة الفلسطينية والأبعاد التاريخية والدينية والسياسية للصراع، فعينه على الانتخابات الرئاسية القادمة نهاية العام الحالي، ودعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، والقاعدة الجماهيرية الواسعة والمنظمة، من أتباع الكنيسة الإنجيلية الأشد تحمساً لإسرائيل ومشروعها التوراتي، وبالتالي فإن نتنياهو ومعه قادة اليمين الديني والعلماني، وعوضاً عن الحسابات الداخلية، فإنهم أمام فرصة تاريخية ربما لن تكرر للتقدم بخطوات دراماتيكية أخرى نحو حسم الصراع، أبرزها ضم غور الأردن وشمال البحر الميت والمستوطنات الكبرى في الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، واختزال دور السلطة الفلسطينية إلى خدماتي وأمني.
لم يكن الهدف من الصفقة والإعلان عنها فقط السير قدماً في مشروع الضم وفرض السيادة الإسرائيلية على حوالي 40% من مساحة الضفة الغربية، ولكن هناك ربما ما هو أهم من ذلك، وهو استبدال قرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة كأساس للحل بمبادئ وأسس لا علاقة لها بالشرعية والقانون الدولي، وإنما بالتصور اليميني الصهيوني للحل مع الفلسطينيين، وإلا فعلى الفلسطينيين القبول بالأمر الواقع وسياسات الاحتلال التي ترسخ جوهر صفقة القرن مع مرور الوقت، أو انتظار المعجزات، فما أهم المبادئ التي جاءت بها صفقة القرن لتؤسس لعهد جديد من التعاطي الأميركي الإسرائيلي مع المسألة الفلسطينية:
أولاً: اللاجئون الفلسطينيون، تأتي بنود الصفقة فيما يتعلق باللاجئين بمبدأين أساسيين؛ التوطين والتعويض، أي توطين لاجئي الأردن ولبنان خاصة، ومن الممكن عودة عشرات آلاف إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية على مدى عشر سنوات، ولكن التعويض أيضاً مرهون بحل مسألة "اللاجئين اليهود" الذين "طردوا" من البلاد العربية والاسلامية بعد عام 1948 حسب الادعاء الإسرائيلي، ومن ضمن ذلك تعويض إسرائيل ليس فقط على أملاكهم التي تركوها، وإنما أيضاً خسائرها من استقبالهم طوال العقود الماضية؛ أي منذ الإعلان عن دولة الكيان! وتأتي في هذا السياق الخطوات الأميركية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، من قطع الدعم عن وكالة الأونروا لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والتضييق على الدول الداعمة الأخرى الخاضعة للنفوذ الأميركي، ومحاولات إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني لتقليص عدد اللاجئين إلى 50 ألف فقط حسب المسوغات الأميركية الجديدة.
ثانياً: القدس، فالقدس ستبقى "موحدة تحت السيادة الإسرائيلية"، ولن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وإنما منطقة شمال وشرق الجدار الفاصل على أجزاء من أبو ديس ومخيم شعفاط أو أي مكان قريب يختاره الفلسطينيون، والتي لا تتمتع بأي مكانة دينية، وستبقى الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة الإسلامية، مع ضمان حرية العبادة للجميع، بمعنى السماح للمستوطنين بأداء طقوس توراتية في المسجد الأقصى، وتخيير الفلسطينيين ممن تبقى داخل الجدار بالجنسية الإسرائيلية أو التوجه نحو مناطق السلطة أو الاقامة الدائمة داخل حدود القدس.
ثالثاً: المستوطنات، ستخضع غالبية المستوطنات في الضفة الغربية والتي تشكل حوالي 11.5% من مساحة الضفة الغربية، وغور الاردن وشمال البحر الميت (28% من مساحة الضفة الغربية الكلية) إلى السيادة الإسرائيلية، مع بعض التعديلات الطفيفة في حدود بعض المستوطنات التي ستباشر لجنة أميركية – إسرائيلية مشتركة البت فيها بعد الاعلان عن الصفقة؛ بغض النظر عن الموقف الفلسطيني من ناحية القبول أو الرفض، وبفرض السيادة الإسرائيلية كما هو مخطط له على حوالي 40% من مساحة الضفة الغربية ستسيطر إسرائيل عملياً على المياه الفلسطينية بالاستئثار بأحواض المياه الثلاثة الرئيسية، وستستحوذ على سلة الغذاء الفلسطينية التي تتركز في غور الأردن.
رابعاً: الدولة الفلسطينية، بخلاف دولة الاحتلال التي تمنحها الصفقة حدوداً واضحة، فإن الدولة الفلسطينية المقترحة بحدود هلامية، يتمدد فيها جدار الفصل، والجيوب الاستيطانية، والطرق الالتفافية محولاً الضفة الغربية إلى كانتونات أو جيوب منعزلة أقرب إلى الجزر المتناثرة في البحر، ومن أبرز ما تطرحه الصفقة في مسألة الدولة الفلسطينية المستقبلية:
- إقامة الدولة الفلسطينية على 30% من مساحة الضفة الغربية؛ وهي المناطق المصنفة أ وب حسب اتفاق أوسلو، وقطاع غزة، ومنطقتان في صحراء النقب واحدة صناعية والأخرى زراعية وسكنية.
- يضاف إلى حدود الدولة منطقة المثلث داخل أراضي الـ48، المتاخمة لقرى ومدن شمال غرب الضفة الغربية، وتضم بلدات كفر قاسم وأم الفحم وقلنسوة والطيرة والطيبة وباقة الغربية وكفر قرع وكفر برا وجلجولية، والتي يبلغ تعداد سكانها حوالي 300 ألف.
- الضفة الغربية حسب المخطط تنقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: مدينة نابلس والمدن والبلدات المحيطة بها، ومدينة رام الله والبيرة ومعظم قرى وبلدات القدس الشرقية (التي تقع خارج الجدار) والتي يفصلها عن منطقة نابلس تجمع أرئيل الاستيطاني، والخليل وبيت لحم والتي يفصلها عن رام الله مستوطنات مدينة القدس، وهذه التجمعات السكنية تنقسم إلى أكثر من 60 كانتونا ومعزلا، بحيث تتحول مناطق الضفة الغربية إلى ما يشبه السجون والمعتقلات بمساحات مختلفة.
- في الوقت الذي تتمتع به المستوطنات في الضفة الغربية والقدس بتواصل جغرافي، تمتَّع الدولة الفلسطينية بتواصل "مواصلاتي" بشبكة من الطرق والجسور والأنفاق التي تمر عبر بوابات وممرات يسيطر عليها الاحتلال، أما قطاع غزة فيتم ربطه بالضفة الغربية من خلال جسر بارتفاع 30 مترا فوق سطح البحر خاضع للسيطرة الإسرائيلية، حتى المنطقة الصناعية والزراعية في صحراء النقب التي ستضاف إلى الدولة الفلسطينية من جهة قطاع غزة والتي ستبلغ مساحتها مجتمعة ما بين 400 و500 كلم2، لن تتصل مباشرة بقطاع غزة، بل سترتبط بطريق بري ضيق خاضع لسيطرة إسرائيل يمر بالتجمع الصناعي المُفترض ومن ثم طريق بري آخر يمر بالتجمع الزراعي السكني الآخر.
- سيشكل قطاع غزة المركز للدولة الفلسطينية، كونه كتلة جغرافية واحدة رغم محدودية مساحته (360 كلم2)، ولكن لن يتم التقدم في مخطط التسوية دون إنهاء الحالة المسلحة، ونزع كل العوامل التي تهدد الأمن الإسرائيلي.
هذه الدولة الفلسطينية وحسب المخطط ستأتي في نهاية المرحلة الانتقالية بعد أربع سنوات من الشروع في تطبيقها، وستأتي بعد سلسلة طويلة من الشروط والمتطلبات والإجراءات التي يجب على الفلسطينيين تحقيقها وبالكامل، ومن أهم هذه الشروط:
- الاعتراف بـ"إسرائيل" كدولة "للشعب اليهودي"، والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة "أبدية لإسرائيل".
- نزع سلاح فصائل المقاومة، وتفكيك البنية التحتية للمقاومة بالكامل في قطاع غزة، بعد أن تفرض السلطة الفلسطينية سيطرتها على غزة.
- وقف "التحريض ضد إسرائيل"، بما يشمل المنهاج الدراسي في كتب التدريس وجميع مؤسسات السلطة الفلسطينية.
- التنازل كلياً عن حق العودة.
- إجراء انتخابات حرة في مناطق السلطة الفلسطينية، واحترام حقوق الإنسان وضمان حرية الصحافة والحفاظ على حرية العبادة، ومنح مساواة في الحقوق للأقليات الدينية.
- الاعتراف بسيطرة أمنية إسرائيلية على كل المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن – بالجو والبحر والبر، مع حرية العمل الأمني في كافة مناطق الضفة الغربية.
وبعد تنفيذ هذه الشروط "التعجيزية" تجتمع لجنة أميركية - إسرائيلية للنظر في مدى امتثال السلطة الفلسطينية للشروط السابقة، والتي سينبني عليها إعلان الدولة الفلسطينية من عدمه.
أما الشق الاقتصادي من صفقة القرن، فيستند بالدرجة الأساس إلى تطوير البنية التحتية في مناطق السلطة الفلسطينية، والاستثمار في مؤسسات السلطة، ومساعدة الدول الإقليمية خاصة الأردن ومصر في توطين اللاجئين بتقديم محفزات على شكل مشاريع اقتصادية تنموية ومشاريع للطاقة وتحلية المياه، وبنية تحتية بتمويل وقروض تصل إلى 50 مليار دولار، وهي أقرب للرشوة من دعم خطة حقيقية للتسوية، وستتوزع نسب التمويل بحيث يكون نصيب مناطق السلطة 27.5 مليار دولار، إضافة إلى استثمارات بقيمة 9.1 مليارات دولار في مصر، و7.4 مليارات دولار في الأردن، و6.3 مليارات دولار في لبنان، والتي ستخصص لتمويل 179 مشروعاً للتنمية الاقتصادية؛ 147 مشروعاً في الضفة الغربية وغزة، و15 في الأردن، و12 في مصر، و5 مشاريع في لبنان.
في الواقع وبنظرة فاحصة إلى جوهر صفقة القرن، فإن الصفقة هي صيغة فجة لما يطمح له اليمين الصهيوني المتطرف، وليست صيغة للحل، وأن إعلانها لم يكن بالنسبة لنتنياهو ولليمين الأشد تطرفاً سوى مبرر لفرض الحل الصهيوني من طرف واحد بقضم مزيد من الأراضي في الضفة الغربية، وإلى بلورة أساس جديد للحل ولأي مفاوضات قادمة لا علاقة لها بأسس الشرعية الدولية ممثلة بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
العربي الجديد