في منتصف فبراير (شباط) من كل عام قلما يستطيع المار تفقد وسط مدينة ميونخ التاريخي بأريحية؛ إذ يجد نفسه دائمًا يدور في مسارات لا تنتهي أطول من المعتاد، ويصطدم في أحيان كثيرة بشوارع مغلقة، وعناصر من القوات الخاصة التابعة للشرطة تتكفل أجسادها الضخمة بإعاقة المرور في شوارع أخرى. وعلى أطراف شوارع وسط المدينة، يتعثر المار في مجموعة من الناس يحتجون ضد العولمة، وآخرين ضد حلف شمال الأطلسي «ناتو»، ومجموعة ثالثة ترفع لافتات منددة بالتغير المناخي. تلك هي صورة وسط ميونخ، أثناء انعقاد المؤتمر الشهير الذي يحمل اسم المدينة «مؤتمر ميونخ».
ويعتبر مؤتمر ميونخ أكبر تجمع أمني في العالم، حيث يلتقي العشرات من قادة الدول والحكومات، إضافة لوزراء الدفاع والداخلية، ولفيف من الباحثين والخبراء، سنويًا في فندق بيرانشه هوف الشهير، وسط مدينة ميونيخ، جنوبي ألمانيا، لاستعراض الملفات الأمنية الملحة بالعالم عبر جلسات ونقاشات مفتوحة.
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك؛ فخلف الأبواب المغلقة في الفندق الشهير تجرى لقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى على هامش البرنامج الرسمي للمؤتمر، لترتيب المواقف والوقوف على الأرضية المشتركة في القضايا الدولية الملحة وحل النزاعات.
وتعد الدورة الحالية للمؤتمر التي من المقرر أن يحضرها 35 قائد دولة وحكومة، و100 وزير خارجية ودفاع من مختلف دول العالم، فضلًا عن 500 خبير أمني، هي «الأكبر والأكثر أهمية» منذ تدشين المؤتمر الأمني الرفيع في 1963.
أهمية المؤتمر لترامب.. انقسام بين أوروبا وأمريكا
في تصريحات عبر الهاتف لـ«ساسة بوست»، قال فولكر بيرتيس، الخبير الأمني الألماني ومدير مؤسسة العلم والسياسة الألمانية «خاصة»: «الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة يخيم على أجواء مؤتمر ميونخ هذا العام»، مضيفًا أن «حلف شمال الأطلسي في وضعية صعبة، إثر العزلة الأمريكية الاختيارية التي يتبعها دونالد ترامب؛ ما يفاقم القلق في أوروبا».
وتابع أن «مؤتمر ميونخ سيناقش بكل تأكيد تطوير المشروع الأوروبي دفاعيًا وأمنيًا، لتوفير الحماية الذاتية للقارة، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة». ومضى قائلًا: «كما أن قضايا الشرق الأوسط، وخاصة سوريا، وليبيا، والملف النووي الإيراني على طاولة المؤتمر»، «وأخيرًا، سيخيم تفشي فيروس كورونا وسبل مكافحته بكل تأكيد على المؤتمر».
وبالرغم من الصدع في العلاقات الأوروبية الأمريكية، قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية في تقرير نشرته أول أمس: إن «وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، مارك إسبر، يحضران مؤتمر ميونخ هذا العام على أمل الحصول على دعم أوروبي في ملفات أفغانستان، وتجديد العقوبات الاقتصادية على إيران، وصفقة القرن، أو ما يوصف بمقترح السلام الأمريكي في الشرق الأوسط، وأخيرًا الصراع مع شركة هاواوي الصينية».حيث يجلس الجنرال بجوار الناشط البيئي.. تاريخ أهمية مؤتمر ميونخ
يمتلك مؤتمر ميونيخ تاريخًا كبيرًا يمتد لـ55 عامًا؛ إذ تأسس عام 1963 بواسطة الباحث الألماني إيوالد فون كلايست، ومر بعدة مراحل تحول خلالها من مؤتمر لقضايا الدفاع فقط، ليكون ملتقى للسياسيين والدبلوماسيين ومنصة للقاءات الدبلوماسية. وحمل المؤتمر عدة أسماء منها: اللقاء الدولي لعلوم الدفاع، والمؤتمر الدولي لعلوم الدفاع، قبل أن يحمل الاسم الحالي «مؤتمر ميونخ للأمن».
وخلال العقود الأولى كان عدد المشاركين في فاعليات المؤتمر أقل بكثير من اليوم، ولا يتجاوز العشرات، على الرغم من أن المؤتمر برز منذ بدايته كـ«منصة دولية»، إلا أنه اقتصر في الفترة الأولى على لقاءات بين المسؤولين والدبلوماسيين الألمان مع زملائهم من دول حلف شمال الأطلسي «ناتو» لذلك أطلق عليه في البداية «لم شمل أسرة الأطلسي»، وركز على السياسات الغربية في فترة الحرب الباردة «1945-1991».
ومع نهاية الحرب الباردة في 1991 قام إيوالد فون كليست، مؤسس المؤتمر ورئيسه، بتطوير هذا اللقاء العابر للأطلسي، وقرر دعوة دول لم تكن تنتمي للمعسكر الغربي، بما فيها دول أوروبا الشرقية والوسطى وروسيا، إذ كان على المؤتمر تجاوز حدود «المعسكر الواحد» ليصبح ذا أهمية في العالم الجديد.
ومع مرور السنوات ازدادت وتنوعت الجهات الفاعلة على الساحة الدولية، وبالتالي ازداد وتنوع عدد المشاركين في المؤتمر، إلا أن جوهره بقي كما كان «تجمع للدول المطلة على الأطلسي». واليوم يشارك في المؤتمر دول مهمة مثل الصين والبرازيل، والهند.
ولا يمكن اعتبار خريطة المشاركين في المؤتمر حاليا «تشتتًا جغرافيًا»، لكنها تعكس فهما أوسع للأمن الدولي. وعندما يجتمع المشاركون في فندق «باينرشه هوف» كل عام، يرى المتابعون الجنرالات في كل مكان، لكنهم يرون أيضًا الرؤساء جنبًا إلى جنب مع نشطاء حقوق الإنسان والبيئة وغيرهم من المجتمع المدني العالمي.
ومنذ عام 2015 حضرت قضايا الشرق الأوسط بقوة على طاولة المؤتمر، حيث ناقش في ذلك العام إرهاب «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» والبرنامج النووي الإيراني، وأزمة اللاجئين السوريين، والحرب الأهلية في سوريا. وفي 2016، كانت الأزمة السورية في بؤرة الاهتمام فضلا عن قضايا مكافحة «الإرهاب» وأزمة اللاجئين، وهي القضايا التي استمرت في مؤتمر 2017. وكانت الأزمة السورية حاضرة بقوة في مؤتمر 2018.
ميزانيته 2 مليون يورو.. أبرز الانتقادات الموجهة للمؤتمر
بالرغم من أهمية المؤتمر ومحورية اجتماعاته، فقد طالته الانتقادات في العامين الماضيين، لأنه لم يقدم إسهامًا حقيقيًا في حل القضايا الدولية الشائكة، إلى الحد الذي دفع رئيسه، فولفغانغ إيشنغر، إلى انتقاد دورة 2018 في خطابه الختامي، إذ قال: «على مدار 48 ساعة، استمعنا للأخطاء التي تحدث في العالم، والأخطار التي تواجهنا. وماذا يجب أن نتجنبه مستقبلًا».
وتابع في محاولة لتقييم المؤتمر «لكننا لم نستمع بالقدر الكافي لخطابات تضع خطوات محددة يمكن أن تؤدي لتحسن في وجهات النظر القاتمة للعالم في الوقت الراهن وحل مشكلاته»، في إشارة إلى أن المؤتمر لم يقدم حلولًا للمشكلات التي يعاني منها العالم، بالشكل الكافي.
وبصفة عامة تقدم مؤسسة مؤتمر ميونخ للأمن المنظمة للمؤتمر نفسها باعتبارها هيئة مستقلة، غير أنها تستفيد بشكل كبير من الإعانات الحكومية. ووفق الحكومة الألمانية، فإن المؤتمر حصل عام 2015 على تمويل بنحو نصف مليون يورو، فضلًا عن مبلغ 700 ألف يورو من الجيش الألماني. إضافة للرعاية من شركات ألمانية ودولية كبرى؛ ما يعني أن ميزانية المؤتمر تصل إلى 2 مليون يورو.
48 ساعة مناقشات شاقة
بداية من الساعة الـثانية من ظهر الجمعة «13 جرينتش»، يبدأ برنامج الدورة الـ56، الذي يتضمن 48 ساعة مكثفة من الفعاليات والندوات وجلسات النقاش التي يحضرها قادة وممثلو دول العالم ولفيف من الخبراء.
ويسعى المؤتمر هذا العام إلى تقديم إجابات وحلول للعديد من الأسئلة الملحة من خلال معالجة قضايا مثل المشروع الأوروبي والتعاون في مجال الدفاع ووضع النظام الدولي الليبرالي، وسياسات حماية المناخ، وتفشي فيروس كورونا، والتعاون عبر الأطلسي «العلاقات الأوروبية الأمريكية»، وتداعيات تجدد التنافس بين القوى الكبرى، فضلًا عن ملفات الشرق الأوسط، وخاصة سوريا وليبيا.
ويحضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، المؤتمر لأول مرة، بالإضافة للرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير. وكدليل على تنامي الدور الآسيوي في عالم اليوم، يحضر المؤتمر وزراء خارجية الصين واليابان والهند، وانج يي، وتوشيميتسو موتيجي، وسوبرامانيام جايشانكار، على الترتيب. بالإضافة إلى وزير خارجية إيران جواد ظريف، ووزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو.
كما يحضر المؤتمر الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس مع العديد من رؤساء المنظمات الدولية الأخرى، خاصةً على خلفية تفشي فيروس «كورونا». واجمالًا من المتوقع أن يحضر المؤتمر الذي يختتم أعماله في 16 فبراير 35 رئيس دولة وحكومة، وأكثر من 100 وزير خارجية ووزير دفاع، و500 من الباحثين والخبراء والصحافيين.
4 آلاف شرطي وحظر طيران
تشهد مدينة ميونخ في منتصف فبراير من كل عام تشديدات أمنية كبيرة لتأمين العشرات من رؤساء الدول والحكومات، فضلًا عن وزراء الداخلية والدفاع، ومئات الباحثين والخبراء.
وقبل يومين من المؤتمر أعلنت شرطة ميونخ حزمة من الإجراءات لتأمين فعاليات المؤتمر تتضمن نشر 3900 شرطي في وسط ميونخ، لتأمين 12 فندق يقيم به المشاركين، ومقر المؤتمر في باينرشه هوف.
وبالإضافة إلى ذلك، قررت الشرطة فرض حظر طيران فوق وسط المدينة أثناء انعقاد المؤتمر في الفترة بين 14 و16 فبراير الجاري، بما يشمل الطائرات المسيرة المستخدمة في التصوير.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، حيث من المقرر أن تغلق السلطات الشوارع المحيطة بمقر انعقاد المؤتمر تمامًا أمام حركة المركبات، وتمنع المارة من الاقتراب من فندق باينرشه هوف، وتفرض الشرطة منطقة أمنية حول الفندق، الذي ينعقد فيه المؤتمر. وتسمح فقط للأشخاص الذين يبرزون وثيقة التسجيل في المؤتمر، بالدخول.
وكما يحدث كل عام، يحشد «تحالف العمل ضد مؤتمر ميونيخ للأمن التابع للناتو» آلاف المشاركين، البالغ عددهم حوالي 4 آلاف شخص، في مظاهرة حاشدة ضد المؤتمر يوم السبت المقبل. ويخطط التحالف أيضًا للتظاهر والتطويق الرمزي لمؤتمر «ميونيخ للأمن» تحت شعار «السلام بدل التسليح، ولا للحرب».
حجر زاوية «الدبلوماسية السرية»
بالتوازي مع البرنامج الرسمي لمؤتمر ميونخ وقائمة المتحدثين، يدور خلف الأبواب المغلقة عالم من الدبلوماسية، تجري أنشطته في سرية تامة، ويحاول فيه المسؤولون الممثلون لدول العالم اكتشاف الأرضيات المشتركة في القضايا الدولية وبناء التحالفات وحل النزاعات.
ويحفز مقر انعقاد المؤتمر «فندق بيرانشه هوف»، على مثل هذه اللقاءات السرية؛ فهو يضم عدة مبان متصلة بممرات؛ ما يفتح مجالًا أمام انعقاد العديد من اللقاءات السرية المتزامنة. كما يتميز الفندق بزواياه وأركانه البعيدة عن الأنظار والتي تعد مساحة مثالية لانعقاد النقاشات الدبلوماسية السرية، أو اللقاءات العابرة بين المسؤولين.
والأكثر من ذلك يكتم السجاد الفخم المنتشر في ممرات وغرف الفندق أصوات الأقدام، كما يسهل العدد الكبير من السلالم والممرات الوصول الخفي إلى قاعات الاجتماعات والغرف المغلقة؛ ما يجعل «بيرانشه هوف» مكانًا مثاليًا لعالم الدبلوماسية السرية الذي يدور على هامش مؤتمر ميونخ.
وخصصت إدارة المؤتمر هذا العام أكثر من 100 غرفة في الفندق للاجتماعات السرية والمغلقة، على أن يستمر كل اجتماع نصف ساعة في المتوسط.
والعام الماضي أبرز فولغانغ أشينغر، الدبلوماسية السرية التي تدور على هامش مؤتمر ميونخ، قائلًا في تصريحات لصحيفة «ذود دويتشه تسايتونغ»: «البرنامج الرسمي للمؤتمر هو مجرد طرف جبل الجليد».
وتابع فولفانغ الذي خدم في حياته المهنية كسفير لألمانيا في الولايات المتحدة ويملك خبرة دبلوماسية كبيرة، ويترأس المؤتمر منذ 2010 أن «مؤتمر ميونيخ يعد مكانًا يتم فيه اختبار ومناقشة الأفكار الأمنية والدفاعية، وبناء التحالفات». ومن ثم فإن اللقاءات السرية لا تقل أهمية عن الاجتماعات المفتوحة والنقاشات التي تملأ البرنامج الرسمي، وهي ما تجعل المؤتمر منصة لصناعة القرار على المستوى الدولي.
وكمثال على الإسهام الذي تقدمه اللقاءات السرية على هامش مؤتمر ميونيخ، ذكر اشينغر في تصريحات منفصلة العام الماضي، لمجلة «السياسة الدولية» الألمانية الخاصة، اتفاقية «ستارت 2 للحد من الأسلحة النووية» التي بدأت المفاوضات الخاصة بها بين الولايات المتحدة وروسيا، على هامش مؤتمر ميونيخ عام 2009.
وبعد عامين من مؤتمر 2009 تبادلت وزيرة خارجية الولايات المتحدة آنذاك، هيلاري كلينتون، ووزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وثائق التصديق على الاتفاقية أيضًا على هامش مؤتمر ميونيخ الذي جرى عام 2011.
الرابط الاصلي للخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
ساسة بوست