2024-11-30 06:43 م

"صفقة القرن": تانغو بين الواقع والوثيقة

2020-02-05
بقلم: مجد كيال
لا تُجدِّد "صفقة القرن" إضافةً على الواقع الذي يقيمه الاستعمار الصهيوني في فلسطين اليوم، بعد 27 عاماً من توقيع اتفاقيّة أوسلو. هذا صحيح. يمنح الإعلان شرعيةً دوليّةً وثباتاً قانونياً لحقائق فرضتها إسرائيل بالعدوان والانتهاك. ويسعى إلى تحويل ما تراكم من تغيّرات على الأرض إلى مفصلٍ زمنيّ جديد تنكمش إمكانيّة الرجوع عنه. يحاول الإعلان الأمريكي فرض أرضية جديدة لمسألة فلسطين في العام –"أساس للمفاوضات المباشرة" يسمّيها ترامب- في ظل هشاشة واستحالة الأرضيّة القديمة، أرضيّة حلّ الدولتين.

ولم تكن سلسلة جرائم الاستعمار، وصولاً إلى واقعٍ جديد أتاح هكذا إعلان، مراكمةً فوق الفراغ. بل اعتمدت صناعة الواقع، وبشكلٍ منهجي، على الأسس الموضوعيّة التي اتّفقت عليها منظّمة التحرير الفلسطينيّة مع إسرائيل، وقبلتها تحت مظلّة "أوسلو" وملحقاتها. أي أن المفاهيم الجغرافية (مثل تقسيم مناطق الضفّة) والآليات الإدارية الأساسية (مثل منظومة التنسيق الأمني) التي صنعت واقع صفقة القرن وتشكّل أساس وجوده، هي مفاهيم وآليات أُقرت جميعها كمبادئ أساسية انطلق منها "أوسلو".

ليست هذه ملاحظة للمناكفة، أو لكشف نفاق من يتبجّحون بمناهضة "الصفقة" اليوم وهم من شاركوا فعلياً بتنفيذها على أرض الواقع. بل هي ملاحظة تطلب إلقاء الضوء على منطق عملٍ سياسي ودبلوماسي تتمسّك به الصهيونية، مقابل قيادة فلسطينية بعيدة كل البعد عن فهمه.

كيف تكسب الوثائق قيمتها؟

مثل معظم الأنظمة الغربية التي ارتكبت جرائم بحقّ شعوبها أو شعوبٍ أخرى، تُحْكم إسرائيل بمنطق القانون "النظيف" الذي يخلق مواقف رسمية (قوانين أو قرارات حكومية أو أمنية أو اتفاقيات) موضوعيّة، بينما يفسح النص المكتوب أو المحكي حريةً للقوة التنفيذية بأن تُفسّر الموقف الرسمي وفق الأيديولوجيا المهيمنة أوما يُسمّى "روح الفترة". لا يذكر القانون عرقاً مُحدداً يُعاديه، لكنّ الجميع يعرف أن القانون صُمم خصيصاً ليستهدف هذه الفئة دون غيرها. هذا منطق سائد في القانون الإسرائيلي كما في جميع الأوامر والقرارات الرسمية المستخدمة، لا سيما ضد فلسطينيي الداخل.

يمتلئ التاريخ بمثل هذه الأمثلة التي أدّت إلى نتائج إجرامية مروعة. ولعل أفظع وأشنع نقاشات المؤرّخين هي تلك التي تُسطّح المأساة الإنسانية وتحصرها في بعدٍ قانوني جاف، وأشهرها عالمياً النقاش المقزّز حول وجود أو عدم وجود أوامر من أدولف هتلر بتنفيذ المحرقة! ويغص تاريخ فلسطين بمثل هذه الأسئلة القبيحة التي تسعى بالأساس لإنكار الجريمة: هل وُجدت خطة عُليا تنص حرفياً على تهجير الفلسطينيين إبان النكبة؟ هل صدرت أوامر من القيادة بتنفيذ مجزرة كفر قاسم؟ هل أمر شارون حرفياً بتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا؟ وغيرها وغيرها...

هذا منظور أساسي لقراءة المواثيق ذات الشرعية الدولية أيضاً- كانت اتفاقيات أو قوانين دولة أو تصريحات تاريخية-يدلّنا على كيفيّة استغلالها إسرائيليًا: لا تكمن قيمة هذه المواثيق في الوعد المستقبلي الذي تنطق به أمام الناس، إنما جوهرها في كيفية تعريفها للواقع الذي تنطلق منه، والأرضية الموضوعية التي تُحدِّدها، والإمكانيّات التي بهذا تفتحها أمام القوّة القادرة على التنفيذ، كي تُفسّر الأخيرة الوثيقةَ وتتحرّك لكسب مواقع جديدة.ليس الشأن الحقيقي للوثائق أن تصل إلى تطبيق رؤية مشتركة لدى الأطراف، إنما أن تُعيد تقسيم إمكانيات واحتمالات الحركة لكل طرف. بيد أن القوة المادية على الأرض تظل دائماً المُفسِّر الفعلي للوثيقة. ما يُكسب الوثيقة معناها هو إمكانيّات تأويلها واستخدامها والتحرّك العملي ضمن تعريفاتها، خاصةً في حال نشوء ظروف غير متوقّعة (أو تحقق سيناريوهات) يُمكن انتهازها لإعادة تشكيل الوضع القائم. ترصد على سبيل المثال، عملية بناء الأجهزة الأمنية للسلطة كما نعرفها اليوم: بدأ الأمر باغتيالات واعتقالات الانتفاضة الثانية، ثم تدمير البنى التحتية للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، ثم الضغوطات الشديدة على السلطة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل يعمّق تنسيقها الأمني مع إسرائيل بمستويات غير مسبوقة، وذلك بعد عملية "إصلاحٍ" قدّمها شارون آنذاك، ثم تبنتها "خارطة الطريق" الأمريكية عام 2003، ثم بُدِئ بتنفيذها على مراحل وصولًا إلى حضور الجنرال دايتون لإنجاز المهمة كاملةً.

حكم هذا المنطق تعامل الصهيونيّة مع كلّ وثيقةٍ دولية أحرزتها في تاريخها، من "وعد بلفور" الذي حوّل رسالةً مقتضبة وفضفاضة إلى مدماك أساس في خطابها الاستعماري، ثم قرار تقسيم فلسطين عام 1947، ثم هدنة رودوس عام 1949 التي ثبّتت ما نعرفه اليوم بخطوط 1967.. والأمثلة عديدة وصولاً إلى "أوسلو".

ولعلّ خطاب نتنياهو في البيت الأبيض، بعد خطاب ترامب، يشكّل مثالاً واضحاً على هذا المنطق. فلو تمعنّا بخطاب رئيس الحكومة الإسرائيلي نجد أنّ مبناه من البداية حتّى النهاية يقوم على شكر ترامب على الخطوة التاريخية التي تمثّلها "صفقة القرن". ضمن هذا المبنى، بدأ نتنياهو يشكر ويمدح تفاصيل عينية في "الصفقة"، وضمن هذه التفاصيل بدأ يعيد صياغة ما قاله ترامب، فيحذف من أقواله ما يشاء ("حل الدولتين" أو "دولة فلسطينيّة" مثلاً) ويضيف إليها ما لم يذكره ترامب ("الدولة اليهوديّة" مثلاً). وعلى الرغم من أن الوثيقة ذاتها تراوح بين الخطابين، إلا أن قدرة نتنياهو على أن ينسب لترامب ما لم يقله حرفياً، أمام كاميرات العالم وبعد دقائق قليلة، يُمكنها أن تُوضّح كيفيّة استخدام الإسرائيليين لسلاح التفسير.

كيف صمّم أوسلو "صفقة القرن"؟

من هذه الزاوية، فإن "صفقة القرن" تأتي لتُلخّص - و"تتوّج" - الواقع الذي استطاعت إسرائيل صنعه في إطار المبادئ والتعريفات الجغرافية والقانونية والمنظومات الإدارية التي حدّدتها اتفاقيّة أوسلو. فما هو شكل هذا الواقع؟

تخضع القُدس بأحيائها الشرقية والغربية لسيطرةٍ إسرائيلية كاملة. ويعمق الاحتلال استحواذه على حياة الناس عبر مخطّطاته الكثيرة لربط المقدسيين بالاقتصاد الإسرائيلي، وجعل حياتهم مع مرور الزمن أقرب ما يكون إلى حياة فلسطينيي الأراضي المحتلّة عام 1948، بكل ما يعنيه ذلك من انضواء المجتمع تحت الحُكم المباشر للمؤسسات الإسرائيلية. كان ذلك في مجال العمل والمعيشة، والتعليم المدرسي والأكاديمي، والصحة وغيرها من مجالات الحياة، ويشمل ذلك إشراك شريحة من المقدسيين بإدارة وتطبيق عملية "الدمج" هذه.

على الرغم من "الضم" الإسرائيلي عام 1967، وعلى الرغم من سنّ البرلمان الإسرائيلي قانوناً"دستورياً" عام 1980 يثبّت السيطرة على شرق المدينة، لم تذكر أي من اتفاقيّات أوسلو وملاحقها مصطلح "شرقي القدس"، بل أُبرمت الاتفاقيّات دون أن تضطر إسرائيل لإحداث أي تغيير في وضعية المدينة. بكلمات أخرى، فقد حافظت إسرائيل على إمكانية "القدس الموحدة" في نص الاتفاقية على الرغم من الموقف الدولي الحاد في هذا الشأن، والذي عبّر عنه القرار 478.

وقد فسّرت إسرائيل بند "أوسلو 2" الذي يؤجّل النظر بمسألة القدس حتى "مفاوضات الوضع الدائم"، على أنه يمنع إحلال تغيير في الوضع القائم، وبالتالي يمنع أي نشاط للسلطة في القدس. واعتمدت على تفسيرها هذا لإغلاق كافّة المؤسسات والنشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما تصاعد وصولًا إلى الإغلاق الشامل لكافة المؤسسات المرتبطة بالسلطة، أو أي تنظيم فلسطيني آخر، ولعلّ أشهرها في حينه كان "بيت الشرق". هذا الحظر المستمر حتى اليوم، والذي يخن التنظيم الاجتماعي والنضالي في المدينة، ترك فراغاَ هائلًا سهّل محاولات إسرائيل فرض الأسرلة على المدينة.

أما المناطق التي صنّفتها أوسلو "مناطق ج"، والتي تشكّل 60 في المئة من الضفة الغربية فتخضع هي الأخرى لسيطرة إسرائيلية مطلقة بموجب الاتفاقية. مارست إسرائيل في هذه المناطق سياسات تهجير عنيفة من خلال سيطرتها التامة على البنى التحتية وسياسات التخطيط والاقتصاد، ومن خلال حثٍ غير مسبوق للإسرائيليين للانتقال إلى المستوطنات. أدى ذلك إلى أن يبقى في المنطقة "ج" 300 ألف فلسطيني فقط، مقابل 400 ألف مستوطنٍ، وذلك حسب إحصاء الأمم المتّحدة للعام 2017.

لكنّ الأهم من تأمين إسرائيل أغلبيّة ديمغرافيّة في هذه المنطقة اليوم، هو جغرافيا هذه المنطقة كما حدّدتها الاتفاقيات، بحيث أنّ المنطقة "ج" هي الوحيدة من بين المناطق الثلاث في الضفّة الغربيّة التي تتمتّع بتواصلٍ جغرافي. بيد أنها تقطّع أوصال المناطق "أ" و"ب" التي تخضع لصلاحيات جزئية الى "السلطة الفلسطينية". بكلمات أخرى: إن تمزيق الضفة الغربية كما تقترحه "صفقة القرن" يقوم على الخرائط التي قبلتها منظّمة التحرير في اتفاقية أوسلو.

أما بخصوص المناطق "أ" و"ب"، فعلى الرغم من أن التحكّم الإسرائيلي ليس مباشراً، والفلسطينيين هناك غير خاضعين لمؤسسات إسرائيل شخصياً، إلا أن إسرائيل قادرة على التحكّم الفعلي بكافة مجالات الحياة بوسائل عدة. أول هذه الوسائل هو التحكّم بالحواجز والنقاط الحدودية، وما يعنيه ذلك من تحكم بحركة الناس (ومنهم 97 ألف عامل من الضفة داخل إسرائيل عام 2018)، والصادرات والواردات. إضافةً إلى أن إسرائيل تتحكّم بما يقارب 70 في المئة من إيرادات "دولة فلسطين" من خلال سيطرتها على ضرائب تجبيها نيابةً عن السلطة الفلسطينية. وهو ما ينتج أيضاً عن الملحق الاقتصادي لاتفاقيّة أوسلو. إضافةً إلى التوغّل العميق للمخابرات والجيش داخل المجتمع الفلسطيني، إما بشكلٍ مباشرٍ وإما من خلال منظومة "التنسيق الأمني"، وهي منظومة صممتها المادة الثالثة في الملحق الأول لاتفاقية أوسلو2. يُضاف إلى هذا محاولات الالتفاف على وكالة السلطة في هذه المناطق وتوسيع رقعة التعاون المباشر بين الجيش ورؤوس الأموال الفلسطينية.

استراتيجية القمع: شرط تحقيق الطموح الإسرائيلي

لا يكفي القول بأنّ "صفقة القرن" تأتي لختم أمرٍ واقعٍ ناتج عن أوسلو. بل يترتّب على ذلك التنبّه إلى أن المبادئ والتعريفات والمنظومات التي يصممها الإعلان الأمريكي، ستشكّل كلها خارطة الحركة الإسرائيلية خلال السنوات أو العقود القادمة. وستعمل إسرائيل على استنزاف كل ما تتيحه الصفقة لصالحها بمعزِل عن رضى أو رفض السلطة الفلسطينية.

تقدّم الوثيقة الجديدة منظومات وقنوات إدارة جديدة وأكثر تعقيداً مما سبق، وهو ما سيسمح بالمزيد من الاستفراد الإسرائيلي بقطاعات مختلفة، والتحكّم المباشر بها. وستعمل إسرائيل ضمن هذه المنظومات، كما ستعمل من طرفٍ واحدٍ، دون انتظار أي شرعية دولية لتصعّد توغّلها وتعمّقه سعياً لنسف أي إرادةٍ سياسية فلسطينية.

يعتمد هذا الاستفحال الإسرائيلي على ما بات مفهوماً ضمناً: أن كل المواقف السياسية الرافضة للصفقة، مهما بلغت حدتها أو جذريتها، تبقى ضحلة القيمة طالما ظلّت منفصلةً عن قوة ضغط سياسية. أنّ قوّة الواقع لا يغيّرها تشبّث الفلسطيني بثوابت أو مبادئ، طالما التشبّث لا يُترجم إلى فعل يزعزع استقرار إسرائيل. وبالطبع، أن عجل الواقع المتقدم لا يُعاد إلى الوراء بمجرد التمسك الرسمي الأوروبي والعربي بالمواقف، طالما لا يُترجم هذا التمسّك إلى أدوات ضغطٍ دولية فعليةٍ على إسرائيل. وبالطبع، أنّ هذه الأطراف الرسمية لن تكون معنية أبداً بتحمّل مسؤولية الضغط على إسرائيل "لوجه الله"، إن لم يفرض الفلسطينيون ذلك بقوة النضال.

توجد إسرائيل اليوم في وضعيّةٍ مريحة، إذ يسود اعتقاد في المستوى السياسي خاصةً، أنّ الحكومة الإسرائيليّة قادرة على تطبيق مخططاتها دون تكبّد أي خسارة. ويظهر من تصريحات قياداتهم أن التهديدات المتكررة "بانفجار الوضع" في فلسطين عموماً، وفي الضفة الغربية والداخل المحتل خاصةً، لم تعد تؤخَذ على محمل الجد من قبل صنّاع القرار السياسي.

ولهذا الاعتقاد أسباب منطقية كثيرة أولها التجربة: انتظرت إسرائيل "انفجار الوضع" بعد حظر الحركة الإسلامية في الداخل، وبعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ثم بعد "قانون القومية"، والفتك المروّع بالمتظاهرين على سياج غزّة المحاصرة، واقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى يوم عيد الأضحى، واستشهاد الأسرى داخل سجون الاحتلال، وصولاً إلى "ورشة البحرين" وإعلان "صفقة القرن". في كلّ هذه الحالات، لم تشهد الساحة الفلسطينية تحرّكاً مقاوِماً يليق بالموقف السياسي.

ينتج هذا الصمت الفلسطيني المؤلم عن منهجيّة قمعٍ عميقة تطبّقها إسرائيل في محاولةٍ لاستئصال المقاومة. وهذه لها منطق واحد، في كل بقاع الوجود الفلسطيني، داخل البلد المحتلّ وخارجه، حتى وإنْ ظهرت فروقات بالأدوات والأطر القانونية لهذا القمع.

ما منطق القمع الإسرائيلي؟ إحباط دوافع النضال لدى فئات اجتماعية واسعة من خلال الحفاظ على استقرارها المادي، وخلق "سلطات" محلية فلسطينية تمتلك شرعية تاريخية وثقافية لتُرتب العلاقة المستقرّة بين المجتمع الفلسطيني وإسرائيل باعتبارها المتحكِّم المُطلق بالاقتصاد والحركة. ثم تحت الشرعية الوطنية لهذه السلطات المحلية المتمكّنة، تجري عملية استفراد إسرائيلي يُسرف في استعراض العنف لعزل التحركات (أو حتى الأفراد) التي تحمل موقفاً جذرياً من إسرائيل، وسلخها عن المجتمع حتى تتحوّل جيوباً منبوذة. ويُمكن أن نرى ذلك بمستويات شديدة التفاوت ولكنّها تعتمد المنطق ذاته، إذا ما نظرنا إلى عزل إسرائيل للحركة الإسلامية في الداخل المحتل، أو القمع المروع والاستعراضي لشباب الجبهة الشعبية في الضفة مؤخراً، أو حتى الجولة التي خاضتها في غزّة ضد الجهاد الإسلامي إثر اغتيال بهاء أبو العطا.

عن المُمكن

على أرضية "صفقة القرن" ستحاول إسرائيل أن توسّع قمعها لأبعد مدى ممكن، وهو شرطها الأساسي لتتمكّن من تحقيق أي تقدّم جديد على الأرض، ومن استيلاء إضافي وتعميق للسيطرة وتسريع للطرد وسحب كل بساطٍ سياسي جامع من تحت أقدام الفلسطينيين. ويبدأ ذلك أولاً وقبل كل شيء بتجذير الفصل بين هويات فلسطينية مختلفة- بين داخل، ضفّة، غزّة، واللاجئين. هكذا وبهذه الأدوات، سيسعى الاستعمار إلى الاستفادة بالحد الأقصى من الوثيقة الجديدة.

إن الخيط الذي نستطيع أن نربطه اليوم بين الأسس الموضوعية والمبدئية - القانونية والجغرافية والإدارية - التي فرضتها إسرائيل من خلال اتفاقيّة أوسلو من جهة، والواقع السوداوي الذي آلت إليه القضية الفلسطينية من جهةٍ أخرى، يدلّنا على أنّ شرعنة إسرائيل لأفعالها الاستعمارية السابقة ليست إلا تجهيزاً وبناءً لمنصة تنطلق منها نحو المزيد من الاستفحال، وتفتيت المزيد من القرارات الأممية ومواقف الحكومات الأجنبية والعربية، وابتزاز المزيد من "التنازلات" الفلسطينية. واضحٌ أن القيادة الفلسطينيّة لا تجرؤ ولا تقدر على خوض نضالٍ يرتقي للمرحلة التي تفرضها إسرائيل.

ولا يلوح في أفق التنظيمات السياسية التقليدية في كل فلسطين أي سعي لتغيير جدي في اداءها السياسي. وجلي كذلك أن المجتمع الفلسطيني، الممزق كتمزق الجغرافيا، لا يحمل ردًا فوريًا على الإعلان الأمريكي، يُؤدّي إلى إحباطه أو إحباط المخططات الإسرائيلية القائمة عليه.

ولا شكّ أن الشعب الفلسطيني، مثل كل الشعوب، يحمل القدرة على إحداث مفاجآت يعجز التحليل السياسي عن التنبّؤ بها. وبقدر ما يبقى هذا الأمل ضاربًا في أعماقنا، إلا أنه من غير الممكن الاعتماد على هذا "الفرج" وانتظاره بينما يضيع حق الناس يوميًا.
بات من المؤكّد أنّ كل محاولات التحرك داخل النموذج (بمعنى paradigm) الذي نعرفه عن السياسة الفلسطينية، بما تحمله من قناعات سياسية وتقاليد تنظيمية، قد وصلت إلى انسدادٍ تام. ومن الشجاعة الاعتراف بهذا الانسداد. ربما يكون هذا الاعتراف بداية سعي وبحث عن بذور أفكار وأدوات جديدة لا نعرفها. وربما تكون أفكاراًوأدوات تتضارب مع التراث السياسي الذي كبرنا عليه.

يتطلّب ذلك أن نسبح في المجهول السياسي، وهذا أفضل بكثير من السباحة في المستنقع ذاته. لعلّنا نتعلّم ونكتشف ما يُمكننا من مواجهةٍ مشرّفةٍ وناجحةٍ ضدّ الظلم.
السفير العربي