بقلم: إيهاب شوقي
قد يكشف السلوك السياسي الدولي تجاه حدث ما، سلسلة من السلوكيات تجاه أحداث أخرى، وبالتالي يضع لنا قانونا يمكن اعتماده للتنبؤ بما ستكون عليه الأحداث، وهنا نخرج من دائرة التنجيم الى دائرة المنطق أو العلم التجريبي.
ومن الاحداث التي فرضت نفسها على الساحة الدولية وتصدرت العناوين، هو ما يحدث من تطورات في ليبيا، وما بدا أنه نُذُر لصراع اقليمي ودولي جديد يقارب ما يحدث في سوريا، من تعدد للاطراف، وتشابك للمصالح، وتصعيد للميدان وللتصريحات. وربما بالقاء مزيد من الضوء على هذا الحدث، يمكن استكشاف قانون السلوك الدولي، والتنبؤ بالقادم:
اولا: تشهد ليبيا صراعا بين المصالح الاقتصادية والسياسية لكثير من الدول والأطراف.
ثانيا: المصالح الاقتصادية والسياسية في ليبيا تتفاوت بين المعسكرات، فمثلا تنظر الامارات من منظور خطتها الاقتصادية للسيطرة على خطوط الشحن وتوسع سيطرة شركة موانئ دبي على موانئ افريقيا والدخول للبحر المتوسط عبر ليبيا، اضافة الى موارد ليبيا الضخمة من الطاقة وحاجتها إلى إعادة الإعمار، وهما مجالان تتخصص فيهما الإمارات، وسياسيا في صراعها مع حركات (الاسلام السياسي) حيث الخشية من التهديدات السياسية على العرش عند اتساع هذه الحركات ووصولها للسلطة.
بينما تسعى السعودية في ظل حكم بن سلمان الذي يسعى إلى التداخل والتوافق مع الإمارات العربية المتحدة لصياغة نظام إقليمي موالي جديد، نحو التنويع الاقتصادي، وهو ما شد المملكة لقطاعات أخرى مثل قطاع الغاز وهو مجال تتمتع فيه ليبيا بإمكانات كبيرة.
وفي ذات المعسكر هناك مصالح فرنسية على رأسها أمن الساحل الافريقي وخوفها من تلاقي الجماعات التكفيرية وتشكيل جبهات متحدة تهدد المصالح والنفوذ.
وعلى المعسكر الاخر، تأتي مصالح تركيا الاقتصادية المتعلقة باكتشافات الغاز في المتوسط وسعيها لفرض اتفاقات جديدة تجعل لها نصيبًا من الغاز، وعينها كذلك على الاستثمار ودخولها كشريك في اعادة الاعمار، اضافة الى المصالح السياسية المتعلقة بتوسيع النفوذ عبر الجماعات (الاسلامية) الموالية لها والسعي الدؤوب لمساومة اوروبا بالهجرة عبر امتلاك نفوذ في بلد يشكل منفذا رئيسيا للهجرة وغيرها من المصالح التي يجيدها اردوغان كورق للعب والمساومة والابتزاز.
ويشكل الامر لقطر قطعا للطريق على تمدد نفوذ الامارات والسعودية وايضا الحفاظ على النفوذ المعنوي لدى الجماعات (الاسلامية)، وان اقتصر دورها على التمويل الاعلامي والدعائي وربما تمويل التدخل التركي.
ثالثا: يشكل الموقف الامريكي اكثر المواقف غموضا، فبينما يسعى المعسكران لاستقطاب امريكا واسترضائها، فإن الموقف الامريكي متراوح، ويمكننا تفسيره عبر ثلاثة أمور رئيسية:
1: أن المحصلة لن تكون بعيدة عن مصالحه الضيقة والمتراجعة في ليبيا، والتي يأتي على رأسها عدم السيطرة التامة للروس او الصين، وعدم التأثير على أسواق النفط، بينما المصالح الرئيسية في ليبيا هي مصالح أوروبية بامتياز، بل ومتعارضة بين ايطاليا وفرنسا وهما عضوان بالناتو.
2: ان المراقب للسياسة الامريكية لا يراها ابتعدت كثيرا عن افكار كيسنجر، والتي استمرت مع روسيا حاليا بذات منطق الاتحاد السوفيتي، والتي ترى أن الأهداف البعيدة المدى في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، هي كيفية التخلص من النفوذ والتسلط العسكري السوفياتي (الروسي ومحور المقاومة عموما حاليا) في المنطقة، وهي سياسة لا تسمح للضغط العسكري بتقرير نتيجة مجريات الأمور، من خلال إفهام المسؤولين بأنه من غير الممكن تحقيق أي تقدم ديبلوماسي تحت ضغط السلاح. وهو ما يفسر كثيرا من السياسات الامريكية في سوريا والعراق واليمن ايضا.
3: يشتهر بين رجال القانون الدولي ان الروس اصحاب مدرسة السيادة بينما الامريكيون اصحاب مدرسة الشرعية، ومن هنا تتذرع امريكا بفكرة الشرعية لفرض تدخلاتها، ويصعب عليها التملص من ذلك في ليبيا، نظرا لاعتراف الامم المتحدة بحكومة الوفاق، ناهيك عن الداخل الامريكي، الذي وصل به الامر في 16 مايو 2019، الى ان طلبت مجموعة في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب من المدعي العام ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي النظر في توجيه تهم بارتكاب جرائم حرب ضد حفتر، باعتباره مواطنا أمريكيا، وفي 29 مايو ، طلبت لجنة بمجلس الشيوخ من الرئيس الدعوة لوقف إطلاق النار ودعم عملية الأمم المتحدة الدبلوماسية، وهو ما جعل المراقبين يرون انه كلما زاد حفتر وحلفاؤه الحرب، زاد التهديد لمصالح الولايات المتحدة.
رابعا: يشهد الوضع الراهن تصعيدًا من كلا المعسكرين، فبينما يكثر المرتزقة السودانيون في جبهة حفتر هناك تقارير عن وصول “دواعش” الى الطرف الاخر، ناهيك عن دخول أسلحة متقدمة وطائرات دون طيار ومدرعات، يمكنها تحويل التصعيد لصراع دام ومدمر لما تبقى من الموارد الليبية ومن أمن وحياة المواطنين.
القانون الذي يمكن استنتاجه هنا، هو التعقيد واطالة أمد النزاع، فبينما بدا أن هناك حسما وشيكا لاحد الاطراف، دخل اردوغان كعادته في اللحظات الأخيرة للتعطيل، وهو هنا يصعب تصور انه يتحرك بشكل فردي او بفائض قوة تركية تسمح بتحدي القوى العالمية، وانما بتنسيق مع امريكا ومع اتباعه من الجماعات لخلق سلة مفاوضات كبرى تأبى أن يحسم تفاوض على ملف بعينه دون المساومة على باقي ملفات هذه السلة.
يبدو ان العام الجديد هو عام تعطيل الحسم بانتظار تسويات شاملة خاضعة لسلة متكاملة من المفاوضات والمساومات، ولكن هل يضمن من ينتهج هذا النهج عدم الانزلاق عن حافة الهاوية المعتمدة كخيار راهن؟