2024-11-24 08:00 م

لماذا الايرانيون أكثر قدرة على كسب الحلفاء وبناء التحالفات السياسية في العراق?

2020-01-01
د. منتصر العيداني

تساؤل لطالما حير الباحثين والمتخصصين في الشأن العراقي بعد عام 2003, عراقيا و عربيا وربما غربيا او حتى امريكيا , و سبب الحيرة والالتباس ان المعطيات تخالف القاعدة المنطقية بأن المقدمات تؤدي الى النتائج , فالمقدمات في الحالة العراقية بعد عام 2003 تقود الى نتائج متعارضة تماما مع الاوضاع مابعد ذلك , فالويالات المتحدة الامريكية هي التي قادت الحرب لتغيير النظام في العراق عام 2003 , و تكبدت خسائر كبيرة قدرت بالاف القتلى و عشرات الاف الجرحى والمعاقين فضلا عن ترليونات الدولارات , وهي التي اسست العملية السياسية بعد عام 2003 , كما انها اشرفت على المعارضة العراقية قبل ذلك منذ بداية التسعينات , و كانت مؤتمرات لندن و واشنطن للمعارضة العراقية هي المقدمات لصياغة النظام العراقي الجديد , وكان عراب تلك المؤتمرات السيد زلماي خليل زادة ومن خلفه الأجهزة والمؤسسات الامريكية , الا ان النتيجة كانت ان النفوذ الامريكي في العراق طوال الستة عشر عاما مابعد 2003 هو الاضعف ازاء النفوذ الايراني أو كما يبدو ذلك , الامر الذي ازداد في السنوات الاخيرة , حتى ان العديد من المسؤولين العراقيين أخذوا يروجون و ربما عن قناعة بأن الولايات المتحدة الامريكية لم تعد بتلك القوة و القدرة السابقة كقوة عظمى مهيمنة .

هناك العديد من التفسيرات / التبريرات التي تطرح في هذا الصدد , الا ان العديد منها غير منطقي كذلك , مثلا هناك من يعتقد بأن ايران استطاعت بناء و تعزيز نفوذها السياسي في العراق ما بعد 2003 بواسطة الفساد و الجماعات المسلحة ( المليشيات ) , وهو أدعاء يحتاج الى مراجعة , ذلك أن الفساد الكبير في عراق مابعد/2003 بدأ من النافذة الامريكية , وهو ما نشأ من خلال ظاهرة الفساد في الإدارة الأمريكية التي حكمت العراق انذاك , فقد اتهمت إدارة سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق ومن ثم السفارة الامريكية في العراق و من قبل مؤسسات امريكية متخصصة ، بالفساد والاستغلال السيء للموارد, وفقا لتقرير المفتش العام الأمريكي ستيوارت بووين بشأن الفساد في العراق , الذي اوضح فيه أن ملف أعمار العراق في السفارة الأمريكية يتعرض إلى هدر مقداره 50% يعني 9 مليار دولار من أجمالي الأموال المصروفة على إعادة أعمار العراق البالغة 18,3 مليار دولار , فضلا عن ملف عن الفساد في صندوق تنمية العراق الـ ( DFI) و بمبالغ طائلة , و أكثر من ذلك فأن العقوبات الامريكية الاخيرة على بعض القيادات السياسية وقيادات الفصائل المسلحة تشير الى ان الولايات المتحدة الامريكية كانت على معرفة تفصيلية بالفساد في العراق , الا انها لم تصدر تلك العقوبات الا عندما اصبحت مصالحها مهددة من تلك القوى , ناهيك عن الفساد الواسع في المنح و المساعدات التي تقدمها المؤسسات الامريكية للمؤسسات الرسمية العراقية او منظمات المجتمع المدني . اما بصدد الجماعات المسلحة فأن سلطة الائتلاف المؤقتة هي من أصدرت الامر رقم 91 عام 2004 الذي سمح فيه لتسعة مليشيات من (حزب الدعوة ، منظمة بدر ، الحزب الشيوعي العراقي ، حزب الله العراق ، الحزب الإسلامي العراقي ، الوفاق الوطني العراقي ، المؤتمر الوطني العراقي ، الحزب الديموقراطي الكردستاني ، الاتحاد الوطني الكردستاني ) بدمج افرادها ضمن الاجهزة الامنية والقوات العسكرية العراقية الجديدة , بدعوى سد الفراغ الامني والحفاظ على الامن والاسراع بتشكيل الجيش الجديد , و في الوقت ذاته قامت سلطة الائتلاف المؤقتة بحل الجيش العراقي السابق والاجهزة الامنية . بالمقابل فأن الولايات المتحدة الامريكية هي من دعمت بالمال و السلاح انشاء الصحوات السنية أو ما يعرف ايضاً بمجالس الإسناد أو الإنقاذ كقوى مسلحة عشائرية بدعوى مقاتلة الارهاب . وعلى الصعيد العسكري فأن الولايات المتحدة الامريكية تمتلك عدة قواعد عسكرية في العراق حاليا , فضلا عن انها دربت وجهزت العديد من القوات العسكرية العراقية او اشرفت وساعدت في ذلك , وادخلت العديد من القادة العسكريين العراقيين في دورات تدريبية في المعاهد العسكرية الامريكية .

و من بين التفسيرات الاخرى لتراجع النفوذ الامريكي ازاء النفوذ الايراني في العراق, هو طريقة التعامل السياسي او استقطاب الحلفاء السياسيين أو حتى الاصدقاء في العراق , فالامريكان كما يبدو يبنون علاقاتهم مع السياسيين العراقيين أو غيرهم عموما بطريقة الصفقة وليس التحالف , عكس ما يقوم به الايرانيون , بمعنى أن الايرانيين يتحالفون مع السياسيين العراقيين – بمختلف انتماءاتهم – بأسلوب الحياة معا او الموت , اي انهم يدعمون حلفائهم بصورة دائمة و بكل الوسائل كما يبدو , أما الامريكان فهم يتعاملون مع حلفائهم السياسيين بطريقة أشبه بالتعاقد لتنفيذ سياسات معينة بكلفة و سقف زمني محددين , و يغيرون تحالفاتهم مع تغير المهمات والاوضاع وحسب الصفقات السياسية , و لا يقتصر ذلك على الحلفاء السياسيين فقط انما يشمل حتى المتعاقدين المحليين الذين عملوا مع الجيش الامريكي في العراق , الذين تعرض العديد منهم الى اصابات وتهديدات خطيرة دون ان يحصل العديد منهم على حماية او لجوء في الولايات المتحدة الامريكية بطريقة مناسبة . واتساقا مع ماتقدم فأن الرأي السائد حول السياسة الامريكية يذهب الى ان الامريكان لايعولون في سياستهم اساسا على الاشخاص وانما يهتمون بالدرجة الاساس بالسياسات و الممارسات . لذا فأن الحلفاء او الاصدقاء يدركون ذلك و يتعاملون على اساسه , وهو الامر الذي لا يلائم الذهنية السياسية العراقية بل وحتى الشرق اوسطية .

و يعزو اخرون سبب تراجع النفوذ الامريكي ازاء النفوذ الايراني في العراق , الى طريقة صنع السياسة الخارجية الامريكية التي تتسم بالتعقيد والبطئ , الا أن هذا التبرير لايعد منطقيا كذلك , فهل يعني ذلك ان السياسة الخارجية الامريكية هي اقل دينامية من السياسة الخارجية الايرانية ؟ , وهو سؤال لا يستقيم مع دولة عظمى تمتلك نفوذا عالميا و تدير بل تقود السياسة الدولية على مختلف الاصعدة .

أما على الصعيد الشعبي , أو الراي العام العراقي بعد عام 2003, فأن الايرانيين استطاعوا كسب الراي العام العراقي ليس فقط الشيعي وانما حتى السني في السنوات الاخيرة , و جزء من الراي العام الكردي , رغم الحرب الطويلة بين البلدين في الثمانينيات من القرن الماضي , بينما لم يحظى الامريكان بمثل ذلك المستوى أو بمستوى اعلى من نظيره الايراني على صعيد القبول الشعبي طيلة الفترة الماضية , لا على الصعيد الشيعي بالرغم من انهم كانوا العامل الاساس في تغيير النظام السابق ودعم القوى الشيعية في قيادة الدولة , الامر الذي لم يتحقق على مر التاريخ , ولا على الصعيد السني , و اخيرا خسروا الكثير من التأييد الشعبي الكردي الواسع بعد الاستفتاء الكردي عام 2017 , بسبب تداعيات الموقف الامريكي المعارض للاستفتاء . كل ماتقدم انعكس جليا في تشكيل الحكومة العراقية الاخيرة , والرئاسات الثلاث , التي كانت اقرب الى الايرانيين بنسبة واضحة . ورغم تغيير الرأي العام العراقي في الانتفاضة الشعبية الاخيرة ورفع شعارات معارضة للهيمنة الايرانية في العراق , و احراق القنصلية الايرانية في النجف لاكثر من مرة , و كذا صور المرشد الاعلى السيد علي خامنئي, الا ان ذلك لايعني بالضرورة تأييدأ للعلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية او تعاطفا شعبيا معها , اذ لم تبرز مؤشرات تدل على ذلك بشكل واضح .

ان ماتقدم و غيره الكثير , لا يمكن تفسيره الا بوجود فجوة فكرية و ثقافية واسعة بين الولايات المتحدة الامريكية والعراقيين , الامر الذي اخفق كلا الطرفيين في ادراكه و تحليله , مقابل تفهم ايراني اعمق للثقافة و الذهنية العراقية , الا أن ذلك لايمكن تفسيره بالاستناد فقط الى العلاقات التاريخية والاجتماعية والدينية و المصالح الناجمة عنها بين بلدين جارين , ذلك ان الولايات المتحدة الامريكية كانت حاضرة على الارض العراقية طيلة عقد ونصف , و تعاملت بل و ادارت أو اشرفت أو اطلعت على كل تفاصيل الدولة والحياة العامة في العراق , ناهيك عن أن العولمة حولت العالم الى قرية صغيرة , ولم تعد الحواجز الجغرافية والثقافية موانع للتواصل والاندماج الحضاري بين الامم , فضلا عن ماتقدم فليس من المنطقي افتراض ان كل دولتين جارتين تمتلكان علاقات متميزة و اقوى من علاقات كل منهما مع القوى الدولية , والا لكانت جميع دول المنطقة اقرب الى بعضها من الولايات المتحدة الامريكية , وهو مايخالف الواقع تماما .

ان تلك الفجوة لها اسباب اخرى عديدة , مثلا هناك العديد من الباحثين العراقيين المتميزين الذين درسوا ويقيم بعضهم في الولايات المتحدة الامريكية , الا ان هؤلاء الباحثين و نظراً لطبيعة المنهجية العلمية في الاكاديميات الامريكية , اصبحوا يكتبون عن العراق بطريقة تفكير تلك المؤسسات العلمية التي درسوا فيها او عملوا معها , وبضمنها المنظمات الامريكية المختصة او المهتمة بالشؤون السياسية العربية والعراقية , بدلا من ان يعبروا عن طريقة التفكير و النسق القيمي للمجتمع والسياسة في العراق و ذلك لاسباب عديدة من بينها الافتقار الى الاليات النظرية اللازمة. أن السياسة في المنطقة العربية والشرق اوسطية تختلف في مضمونها كليا عن السياسة في الغرب او الولايات المتحدة الاميركية , لاسيما في مفهوم الدولة والسلطة , وهذا يعود الى اختلاف البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتلك المجتمعات ومنها العراق , حيث لايزال كل ذلك مرتبطا بمفهوم العائلة , وهو امر يطول الحديث فيه , لكنه يتضح من خلال الافتقار الى دراسات معمقة و معاصرة ومحايثة في الانثروبولوجيا وفي السوسيولوجيا العراقية , الامر الذي يتطلب جهود و موارد وبيئة ملائمة .

أكاديمي وباحث عراقي