2024-11-27 12:51 م

هنري كيسنجر: النظام العالمي الجديد في مرحلة التأسيس على نار حامية

2019-11-30
مرج البقاعي
في قاعة الشعب الكبرى بالعاصمة الصينية بكين، وهي قاعة شهيرة تُعقد فيها عادة اجتماعات رفيعة المستوى للمنظمات السياسية والاجتماعية، إلى جانب الاحتفالات الوطنية الصينية، اجتمع الرئيس الصيني شي جين بينغ مع المشاركين من رجال الاقتصاد والسياسة والفكر في العالم في مناسبة حاشدة أطلق عليها “منتدى بلومبيرغ للاقتصاد الجديد”. التأمت اجتماعات المنتدى خلال الفترة بين 20 و22 نوفمبر الجاري، وكان في مقدمة المشاركين وأبرزهم السياسي الأميركي والمفكر المخضرم هنري كيسنجر.

منظور مستقبلي

تحدث الرئيس الصيني في حفل الافتتاح مشيرا إلى أهمية الابتكار في زمن التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم خلال المئة سنة الماضية، ولاسيما في ما يتعلق بالثورة العلمية والتكنولوجية والتحولات الصناعية. وشدد على أهمية مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها بكين في شهر أبريل الماضي، والتي تهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير التجاري القديم الذي كان يمتد عبر آسيا وأوروبا لنقل البضائع من تلك المناطق إلى الصين، وبالعكس.

نائب الرئيس الصيني وانغ تشي شان، التقى خلال المؤتمر بكيسنجر، ضيف الحفل، الذي أعرب لنائب الرئيس عن منظوره لطبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وعن الحاجة إلى العقول المنفتحة والفكر التاريخي الفلسفي في خوض غمار المحادثات في جملة المشتركات التي يمكنها أن تعزز العلاقات بين البلدين.

يؤكد كيسنجر على أهمية الحوار بين بكين وواشنطن وعلى إقامة جسور التواصل التي هي وحدها القادرة على بناء علاقات ثنائية إيجابية ومتوازنة بين البلدين، وكذلك ابتكار السبل لتوطيد هذه العلاقة.

أما المفاوضات التجارية الجارية بين البلدين فقال عنها ثعلب السياسة الأميركية “يعلم الجميع أن المفاوضات التجارية التي آمل أن تنجح وسأؤيد نجاحها، يمكن أن تكون مجرد بداية متواضعة للحوار السياسي الذي آمل أن يحدث”.

ويرى الصينيون، حسب تشي شان، أن البلدين يتمتعان بأرضية لقاء مشتركة أفضل من مواقع الخلاف بينهما، وأنهما يمكن أن يحصدا منافع كبرى من التعاون بينهما، في حين أن المواجهة ستكون عبثية وستلحق الضرر بالطرفين معا.

نظام عالمي يتأسس


السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه الآن يتعلق بماهية رؤية كيسنجر، في العلاقات العالمية الجديدة بين معسكري الغرب والشرق وتحديدا بين الولايات المتحدة والصين، وكيف تُرسم خطوط مستقبلها في سياق التعقيدات الدولية التي تحكم تلك الثنائية الدولية المتشنجة باستمرار والتي قد تكون أقرب إلى حرب باردة جديدة بين العملاقين الصناعيين في خضم ما يشهده العالم من الاضطراب واختلال الميزان الأمني والسياسي. فما الذي يرمي إليه كيسنجر من خلال كل ذلك الوصف اللطيف للعلاقات بين قطبين يتصارعان يوميا على أسواق العالم، أم أنه يود تخدير التنين الصيني بتصويره شريكا لأميركا على قمة الهرم؟

يعتبر كيسنجر من أبرز رجال الدولة والسياسة والفكر في العالم، وكان من أقوى وزراء الخارجية الأميركيين، وأطلق عليه لقب “ثعلب أميركا” لعمق حنكته السياسية وغنى قراءاته للأحداث العالمية وتحليل تأثيرها في مجريات التاريخ الحديث.

يعتقد كيسنجر أن النظام العالمي الجديد إنما هو في مرحلة التأسيس على نار حامية حاليا؛ وقد أصبح ضرورة ملحّة يفرضها الواقع الدولي المستجد في ظل تعاظم عدد الدول المستقلة وذات السيادة في الكرة الأرضية من ناحية، ومن ناحية أخرى لدواعي انتشار الفكر الديمقراطي ومبادئ المشاركة السياسية وتداول السلطة سلميا في العالم، بحيث غدا بناء ذاك النظام الجديد القائم على تلك المبادئ الإنسانية الرفيعة طموحا لأغلب الدول المستقلة ذات السيادة.

ويرى أن بناء النظام العالمي الجديد لا بد أن يتم بالمشاركة بين دول العالم أجمع؛ مع الانتباه إلى التمايزات في هذا العالم، بين دوله وشعوبه والتي مردّها قراءة التاريخ برؤى متباينة، والصراعات التي تشهدها أكثر من دولة في العالم التي من المفترض أن تكون شريكة أيضا في بناء هذا النظام رغم تعقيد ظروفها الأمنية والسياسية، علاوة على الانتشار الهائل وغير المنضبط في بعض الأحيان لوسائل التواصل والمنصات الاجتماعية والتكنولوجيا بكل حسناتها وعيوبها، وأخيرا ظهور حركات التطرف الأيديولوجي والعقائدي التي تتخذ في حالاتها الشاذة من الدين ستارا لأعمالها العنيفة التي أصابت العالم بأسره بالرعب والصدمة والرهاب من مستقبل العالم في ظل موجة الإرهاب الظلامي.

من يقود العالم؟


يمرّ النظام العالمي الحالي بأزمة حقيقية انعكست في مشهد من الحروب المتنقلة والاضطرابات والعنف الأهلي والسياسي الذي يضطرم في غير بلد من العالم كما يرى كيسنجر. وهو يستشهد بالأحداث الكبرى التي تمر بها أكثر من دولة في العالم، والتي تثير القلق والخوف على مستقبل البشرية بأسرها. ففي سوريا والعراق نشأت وتنظمت مجموعات إرهابية مسلحة تموّل نفسها من خلال الإرهاب وبسط السيطرة بالسكين والرصاص، وتهدف إلى إقامة دولة الخلافة على الأرض بفكرها العنفي الذي يقوم على قطع الرؤوس واستباحة الدماء وترهيب البشر. وليس تنظيم داعش إلا الصورة الأكثر تطرفا وعنفا من نسخها المتعددة العابرة للحدود كالقاعدة وبوكو حرام وغيرهما.

وهناك، طرف آخر، التوتر الشديد الذي يسيطر على علاقات دولتين عظميين أولاهما تنتمي إلى المعسكر الشرقي وهي روسيا والثانية إلى الغربي منه وهي الولايات المتحدة، هذا ناهيك عن الاضطرابات الشديدة التي تسببها مواقفهما المتناقضة من الحروب والمواقع الساخنة في العالم، بسوريا وأوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر، حيث تفترق المصالح وتعلو نبرة النفوذ لكل منهما. أما ميزان العلاقات بين الولايات المتحدة والصين فيرى كيسنجر أنه أكثر اعتدالا وغالبا ما يتأرجح بين محاولة التعاون وتطبيع العلاقة حينا، والتصادم والتوتير وتبادل الاتهامات أحيانا.

أما ماهية ومحددات النظم التي ترسم للنظام العالمي الجديد فيراها كيسنجر كامنة في المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليها المجتمعات الغربية؛ وهو يرى في الولايات المتحدة قيادة عالمية اضطلعت بسدة السياسة العالمية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، بانية أسس قيادتها على مبادئ الحرية والديمقراطية التي هي قاعدة منظومتها السياسية على أرضها.

رجل السلام
يثني كيسنجر على سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، خصوصا في فترة ولايته الثانية، والتي هدفت إلى تشكيل هيئة عالمية تشاركية تقوم على مفاهيم الأمن وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي بصورة معاصرة تتماشى مع المشهد الحداثي الفكري والتكنولوجي للقرن الحادي والعشرين.

ويؤطر لنا كيسنجر رؤيته في صورة نظام عالمي جديد لا يقوم على القطب الواحد؛ ويرى النظام العالمي الجديد، من هذا المنطلق الموضوعي لظروف عالم القرن الواحد والعشرين، نظاما يقوم على التشاركية بين الولايات المتحدة والصين، مستبعدا روسيا بشكل نهائي من معادلة قيادة العالم الجديد.

ما يزال كيسنجر يعد من أهم الشخصيات التي ساهمت، وتساهم حتى اليوم، في صياغات جديدة للخارجية الأميركية، ولم يكن ألقه السياسي أقل بريقا حين تسلّم منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون. ومن نجاحاته السياسية الكبرى حين كان وزيرا للخارجية، توصّله إلى وقف إطلاق النار في شمال فيتنام عام 1973، ما مهد لخروج الولايات المتحدة من هناك بعد عامين، ليستحق جائزة نوبل للسلام على هذا الإنجاز التاريخي، وقُلد الجائزة في العام 1973.

أما اليوم فيحذّر كيسنجر مما سماها “الحرب العالمية الجديدة”، لكنه يقول “لم يفت الأوان بعد على ذلك، لكوننا لا نزال على أعتاب الحرب الباردة”. ذلك الصراع الذي يدق كيسنجر ناقوس خطر اندلاعه يتوقع بأنه في حال وقوعه، فقد تكون النتيجة أسوأ مما حدث في أوروبا؛ “الحرب العالمية الأولى اندلعت نتيجة أزمة صغيرة نسبيا فشلت أطرافها في إدارتها، بينما الأسلحة أقوى بكثير اليوم”.

وفي صيف هذا العام، صدر هنا في أميركا كتاب حمل عنوان “كيسنجر عن كيسنجر”، يطرح فيه الثعلب العجوز خطوطا عريضة لزعامة العالم، ضمن ما يسميها بـ”الاستراتيجية الكبرى”. متناولا العديد من التحديات التي تواجهها واشنطن في خرائط النفوذ، مثل العلاقات مع الصين، حرب فيتنام وحروب الشرق الأوسط وبالطبع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وفي عمر السادسة والتسعين لا يزال كيسنجر قويا ولماحا، يتجوّل بين القارات ويلقي المحاضرات والخطب اللامعة في المناسبات الحكومية والعامة، ولا تزال رؤاه السياسية ترسم خطوطا عريضة للسياسات الدولية الكبرى وللدبلوماسية الحكومية الدولية في آن.
العرب اللندنية