2024-11-26 03:41 م

ماذا كانت غاية إسرائيل الجوهرية من وراء مسار أوسلو؟

2019-11-01
حسام أبو حامد

نواصل في هذا الجزء (الثاني والأخير) عرض الدراسة المعنونة بـ"طوق أوسلو: تعزيز السيطرة الكولونيالية الإسرائيلية - قراءة في السجال الإسرائيلي حول مسار أوسلو"، تأليف أنطوان شلحت، والتي صدرت العام الماضي كواحدة من سلسلة إصدارات ضمن "مشروع "برنامج دراسات إسرائيل" الذي أطلقه المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية - مدى الكرمل في حيفا.


ثمار السلام المتخيل
ما الذي أجج إمكان تخيّل عملية أوسلو باعتبارها سيرورة سلمية؟ ولماذا انهارت هذه العملية وأصبحت مجرد وهم؟
هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه ليف غرينبرغ في كتابه "سلام متخيل: حول الخطاب والحدود، السياسة والعنف". وينطلق فيه من نقطة أساسية، وهي أن أوسلو لم يوفر احتمالات كبيرة للنجاح، وذلك لسببين رئيسيين، هما: فائض القوة الإسرائيلية، وطمس الحدود المادية والمجردة بين الكيانين. ويشير إلى أن مفاوضات أوسلو أبقت المسائل الجوهرية (الحدود؛ اللاجئين؛ القدس) مفتوحة. وهنا تحديداً توفرت فرص لكل طرف كي يتخلى عن السلام بفضل عامل جوهري أدى إلى فشل تكتيكي خطير، وهو استناد استراتيجية الطرفين إلى إرجاء المساومة إلى مرحلة الاتفاق الدائم، وذلك نتيجة إدراكهما عدم قدرتهما على تحقيق مطالبهما. وأوراق المساومة التي احتفظ فيها كل طرف أصبحت، في نهاية الأمر، بمثابة اللاعب الرئيسي في العملية برمتها (برأي غرينبرغ تمثلت أوراق رابين بتمسكه بالمستوطنين عموماً، وبغلاتهم في المستوطنات الأيديولوجية خصوصاً، أما ورقة عرفات فكانت المتشددين الإسلاميين) عملية الدمقرطة التي رافقت أوسلو لم تشتمل على تحييد سياسي للقوى المرشحة لأن تقوم بتخريب

العملية السلمية، كما أنها افتقرت لعامل مهم يرافقها، ألا وهو إنهاء الكولونيالية. أما البعد الاقتصادي في "أوسلو" فيتوقف عنده الكاتب شارحاً أن النخب الاقتصادية والطبقة الوسطى في إسرائيل تطلعت الى التطبيع والاندماج العالمي(1). ولقطف ثمار ذلك أنيط بأوسلو فتح حيّز سياسي أمام الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1967. وازدهر الاقتصاد الإسرائيلي بعد انفتاح الأسواق العالمية أمام التجارة الإسرائيلية، بينما تردت أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية، وتماشى أوسلو مع أجندة تلك النخب وتطلعاتها، إلا أنه مسّ بالأساطير القومية نحو: "أرض إسرائيل الكاملة"، و"الأمن"، مما هدد شرعية تلك النخب، ومكانتها في التراتبية الاجتماعية الإسرائيلية.
بدأ السلام المتخيل يجني ثمناً سياسياً آخر، تمثل في انحلال داخلي للمجتمع الإسرائيلي، وهويته المشتركة، وانعكس ببريق ساطع في الخطاب العام.

  

من تسوية الصراع إلى إدارته
أشار تقرير إسرائيلي صادر عن معهد القدس للدراسات الإسرائيلية إلى أن الإسرائيليين تعلّموا بعد مفاوضات كامب ديفيد، والجولات التفاوضية اللاحقة له، درساً مهماً في معرفة الموقف الفلسطيني الحاسم بشأن عدم إمكان تسوية الصراع بثمن حل، أو إزالة نتائج حرب عام 1967 فقط، ويؤكد أن "مطالبة إسرائيل الملحة بـ«نهائية الصراع»، ضمن الشروط التي وضعتها، جرى تفسيره لدى الفلسطينيين باعتباره محاولة لإخضاع الرواية التاريخية الفلسطينية أمام الرواية التاريخية الإسرائيلية. وخنوع كهذا، من ناحية الفلسطينيين، لم يكن خياراً سياسياً ممكناً. زد على ذلك أن ّ هذا الطلب الإسرائيلي نأى بالطرفين عن النقاش حول نتائج حرب عام 1967 إلى نقاش حول نتائج حرب العام 1948 - 1949" التي رآها الفلسطينيون غير عادلة، ومع أن التيار الفلسطيني المركزي كان مستعداً لتسوية غير "عادلة"، فإن تسوية كهذه لن تكون نهائية ومطلقة. هذا التيار وقيادته يقومان بتمييز عملي بين "تسوية عادلة"، تشمل تطبيقاً جارفاً وكاملاً لحق العودة، لكنها تسوية غير عملية، وتسوية ممكنة، تعالج نتائج حرب عام 1967 وتنطوي في أكثر تقدير على إقرار بالإثم التاريخي، لا على تطبيق حق العودة على أرض الواقع. المطلب الإسرائيلي بأن يعلن الفلسطينيون عن "نهاية الصراع" كان ينطوي، من دون أن ينتبه إلى ذلك، على الإقرار (كما يدعي التقرير) بأن حرب 1948 – 1949 ونتائجها كانت عادلة، الأمر الذي لا يستطيع الفلسطينيون قبوله أبداً.
ويعتبر التقرير ما يجوز تسميته «إرث باراك» عموداً رئيسياً في المفهوم السياسي إزاء الصراع الذي أدار ظهر المَجّن لمفهوم "أوسلو"، وجرت تبيئته في ما بعد من قبل حكومة أريئيل شارون واليمين المتطرف في طبعتها الأولى (وفق التقرير يتمثل هذا الإرث بتقييمات باراك بالنسبة إلى عدم نضوج الفلسطينيين لتسوية الصراع، وبالنسبة إلى مسؤوليتهم عن فشل العملية السياسية وعن غياب شريك فلسطيني لائق لهذه العملية، ورغم التقييمات الرسمية للاستخبارات لعام 2001 التي أكدت التزام الفلسطينيين بالوصول الى غايتهم عبر المفاوضات، تجاهلها شارون، حين تناسبت شروحات باراك مع وجهات نظره السياسية، التي ترى في "أوسلو" خطراً وجودياً وأمنياً على إسرائيل).

 

تطهير عرقي مستمر
يتوقف شلحت عند تفاصيل داخل النتيجة النهائية التي توصلت إليها الباحثة الألسنية، تانيا رينهارت، في كتابها "أكاذيب عن السلام"، منها أنه لو وقّع الفلسطينيون على اتفاق نهائي في كامب ديفيد 2000 يترافق مع إعلانهم عن "نهاية الصراع" (كما أراد باراك)، فإنهم يفقدون حقهم، لا سيما القانوني، في أي مزاعم مستقبلية لازمة عن قرارات الأمم المتحدة، وعندها سيكون الاتفاق الجديد هو، بصورة رسمية، الأساس القانوني الملزم للمستقبل الآتي، لتفقد قرارات الأمم المتحدة التي سبقته أي مفعول لها.
وتؤكد رينهارت أن الفلسطينيين لم يمنحوا أي فرصة لتحويل نضالهم إلى مقاومة مدنية، وهو ما كانوا هم أنفسهم راغبين فيه مرات كثيرة، وأن خطط القضاء على الكفاح الوطني، وعلى المجتمع الفلسطيني، أعدّت قبل انتفاضة أيلول عام 2000.
في رأي شلحت، تقرأ رينهارت سياسة الاستيطان الإسرائيلية في أراضي عام 1967 في سياق نيّة بعيدة المدى لركل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتعتقد أن التعاطي مع حل مشكلة هؤلاء له مستويان: عملي ورمزي. ويتعلق المستوى الثاني بالسردية الخاصة بموضوع اللاجئين، إذ يتعين على أي مسؤول إسرائيلي الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن نشوء هذه المشكلة. لكن لم يتوفر بعد لإسرائيل زعيماً كان معنياً حقاً بإنهاء الصراع، بمن في ذلك باراك نفسه.
وعملياً، قامت إسرائيل على أرض جرى الحصول عليها بوساطة التطهير العرقي ضد السكان الأصليين من الفلسطينيين عام 1948، واستمر التطهير العرقي ليبلغ ذروته عام 1967، وفي عام 1993 بدا أن احتلال عام 1967 يقترب من نهايته، وأن أوسلو سيضع حداً لهذا الاحتلال، ويمهّد لإقامة دولة فلسطينية. لم تسر الأمور على هذا المنوال، فالقيادة السياسية لـ"معسكر السلام الإسرائيلي" حوّلت روح أوسلو التصالحية إلى وسيلة جديدة أكثر إحكاماً لمواصلة الاحتلال. حتى حرب إسرائيل على الفلسطينيين، على خلفية الانتفاضة الثانية، وصفها المستوى العسكري الإسرائيلي أنها استكمال لما بدأته إسرائيل عام 1948، وتفهم الكاتبة من ذلك أن مهمة التطهير العرقي في 1948 تستكمل اليوم، فسياسة الدفاع عن النفس التي تدَّعي إسرائيل أنها ردة فعل تلقائية على "الإرهاب" هي استمرار لسياسة التطهير العرقي، بوصفه طرداً لمجموعة إثنية من قبل مجموعة إثنية أخرى تتطلع للسيطرة على أراضي المجموعة الأولى، لكن في مكان يحظى باهتمام عالمي كبير مثل إسرائيل/ فلسطين، يستحيل اقتراف تطهير عرقي عبر عملية مفاجئة من الذبح المكثف وإخلاء الأراضي، فكان البديل عملية مثابِرة هدفها إجبار الناس تدريجياً على الموت، أو الهرب للنجاة بجلودهم.

 

من المسيانية إلى الشبتائية
يذهب جولان لاهط، في كتابه "الإغراء المسياني(2) - صعود وسقوط اليسار الإسرائيلي" إلى أن احتضار اليسار، واندثار الجهود للوصول إلى السلام، إثر كامب ديفيد، يرجعان إلى "المفهوم المسياني – العلماني"، الذي تبناه اليسار خلال أوّل عقد من "أوسلو".
ويشير لاهط إلى أن خصائص التفكير المسياني: إدارة الظهر للراهن القائم؛ التغيير الثوري بوساطة ثورة سريعة وفورية؛ الاعتقاد أن هذه الطريق هي الوحيدة المنطوية على الحقيقة المطلقة الوحيدة. اتفاق أوسلو كان خلواً من هذا العمى المسياني، لأنه كان تدريجياً ومتشككاً لإدراكه العقبات الكثيرة في الطريق، وإن كان رابين قد تمعن بعينين شاخصتين، فإن اليسار الإسرائيلي لم يقرأ الحروف الصغيرة، وأصبح أسير السحر المسياني للسلام، مع أن السلام الأخير ظل حبيس الأدراج، في حين استمر الاحتلال، وبقيت المستوطنات مكانها، ولم يتوقف العنف الفلسطيني الناجم عن ذلك.. و"لقد كان الواقع الإسرائيلي نفسه عقبة في الطريق إلى الشرق الأوسط الجديد (حلم شمعون بيرس)، وإلى الثمار الكبيرة التي وعد بها. وهذا الواقع كان عقبة أمام الوصول إلى خاتمة المطاف".
المسؤولية عن المناخ المسياني، في رأي لاهط، الذي تطور بعد اتفاق أوسلو، تقع على عاتق كل من بيرس، ويوسي بيلين. بلور الأول عمداً وعياً بأن السلام قائم، وتبعه الثاني. وفي الوقت الذي تتطلب فيه المسيانية الدينية مسيحاً كاريزمياً، فإن المسيانية العلمانية لا تستوجب مسيحاً شخصانياً، إذ إن المسيح في هذه الحالة هو السلام. وتمسك باراك بمبدأ "إما كل شيء، أو لا شيء" ورفض الجانب العملي التدريجي في "أوسلو". وبدل ذلك، اقترح قمّة واحدة، وحلاً حاداً وسريعاً، يضع نهاية "للصراع مرة واحدة وأخيرة".
يؤكد لاهط أنه عقب محادثات كامپ دي