2024-11-30 06:27 ص

كيف نقرأ الحدث اللبناني؟

2019-10-25
بقلم: موفق المحادين
من المؤكد أن تحالف القوى المناهضة للقوى الوطنية في كل مكان، سيعيد ويكرر محاولاته السابقة لسرقة أي حراك شعبي وتوظيفه لمصلحته كما حدث في السودان وكما يحدث اليوم في لبنان، لصرف انتباه الجماهير عن المعركة ضد المصارف والكومبرادور والفاسدين.
ابتداء، فإن حركة الشارع اللبناني، حركة غير مسبوقة بل ومتأخرة ضد منظومة فاسدة طبقية تجدد نفسها بالتحريض الطائفي لتقسيم الفقراء والطبقات الشعبية، بما يضمن استمرار هذه المنظومة.

وقد بلغت هذه الحركة من التدفق الجماهيري ما يتجاوز أي محاولات مشبوهة لركوب موجتها كما حدث في السودان، بل وما يتجاوز أي تحضيرات، ربما سبقتها، سواء عبر بعض المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، أم عبر عملاء في الشارع، كما أظهرت الهتافات المشبوهة المبكرة ضد العهد وحزب الله، وليس ضد النظام الطبقي الطائفي الفاسد، ولا تزال هذه الهتافات تكرر نفسها على إيقاع إيحاءات و"أوردرات" فضائية معروفة، تذرف الدموع على فقراء لبنان، فيما ترتبط بأوكار الصهينة والفساد في محميات النفط والغاز المعروفة.

هكذا، مقابل ربيع الفوضى والإسلام الأمريكي الذي انطلق من جوع الناس وتوقهم إلى الحرية وراح يستغفل الجماهير لتمرير أجندته المشبوهة وفي مقدمتها تفكيك الدول، تحضيرا لصفقة القرن، باسم تغيير الأنظمة ها هي تظاهرات الجوع والكرامة توحد الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وتضيف إلى قائمة أعداء الأمة، من الأمريكان والصهاينة والرجعيين، عدوّا جديدا هو البنك وصندوق النقد الدوليين وامتداداتهما المحلية، المصرفية والليبرالية، وسياساتهما القائمة على الخصخصة والنهب ورفع أي دعم عن السلع والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والسكن الكريم.

 ومن المؤكد أن تحالف القوى المناهضة للقوى الوطنية في كل مكان، سيعيد ويكرر محاولاته السابقة لسرقة أي حراك شعبي وتوظيفه لمصلحته كما حدث في السودان وكما يحدث اليوم في لبنان، لصرف انتباه الجماهير عن المعركة ضد المصارف والكومبرادور والفاسدين، وتحويلها إلى معركة ضد تحالف بعينه هو التحالف الوطني بين عون وحزب الله.

في المقابل، وكما في معظم الأحداث العربية، تغيب المقاربات الموضوعية العلمية لصالح التعميم وخلط الأوراق والتناقضات والأولويات، ذلك أن العرب لم يتعاملوا مع السياسة كعلم قائم بذاته، بقدر ما قاربوها من زوايا إنشائية وأيديولوجية، وأخرى محكومة بمشاعر الحب أو الكراهية.

في لبنان، وحيث تتنوع أطياف الحكم كما تتنوع أطياف المعارضة في كل مرة، لا يجوز التعامل مع الجميع بالمسطرة نفسها (كلن يعني كلن) سواء تعلق ذلك باتهامات حكومية أو بهتافات في الشارع، فهذا ليس علميا ولا دقيقا لأن مسؤولية تيار الفساد المدعوم خليجيا وأمريكيا، غير مسؤولية حزب الله وتحالفاته.

بالنسبة للأول، حيث أصبح الفساد ماركة وعلامة تجارية مسجلة باسم هذا الفريق، فإن المطلوب جماهيريا هو الإدانة والملاحقة القانونية والمحاسبة الكاملة، أما إدارة حزب الله – عون للملف الاجتماعي الاقتصادي مع تباين المسؤولية لدى الطرفين، فتحتاج إلى أكثر من النقد، إلى مراجعة عميقة.

في المقابل، وكما قال الرئيس عون، من الظلم إطلاق تهم الفساد بالجملة على الجميع (كلن كلن) وكان على الشارع أن يميز بين نقد المشاركات الوطنية في حكومات فاسدة وبين رفع الصوت عاليا ضد فريق الفساد التاريخي والذي يُتهم العديد من رموزه بوضع اليد على مليارات الدولارات والأملاك البحرية في بيروت وغيرها.

الشعب يريد إسقاط المصرف

من بين الشعارات التي أطلقها الشارع اللبناني، كان الشعار الأكثر تعبيرا عن الحراك هو (الشعب يريد إسقاط المصرف) ذلك أنه كما ارتبطت نشأة هذا البلد بالطائفية، فقد ارتبطت بالبنوك التي طورت نهبها وسرقتها لأموال اللبنانيين بدعم البنك وصندوق النقد الدوليين وإملاءاتهما على الحكومات المتعاقبة ورموزها في كل العهود، وهو العنوان المرتبط بمسألتين:

الأولى، الديون وحزمة الضرائب التي جرى تحميلها للطبقات الشعبية بدلا من البنوك والبرجوازية النهابة الفاسدة.

والثانية، ما جاء في كتاب اعترافات قاتل اقتصادي (جون بيركنز) الذي فضح في كتابه المذكور دور البنك والأدوات المالية المشابهة في جر البدان المستهدفة إلى سياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة، ومن ثم إغراقها بالديون ومناخات الفساد المرتبطة بها، وكان العنوان البارز لكل هذه الحكومات في لبنان وخارج لبنان هو التحول من سياسات الدعم الحكومي للسلع والخدمات الأساسية، إلى حكومات جباية برعاية البنوك المحلية وسيد الخواتم، البنك الدولي.

وهو ما أدى إلى تحطيم الطبقة الوسطى ودفع الأغلبية الشعبية إلى ما دون خط الفقر، وهدر الكرامة، وفقدان القدرة على تلبية أبسط المتطلبات الحياتية اليومية.

هذه هي المناخات العامة التي ولدت فيها الاحتقانات الشعبية والتي تحتاج حتى تتحول إلى ثورة حقيقية إلى قيادة راديكالية وبرنامج سياسي اجتماعي راديكالي، وتحالفات وطنية بحيث لا يجرها أحد إلى ما انتهت إليه السودان مؤخراً.

أوهام لا بد من دحضها

الوهم الأول، أن لبنان كما كل البلدان العربية، يمكن أن يتقدم إلى الأمام ويتجاوز أزماته في إطار تركيبته الحالية بعد أن ينظفها من الطائفية، التي تراجعت مؤقتا أمام مشاعر التضامن الطبقي والتجمهر تحت الراية اللبنانية.

ذلك أن تركيبة الفساد والتبعية كما كتب مهدي عامل، هي ذاتها التركيبة الطائفية وتركيبة نمط الإنتاج الكولونيالي والتركيبة الكيانية، ولا يمكن أن يتحرر لبنان اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا قبل أن يتحرر من هذه التركيبة الكيانية.

الوهم الثاني، ما درج عليه التيار الانعزالي في المارونية السياسية، ثم التيار الرجعي المرتبط بالمحميات النفطية، وهو إحالة الأزمة في كل مرة على طرف خارجي بعينه، مثل:

البرجوازية الشامية السنية في عهد القوتلي، ثم القاهرة الناصرية، ثم دمشق، واليوم إيران.

فلبنان كما كل البلدان، التي اقتُطعت من سوريا الطبيعية بل كما كل البلدان العربية الأخرى، ليس نتاج تطور داخلي لعلاقات إنتاج برجوازية أنتجت دولة قومية حديثة مستقلة كما حدث في أوروبا، بل نتاج مقصات وتفاهمات وخرائط المستعمرين الرأسماليين (فرنسا وبريطانيا) اللتين حلتا محل الاستعمار العثماني الإقطاعي.

فقد قام لبنان الحديث حول متصرفية جبل لبنان 1860 بزعامة مسيحي من خارج المنطقة، كمحصلة لتفاهم أوروبي – عثماني بعد حرب أهلية غذتها فرنسا في أوساط الفلاحين الموارنة، وبريطانيا في أوساط الإقطاع الدرزي، ولم تكن تركيبة الجبل آنذاك تنطوي على أي شروط موضوعية لدولة حديثة، كما ذهب بعض المؤرخين في مبالغتهم عند قراءة هذه الإمارة أو تلك.

ثم جرى توسيع حدود المتصرفية على دفعتين، 1920 و1926، بقرار من الاستعمار الفرنسي حين اقتطع من سوريا الطبيعية، طرابلس وصيدا وصور، بل والمدينة التي صارت عاصمة لبنان، وهي بيروت وضمّها إلى المتصرفية باسم لبنان الكبير.

أما صيغة الميثاق الوطني اللبناني 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح، فقامت على صفقة عائمة، خلفيتها فرنسية – شامية، وهي أن يتنازل المسيحيون عن الوصاية الفرنسية المباشرة مقابل تنازل المسلمين عن أي وصاية عربية مماثلة.

وعندما دخل اللبنانيون الحرب الأهلية عام 1975، دخلوها في سياق حرب أخرى بين وكلاء العدو الصهيوني من التيار الانعزالي في المارونية السياسية، وبين كتلة وطنية واسعة شكلت منظمة التحرير الفلسطينية القوة الرئيسية فيها (امتداد لدور الكتلة الشامية).

أيضا، فإن اتفاق الطائف (تشرين الأول 1989) الذي أوقف الحرب الأهلية جرى برعاية أمريكية – عربية (سورية، سعودية، أمريكية) ويعرف أي باحث مهتم بالشأن اللبناني أنه ما من رئيس للبنان، إلا وكان محصلة تفاهمات خارجية، من المتصرف الأول لجبل لبنان 1860 إلى رؤساء عهد الانتداب (توافق فرنسي – بريطاني) إلى العهد الأمريكي (كميل شمعون الذي نزلت القوات الأمريكية في ميناء بيروت لدعمه عام 1958) إلى فؤاد شهاب (توافق أمريكي مع جمال عبد الناصر) وهكذا.

الآفاق

1- ماذا عن دخول الجيش على خط الأزمة وما هي القوى التي تروّج لذلك منذ اليوم الأول؟

إن الإجابة على هذا الاحتمال تستدعي مراجعة الذاكرة اللبنانية، التي قدمت أكثر من جنرال لرئاسة لبنان، من فؤاد شهاب إلى لحود، إلى ميشال سليمان، إلى ميشال عون، بل إن لبنان تعرض لمحاولتي انقلاب عسكري، الأولى اتُهم فيها الحزب السوري القومي الاجتماعي 1961، والثانية حركة عسكرية محدودة نفذها الأحدب باحتلاله التلفزيون الرسمي وبالتنسيق مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

وإذا أردنا الوقوف عند أكثر محطة ذات صلة بدور الجيش اللبناني، فهي محطة فؤاد شهاب، قائد الجيش (1958 – 1964) الذي رفض أوامر شمعون بالنزول إلى الشارع، وانتهت الأزمة بانتخاب شهاب نفسه رئيسا وبتكليفه رشيد كرامي برئاسة الحكومة (اتهم جعجع باغتياله لاحقا).

أما بالنسبة إلى المشهد الراهن، فمن الصعب تصور السيناريو السابق بوجود قوى سياسية متمرسة يحاول إعلام خليجي معروف التقليل من شأنها، وهو يحرك الكاميرا في الساحات بزوايا سياسية تحريضية ضد تحالف حزب الله- عون، بل إن ما يحرك الإعلام المذكور هو سيناريو السودان الذي سرق حركة الشارع لصالح تحالف مبرمج سلفا ومرتبط بالخليج (عسكر وليبراليون).

2- ضرورة مراجعة الفريق الوطني داخل الحكم لسياساته السابقة وصياغة رؤية طبقية تنطلق من تحديد البنك الدولي وامتداداته المحلية والكومبرادور كخصم للطبقات الشعبية من جهة، وكرافعة وأداة سياسية مضادة للقوى الوطنية، كما تستدعي بناء جبهة شعبية عريضة تضم الناصريين والشيوعيين والقوميين السوريين والوطنيين عموما، تربط بين البرنامج الطبقي والبرنامج الوطني.

3- إذا كان ثمة علاقة بين التقدم الكبير للجيش السوري على كل الجبهات ضد الإرهاب والعدوان التركي، وبين مخاوف القوى الأطلسية والرجعية من انعكاس ذلك على لبنان ودخولها على حركة الشارع ومحاولة تصويبها نحو تحالف عون– حزب الله، فالمطلوب من كل أعضاء الفريق الوطني في الحكم وخارج الحكم أن تنخرط في حركة الشارع من أجل لبنان جديد، لبنان وطني ديموقراطي.

4- أخيرا إذا كان هناك من يريد زج اتفاق الطائف فيما يجري، فثمة فرصة اليوم ومن قلب الشارع للحديث عن لبنان ما بعد هذا الاتفاق (يعارضه التيار الوطني الحر) وليس العودة إلى ما قبله.

الميادين