2024-11-24 06:01 م

قضية إسراء غريب.. الجناة الحقيقيون وسيناريو الإفلات من العقاب

2019-09-13
محمود ابو ندى

خرج النائب العام الفلسطيني، أكرم الخطيب، صباح أمس الأربعاء، في مؤتمر صحفي استعراضيّ الطابع، ليعلن عن نتائج تحقيقات النيابة العامة في قضية قتل الشابة إسراء غريب، الشهر الماضي. شمل إعلانه كشف ملابسات القضية وتوجيه اتهامات للمشتبهين الذين أُلقي القبض عليهم الأسبوع الماضي، وهم اثنان من أخوة الضحية بالإضافة إلى صهرهم، وأكد النائب العام في مؤتمره على صحة تقرير الطب الشرعي الذي سُرِّب للصحافة قبل عدة أيام، والذي يبين أن وفاة إسراء ناتجةً عن "قصورٍ في الجهاز التنفسي تسبب به تجمع الهواء في المنصف والأنسجة تحت الجلد والصدر، وقد نتج بدوره كمضاعفات للإصابات المتعددة التي تعرضت لها إسراء خلال ضربها وتعذيبها على يد المتهمين".

وبناءً عليه وجهت النيابة، تهمة القتل تحت بند (الضرب المفضي إلى الموت) طبقًا لأحكام المادة (330) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة (1960) المعنية بشرح عقوبة ما يُسمى (القتل غير المقصود)، وتنص على أن «من ضرب أو جرح أحدًا بأداة ليس من شأنها أن تفضي إلى الموت أو أعطاه مواد ضارة ولم يقصد من ذلك قتلًا قط، ولكن المعتدى عليه توفي متأثرًا مما وقع عليه عوقب الفاعل بالأشغال الشاقة مدة لا تنقص عن خمس سنوات».

الإفلات من العقاب.. بالقانون

ترى النيابة إذن بأن ما أفضى إلى وفاة إسراء كان جريمة قتل، ولكنها تستدرك من خلال استشهادها بالمادة المذكورة أعلاه وتوضح أنه لم يكن قتلًا متعمدًا. وفي ظل جهلنا بالمسار الذي اتخذته تحقيقات النيابة العامة، لا يمكن أن نعرف بالضبط على أي أساس استند تكييفها القانوني للجريمة، لكن ما نعلمه يقينًا هو ما تجاهلته النيابة وما وضّحه تقرير الطب الشرعي نفسه وشهادات نزلاء مستشفى الجمعية العربية للتأهيل المجاورين لغرفة إسراء خلال فترة مكوثها فيه.

كما أنها تتجاهل أيضًا الحملة الإعلامية التي شنتها عائلة إسراء في محاولتها لتبرير وفاتها، فقد تعرّضت إسراء لاعتداءات متكررة، وكسور متعددة وامتلأ جسدها بكدمات على فترات زمنية متباعدة، وقد أخبرت بنفسها بعض نزلاء المستشفى أنها قد أُسقطت من شرفة منزلها بشكلٍ متعمد، كما أظهرت شهاداتهم تعرض إسراء لضغطٍ نفسيٍ خلال إقامتها في المستشفى واتهام إسراء لزوج أختها بالتحرش بها جنسيًا.

بالإضافة إلى إمارات الارتباك التي ظهرت على الضحية ما يؤكد تعرضها لضغط نفسي مرافق للاعتداء الجسدي كذلك، وهو الذي حاولت العائلة استخدامه بمنتهى الصفاقة لتبرير إدعائهم بإصابة إسراء بمس الجن، فقد عانت إسراء من اعتداءات وتهديدات أفراد عائلتها داخل المستشفى، وقد أُلزمت بالخروج منه رُغمًا عنها، ولم تقدم لها الشرطة أي مساعدة،

أما العائلة فقد اجتهدت لاحقًا في محاولة تمرير عديدٍ من الروايات المتناقضة والمليئة بالفجوات لتفسير مقتلها، منها اضطراب إسراء النفسي، وإصابتها بمس الجن. أي أن العائلة حاولت بكل ما أوتيت من سبل إثبات فقدان إسراء للأهلية وتحميلها مسؤولية إصاباتها ووفاتها، وبالرغم من كل هذه المعاناة المستمرة والمتواصلة.

وبالرغم من ثبوت تعرّض إسراء للضرب في عدة مناسبات مختلفة حسبما نقل عنها الشهود وحسبما أفاد تقرير الطب الشرعي، أصرت النيابة على توجيه اتهاماتها بناء على بند (القتل غير المقصود). وهو ما يعني حكمًا مخففًا سيناله الجناة. وهو الأمر الذي يتسق مع سياسات السلطة الفلسطينية بكل أجهزتها الوظيفية في التعامل مع قضايا قتل النساء وتعنيفهن. 

عن الجناة الحقيقيين 

لم يشكّل العنف الذي تعرّضت له إسراء حالة شاذة، ولا يمكن بأي حال التعامل معه بمعزلٍ عن سياق يشرعن العنف ويعمل على تمريره من خلال بنى مترابطة تتشابك فيما بينها عبر روابط عميقة من المصالح المشتركة، إلا أن إسراء، وإن لم يحالفها الحظ بالنجاة من هذا العنف، إلا أن ما ميّز قضيتها هي الظروف التي أحاطت بالجريمة، والتي لم تتوافق مع تعريف "الشارع" لجرائم الشرف، والذي يميل غالبًا لتمريرها وتبريرها.

تحوّلت قضية إسراء لقضية رأي عام  بعد أن وصلت تفاصيلها لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما شكّل بدوره وسيلة ضغطٍ على السلطة الفلسطينية وجهاز الأمن أجبره على التعامل بجدية نسبية مع قضية إسراء بشكلٍ خاص. لم يرقَ هذا التعامل بالطبع إلى مستوى الحدث، واستبطن إصرار السلطات المستمر على تبرئة الجناة وتمرير الجريمة بدون عقاب، ما يجعلها بدون شك، شريكة في الجريمة، بشكلٍ يتسق مع كونها أهم راعٍ لسياسات العنف المجتمعي الموجه ضد النساء.

لقد تعاملت الشرطة بإهمال مع إسراء رغم توضيحها أن إصابتها الأولى قد تمت بفعل فاعل، ولم تتخذ أي إجراءات للتحقيق في الحادثة أو توفير حماية لها، كما أن خطوات النيابة العامة قد أتت بعد كثيرٍ من التسويف وكردود فعلٍ على ضغط الشارع، كما تجاهلت المؤسسة الطبية استمرار عائلة إسراء لتعريضها للعنف الجسدي والنفسي داخل حرم مستشفى، وقد انتهكت هيئة الطب الشرعي جثمان الضحية أثناء تشريحها بإخضاع الجثمان لفحص كشف عذرية، وذلك بافتراض أن تعلق القضية بـ«جريمة شرف» قد يساهم في تحديد طبيعة التعامل القانوني معها، وهو ما أصر النائب العام على التأكيد عليه خلال مؤتمره الصحفي.

بناء على ما تقدم، لا يمكن أن تُحصر إدانة جريمة القتل التي راحت إسراء غريب ضحية لها في الجناة من عائلتها فحسب، بل إن السلطة الفسطينية وجهاز الشرطة التابع لها يتحملون المسؤولية أيضًا، وذلك بتواطؤها الواعي مع القتلة، والمتماشي مع رعايتها الممأسسة للعنف الموجه ضد المجتمع الفلسطيني بجميع أوجهه، سواء كان هذا العنف داخليًا أو موجهًا من قبل الاحتلال.

وعلى الرغم من أن العنف المجتمعي في فلسطين، والموجه ضد النساء تحديدًا، قد ارتبط تاريخيًا في البداية بالنظام العشائري الذي استخدم الأعراف التقليدية كوسيلة تشكلت من خلالها دوائر النفوذ، إلا أن السلطة الفلسطينية ومن خلفها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، قد استفادتا من العنف ومن رعايته كجزء من سياسات التحكم والسيطرة على الفلسطينيين، والتي كان جزءٌ منها هو فرض السلطة لنفسها على أي حراكٍ مجتمعي وربط نفسها به وتحولها بذلك إلى جزء حيوي من وجوده، وهو الأمر الذي انطبق على مؤسسات المجتمع المدني التي تعجز الآن عن توجيه أي نقد جذري تجاه ممارسات السلطة، التي قبلت مسبقًا بالعمل تحت مظلتها والحصول على شرعيتها "القانونية" منها.

وعلى الرغم من دور منظمات حقوق المرأة كجزء من المجتمع المدني الفلسطيني في الضغط على السلطة لتحريك قضية إسراء، إلا أن دورها على الأرض اتسم بمجمله بالسلبية، وقد يظهر أن هذا الدور قد مثَّل امتدادًا للحراك الذي بدأته قضية إسراء في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه في الواقع كان نتيجة له، والمجتمع المدني قد تعامل، مثل النيابة العامة، داخل حدود ردود الفعل وبدون توظيف القضية كما يجب من أجل الدفع نحو تغيير جذريّ في طبيعة تعامل السلطة مع قضايا العنف الموجه ضد النساء.

من الجناة؟

لن تنحصر إجابة هذا السؤال في ثلاثة أسماء فقط أعلنت عنها النيابة، على الرغم من تورط أفراد من عائلة إسراء في مقتلها بكل كيفية ممكنة، إلا أنها لم تكن ضحية عائلتها فقط، بل هي ضحية منظومة متكاملة تتشكل من عددٍ من البنى المرتبطة فيما بينها بشبكة مصالح متكاملة، مباشرة وغير مباشرة، يعتمد كل منها في وجوده على الآخر. هذه المنظومة قامت بمأسسة العنف الموجه ضد النساء وعملت على شرعنته، وبالتالي فإن أي خطاب يدعي معارضته للعنف ضد النساء، و يتجاهل دور هذه البنى في مأسسة هذا العنف وتشريعه، لن يكون سوى مُعاركةٍ فارغةٍ لطواحين الهواء.
نون بوست