وسط تصاعد التوترات في المنطقة عقب الهجمات على ناقلات النفط في مياه الخليج، تكشف الولايات المتحدة مساعيها لتشكيل تحالف عسكري دولي لحماية الشحن التجاري والممرات المائية الإستراتيجية قبالة سواحل إيران واليمن، بعد أن كان من المُتوقع أن يُطلب من دول الخليج المساهمة في تأمين مياه الخليج من "الخطر الإيراني" الذي خلقته واشنطن عقب الهجمات المتلاحقة على ناقلات النفط.
تفاصيل الخطة الأمريكية لحماية الملاحة
جاء إعلان ذلك على لسان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال البحري جوزيف دانفورد الذي قال إن الولايات المتحدة تشارك الآن مع عدد من الدول لمعرفة ما إذا كان بإمكانها تشكيل تحالف يحمي المياه الإستراتيجية في منطقة الخليج والبحر بين شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي.
وبحسب الأهداف المعلنة، تريد واشنطن من التحالف الجديد "ضمان حرية الملاحة" في مضيق هرمز، وهو من المواقع البحرية الإستراتيجية الأساسية التي توفر الوصول إلى طرق التجارة الأساسية من المحيط إلى الخليج والبحر الأحمر، ويمر عبره خُمس صادرات النفط العالمي، كما يمر ما يقرب من 4 ملايين برميل من النفط يوميًا عبر مضيق باب المندب إلى أوروبا والولايات المتحدة وآسيا، بالإضافة إلى البضائع التجارية.
وحتى الآن، لم تُحدد الدول التي ستنضم إلى هذا التحالف، لكن دانفورد قال إن البنتاغون وضع خطة محددة، ويعتقد أنه سيكون من الواضح في غضون أسبوعين الدول التي لديها "الإرادة السياسية" لدعم الخطط، مشيرًا إلى أن واشنطن ستعمل بعد ذلك مباشرة مع الجيوش لتحديد القدرات التي يمكن لكل دولة توظيفها في دعم هذه المبادرة.
وبموجب الخطة التي تم الانتهاء منها فقط في الأيام الأخيرة، ستوفر الولايات المتحدة سفن "تحكم وسيطرة" تقود جهود المراقبة للتحالف العسكري في البحار قبالة سواحل إيران واليمن، ومع ذلك، فإن الهدف أن تقدم دول التحالف الأخرى سفنًا لتسيير دوريات بالقرب من سفن القيادة الأمريكية، وسيشمل الجزء الثالث من المهمة أفرادًا من التحالف لمرافقة سفن بلادهم التجارية التي تحمل أعلامها عبر المنطقة.
هذه التفاصيل أوضحها دانفورد لمجموعة صغيرة من الصحفيين في فورت ماير بولاية فرجينيا، عقب اجتماعين، أمس الثلاثاء، بشأن التحالف، أحدهما مع القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، والآخر مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، وقال بشأنها: "هذه الخطط تسير في نفس الاتجاه".
وعقب اجتماعات المسؤولين الأمريكيين، قال دانفورد: "حجم الحملة يعتمد على عدد الدول التي تقرر الالتزام بها، لدينا مفهوم واضح جدًا لما نريد القيام به"، واقترح دانفورد أن يبدأ المبادرة بتحالف صغير، وقال: "سيكون هذا قابلاً للتطوير، لذلك مع وجود عدد صغير من المساهمين، يمكن أن تكون لدينا مهمة صغيرة وسنعمل على توسيعها مع تحديد عدد الدول التي ترغب في المشاركة".
تجنيد الحلفاء العسكريين في مياه الخليج
لم يكن ما أعلنه دانفورد جديدًا على الأسماع، فبعد أيام قليلة من إسقاط إيران طائرة استطلاع أمريكية مسيّرة ووسط تصاعد التوتر في المنطقة، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الشهر الماضي، خلال لقائه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، أنه يأمل بقيام تحالف يضم أكثر 20 دولة بينها دولة الإمارات والسعودية، لضمان أمن الملاحة البحرية، وعبَّر عن ذلك بقوله: "سنحتاج لمشاركتكم جميعًا، بطواقمكم العسكرية".
كما كان القائم بأعمال وزير الدفاع مارك إسبير، قد أثار هذه القضية الشهر الماضي مع المسؤولين المتحالفين في مقر حلف "الناتو"، لكن لم تكن هناك دول مستعدة للالتزام بالمشاركة، وقال إسبير في ذلك الوقت إن الخطط ستحتاج إلى مزيد من الصقل السياسي.
وعلى الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين ناقشوا بشكل علني خطط حماية المضيق، فإن ما كشفه دانفورد بأن التحالف سيسعى أيضًا إلى تعزيز الأمن في باب المندب قبالة اليمن يبدو عنصرًا جديدًا، لكنه لا يختلف كثيرًا عن حديث بومبيو المباشر عن بناء تحالف جديد ضد إيران.
ورغم أن الخطة الأمريكية الجديدة افتقدت هذه المرة إلى الإشارة صراحةً لمصدر التهديدات الأمنية التي تستدعي حماية حركة الملاحة في المضايق الإستراتيجية، واقتصرت في المقابل على القول "سواحل إيران واليمن"، فإن وسائل الإعلام السعودية والإماراتية تبارت في الإشارة إلى ما وصفتها "اعتداءات إيران" على طرق الملاحة، مشيرة إلى جهود التحالف العربي في الحفاظ على استمرار حرية الملاحة البحرية والتجارة العالمية.
وفضلاً عن الأسباب الأمنية المعلنة بشأن التحالف، ربما تسعى واشنطن إلى جر أقدام بعض الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية والإمارات، إلى مياه الخليج، كجزء من إستراتيجية "الضغط القصوى" التي تمارسها على إيران لحرمانها من تصدير نفطها عبر مضيق هرمز، وذلك بدلاً من أن تعمل هذه الدول كوسطاء.
أمَّا كلفة الخطة الأمريكية فتوضحها تصريحات ترامب التي نقلها بومبيو خلال جولته الخليجية الأخيرة، وقال فيها إنه "يجب ألا تدفع الولايات المتحدة مقابل ذلك، بل يجب أن تكون قوة عسكرية دولية"، تشير إلى أن ثمة دول حليفة لواشنطن عليها أن تدفع، وهو ما لم يخُفه ترامب في تصريحات سابقة، اشتكى خلالها من استفادة مجانية للحلفاء من واشنطن، وطالب الدول الآسيوية على وجه الخصوص بتحمّل جزء أكبر من الأعباء المادية لضمان الأمن في منطقة الخليج الغنية بالنفط.
وفي حين تقوم الولايات المتحدة ببناء وجودها العسكري في الخليج من خلال تحالف دولي واسع يشمل دولًا آسيوية وأوروبية، يمتلك ترامب على ما يبدو شركاء راغبين وأثريا في الدولتين الخليجيتين (السعودية والإمارات)، لكن من المرجح أن يواجه حملة معارضة قوية في أوروبا وآسيا، وخاصة من تلك الدول التي ما زالت ملتزمة بالاتفاق النووي مع إيران.
ويعكس هذه التوقعات ذلك التردد الواضح حتى الآن في موقف الدول التي يستهدفها التحالف، ففضلاً عن عدم الإعلان حتى الآن عن الموقف الرسمي للدول الحليفة للولايات المتحدة، رفض نائب رئيس مجلس الوزراء الياباني كوتارو نوغامي، وهو أحد الحلفاء الرئيسيين لواشنطن أيضًا، التعليق مباشرة عند سؤاله عن تعليقات دانفورد، مكتفيًا بالتعبير عن قلقه بشأن تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، وضمان المرور الآمن في مضيق هرمز أمر حيوي لأمن الطاقة في بلاده.
لكن هذه الخطوة من شأنها زيادة حدة المواجهة، كما تزيد من احتمال نشوب صراع مع ايران، فالموقف الأمريكي لم يُخفف بعد، بل يعد نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بمواصلة الضغط على إيران، في حين أعلنت الأخيرة أن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% سيكون أحد خياراتها في المرحلة المقبلة، كما ألمحت إلى إمكان تشغيل أجهزة طرد مركزي كانت قد عطلتها بموجب الاتفاق النووي الموقع مع القوى العالمية عام 2015.
لعل ذلك ما أثار مخاوف بغداد التي عبَّرت عن قلقها من أن تعطيل الخطة الأمريكية للملاحة في مضيق هرمز سيؤثر على الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على واردات النفط، وهو ما دفع إلى الإعلان عن مد أنبوب نفط يمتد من محافظة البصرة جنوبي البلاد إلى محافظة الأنبار في الغرب ومنها إلى الأردن، مع إمكانية تفرعه إلى سوريا أيضًا، بالإضافة إلى إجراءات أخرى تجري دراستها، ومنها تشييد جزيرة لتصدير النفط العراقي، بحسب ما أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي.
لماذا تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء الملاحة؟
كان ولي عهد المملكة، ومعلمه محمد بن زايد، نظيره في الإمارات، قد تعهدا بالتزامات مالية محددة لترامب تتضمن شراء أسلحة بمليارات الدولارات من الولايات المتحدة، وهناك تحديات في الوفاء بتلك الالتزامات، تتصدرها أسعار النفط والتباطؤ الاقتصادي وزيادة الإنفاق السياسي والاجتماعي داخل وخارج بلدانهم، وقد أدى رعايتهما للحرب في اليمن إلى زيادة تعقيد الموقف، وكذلك الفشل في المضي قدمًا في خصخصة "أرامكو"، أكبر شركة نفط في العالم، التي كانت الرياض تأمل أن تجمع من خلالها تريليونات الدولارات، كما يدعم الثنائي الخليجي الحرب المدمرة خليفة حفتر في ليبيا.
وبالنظر إلى هذه الالتزامات والتحديات، كان عليهما البحث عن طرق أخرى لتمويل التزاماتهما تجاه ترامب والوفاء بها، وبالتالي، فقد خلقوا "خطرًا وشيكًا وحاضرًا" يتطلب تحركًا إقليميًا فوريًا، وهو إيران، التي يُروج ضدها على أنها تعيق جميع الصادرات تقريبًا عبر مضيق هرمز إلى خليج عمان قبل الوصول إلى المحيط الهندي.
في هذا الصدد، يأتي سعي واشنطن إلى تشكيل هذا التحالف الدولي عقب وقوع عدة هجمات على ناقلات النفط في مياه الخليج خلال الأشهر القليلة الماضية، وألقت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حينها باللوم على إيران وعملائها في المنطقة، لكن طهران نفت أنها كانت وراء الهجمات الأخيرة على السفن التجارية في منطقة الخليج.
وبعد أيام من هجوم يونيو/يونيو على 4 ناقلات نفط، أدَّى سقوط طائرة استطلاع أمريكية دون طيار على أيدي القوات الإيرانية في الخليج إلى جعل الخصمين على شفا الحرب، وسمح ترامب بشن ضربات عسكرية على إيران ردًا على ذلك، لكنه تراجع قبل تنفيذها بـ10 دقائق، كما قال.
كما تخشى واشنطن من تهديديات إيران المتكررة بإغلاق مضيق هرمز إذا لم تتمكن الأخيرة من تصدير النفط، وهو الأمر الذي سعت إليه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كوسيلة للضغط على طهران لإجبارها على إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، بالإضافة إلى فرض أشكال من العقوبات التي طالتمؤخرًا كبار القادة الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي.
علاوة على ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة تشارك السعودية والإمارات، القلق الشديد منذ فترة طويلة من هجمات المقاتلين الحوثيين المتحالفين مع إيران في مجرى باب المندب الضيق الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب، ونتيجة لهذه الأحداث المتصاعدة في مياه الخليج، يكتسب الاقتراح الأمريكي بإنشاء تحالف دولي لحماية الشحن في المنطقة، قوة دافعة للوجود في تحالف مشترك.
ويزيد على ذلك تهديدات ترامب الأخيرة بأنه لن يسمح لطهران بامتلاك أسلحة نووية يمكنها أن تهدد حليفته الوثيقة في المنطقة "إسرائيل" التي هدد رئيس وزرائها بقصف إيران، وقال نتنياهو الذي وقف أمام طائرة مقاتلة من طراز "إف 35" خلال جولة في قاعدة جوية إسرائيلية، يوم الثلاثاء، إن إيران "تهدد مؤخرًا بتدمير إسرائيل، وعليها أن تتذكر أن هذه الطائرات يمكنها الوصول إلى كل مكان في الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران، وبالتأكيد سوريا".
وفي حال تحقيق "توافق في الآراء بشأن إيران" وإرساء التفاهم الأمني بين دول الخليج والولايات المتحدة، يتوقع الباحث بمركز الجزيرة للدراسات سمبيسا فاكودا، في مقال نُشر في موقع "ميدل إيست مونيتور"، أن يؤدي ذلك إلى ترسيخ وجود الولايات المتحدة والسعودية والإمارات في أمن الممرات المائية الحيوية، ويمكنهم في النهاية "امتلاك الطرق والتحكم فيها"، وإذا تحقق هذا السيناريو، فقد يكون له تأثير سلبي على إيران، وفي الواقع، قطر المحاصرة حاليًّا من جيرانها.
علاوة على ذلك، فإن ترسيخ وجود الدول الثلاثة سيفيد "إسرائيل" من خلال تقديم منطقة عازلة في الممرات المائية، ونقل "التهديد الإيراني" بالكامل إلى جيرانها العرب الذين سوف يبقون إيران تحت المراقبة، وربما يتصرفون ضدها إذا أُمروا بذلك، وكونهم "حماة الإسلام السني، يمكنهم أن يفعلوا ما يحلو لهم ضد إيران الشيعية"، في حين أن الهجوم الإسرائيلي على الإيرانيين قد يُشعل حربًا إقليمية.
لكن مع استمرار الحرب الكلامية بين الطرفين، يبدو الرئيس ترامب، بحسب توصيف صحيفة "واشنطن بوست"، مفتقرًا لأي إستراتيجية للتعامل مع الأزمة الإيرانية، فمنذ الانسحاب من الاتفاق النووي، كانت إدارته غير مستعدة لخطواتها التالية من أجل تحقيق أهداف ملموسة دون إغراق الولايات المتحدة في حرب في الشرق الأوسط.
نون بوست