بقلم: د. سناء أبو شرار
أن تكون فلسطيني هي أن تكون عشرات الأشخاص، منهم من يهاجر، منهم من يقبع في السجون لمؤبد أو ثلاث أو أربع مؤبدات، منهم من لا يستطيع أن يغادر بلد المنفى، ومنهم من يستطيع أن يغادر ولكن لا يريد لأنه تعب من تتابع دول المنفى، منهم من يحلم ثم يخنق حلمه بيديه، ومنهم من يحلق حلمه عالياً ولكنه يعود من جديد ليحط على فرع شجرةٍ ما في فلسطين، شجرة منهوبة مسروقة وربما متفحمة ولكن عصفور الحلم لا يهمه إن كانت شجرته خضراء أم صفراء او سوداء فهي تبقى شجرته وأصل حكايته، ومنهم من يتعلم ويكدس الشهادات ولكن بداخله هناك فراغ لا تملأه كل شهادات الأرض إنها رائحة الوطن، رائحة الجدة والأم والخالة.
منهم من كدس الأموال ولكنه يشعر بالفقر لأن أمواله لن تُعيد له وطنه المسلوب لذلك يحيا هاجس سرقة أمواله أينما ذهب وأينما ارتحل فهو هدف سهل لكل سارق ولكل محتال إنه كيان هش بلا وطن، ومنهم من عاش طفولته في فلسطين ثم رحل أو تم إبعاده ولا يستطيع أن يعود فلا يجد السكينة ولا السعادة مهما حاول البحث عنها حتى ولو قدمت السعادة له نفسها دون ثمن لا يشعر بها، البرودة تعتري كل كيانه لأنه ترك سعادته الحقيقية هناك بجانب شاطئ ما في فلسطين أو تحت ظل شجرة تين أو ربما في ظلال أشجار الخليل.
ومنهم من يتزوج ويُنجب الأطفال ولكن نظراته دائماً وأبداً نظرات طفل فقد والديه وألعابه وبيته وسريره، نظراته تبدو غارقة في الفراغ الذي يمتد بين حدود الدولة التي يعيش بها وبين وطنه الأول فلسطين، ومنهم من قدم روحه لفلسطين ولو عاد للحياة لقدمها مرة ثانية بل وعشرات المرات، ومنهم من ينتظر تقديم الروح والجسد وكل الوجود لأجل حفنة من فلسطين، ومنهم من تخلى عن فلسطين وخان وطنه واقتلع جذوره يغرق في نعيم الخيانة ولكنه لا يعرف للأمن طريقاً ولا للفرح الحقيقي وسيلةً، يقدم خيانته في يد ويجترع السم في اليد الأخرى، ومنهم من هاجر لأقاصي البلاد برغبته او رُغماً عنه فقيراً أو ثرياً ولكنه يلتفت دائماً للخلف ترصد نظراته كل ما يدور في فلسطين، يحيا بها رغم كل المسافات، مسافات الزمن ومسافات الأرض، هناك في قلبه خريطة واحدة لدولة واحدة يعيش بها رغم أن جسده يعيش في بلد المنفى، إنها فلسطين.
ومنهم من تم طرده من فلسطين وبقيت زوجته وأولاده هناك، لا يستطيع رؤيتهم ولا يستطيعون الخروج للحاق به، نراه رجل بكامل قوته الجسدية ولكن نظره واحدة لوجهه تخبرنا بأنه من الداخل انسان مهشم حتى آخر ذرات وجوده، وأن حلمه الوحيد هو غرفة صغيرة تضمه مع أسرته التي أصبحت مجرد ذكرى وصور ترسلها زوجته من حين لآخر عبر الهاتف المحمول، ومنهم من لم يعرف سوى مخيم اللاجئين بسقوف الزينكو وبالشوارع الضيقة التي تختلط بها مياه الشرب مع مياه الغسيل، شوارع ضيقة وبيوت صغيرة تكتظ بها عشرات الأجساد والأرواح ولكنها ورغم ضيق المكان ورغم فقره وبؤسه تشعر بحرية لا يعرفها المُحتل لأنها تنظر من خلال نافذة الغرف الضيقة إلى حلمٍ بعيد ولكن آت وربما أهل المخيمات هم الأكثر تشبثاً وإيماناً بتحقق الحلم ولو بعد عشرات السنوات لأنهم وببساطة لا يمتلكون سوى هذا الحلم، ينسجون كل تفاصيل حياتهم حوله حتى أنهم يعرفون وبدقة ماذا سيفعلون حين تصبح فلسطين حرة وأين سيذهبون لأنهم أصحاب الأرقام والذكرى والحلم.
ومنهم من يعيش حياته دون ان يهتم من هو أو من أين أتى ولكنه ولابد وفي فترة ما من حياته أن تستيقظ فلسطين في روحه فيبدو كمن فقد ذاكرته ثم استرجعها تدريجياً إلى أن اكتملت لوحة البازل في عقله لتكون أيضاً فلسطين ومن جديد.
وإذا كان لدينا خيال الطفل، ونظرنا إلى الكرة الأرضية من خلال الفضاء لوجدنا قدم فلسطينية تسير على كل أرض وفي كل دولة، لأنهم تشردوا، تشتتوا، الأخوة ينتشرون في عدة بلاد والأقارب والمعارف، قرية صغيرة في فلسطين بها العشرات ممن سافروا ولم يعودوا أما المدن فبها الآلاف ممن سافروا عادوا أو لم يعودوا.
رغم أنه قد تم سلب فلسطين وتشريد أهلها وتمزيق روابطهم وقتل مشاعرهم واقتلاع جذورهم إلا أن الانسان الفلسطيني ربما يكون الوحيد الذي لم يتمزق من داخله، إنه المشرد الوحيد الذي يمتلك كيان داخلي صلب كما لو كان له دولة يراها رؤيا العين؛ كل تلك الخطوات لكل فلسطيني مبعثرة في البلاد تجتمع بخطوط غير مرئية نحو فلسطين، لقد درس الاحتلال كل التفاصيل الأمنية، كل الوسائل الكفيلة بأن يضمن سيطرته على الأرض ولكنه لم يستطيع ولم يتمكن من قهر تلك النظرة الثابتة الراصدة لفلسطين وذلك الانتظار الذي لا يتعب ولا يكل وذلك الحلم الذي لا ينام ولا تقتله الغربة، حلم العودة؛ وأن كل فلسطيني في نهاية يومه وقبل نومه لابد وأن يتذكر الأرض أو الناس، الكلمات او النسمات، الدالية الخضراء أو شجرة التوت القديمة؛ فنحن الشعب الوحيد الذي يعيش الحاضر ولكن روحه تقمصت الماضي ليس للذكرى بل للعودة. نحن الشعب الوحيد الذي ينتصر عبر الحلم والذكرى التي لا تفنى. أن تكون فلسطيني هي أن تعيش الواقع ولكنك تحيا الحلم بكل أبعاده بكل مسافاته بكل تفاصيله، تحيا في الانتظار وتحمل حقائبك كل يوم في روحك جاهزاً للعودة، تسير قدماك في أراضي الشتات ولكن روحك تنغرس في الوطن، إن لم تكن قدماه في أرضه فروحه تحلق فوقها ترصدها تنتظرها ولا تزال تحمل مفاتيح بيوتها واوراق ملكيتها. الاقتلاع يشبه التجذر ففي كلاهما الجذور تعلم أن ليس لها مكاناً سوى في تلك الأرض مهما ابتعدت ومهما جفت ومهما طال زمن الاقتلاع.
(رأي اليوم)