2024-11-30 12:30 م

الثورة الاسلامية الإيرانية وتأثيرها على استراتيجيةَ واشنطن

2019-02-10
شارل ابي نادر

قد يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الأكثر صراحة ووضوحاً، من بين رؤساء الولايات المتحدة الأميركية الذين سبقوه، في فضح مخططات وأجندات ادارته، وربما كان أغلب أسلافه في هذه الادارة غير بعيدين في سياستهم عن مضمون سياسة الرئيس الاميركي الحالي، ولكن كانوا على الأقل، يناورون ويخادعون في إظهار حقيقة أهداف إدارتهم القومية والاستراتيجية. ولكي تكتمل مع الرئيس ترامب هذه الميزة، وضع على يمينه مستشاراً للأمن القومي (جون بولتون) يوازيه، لا بل يزايد عليه في تلك الصراحة الفظة، والتي لا تعرف شيئاً عن الطرق الديبلوماسية المعروفة.

قالها مؤخراً الرئيس ترامب وبالفم الملآن: "سنبقى في العراق لكي نراقب ايران"، ويكون بذلك قد اختصر، وبعبارة صغيرة وبسيطة، استراتيجية واسعة مليئة بالأزمات والحروب والمآسي، طبعت سياسة الادارة الاميركية في الشرق الاوسط بشكل عام، وفي الملفات التي أثرت وتأثرت بكل من إيران والعراق، وبأغلب الدول المحيطة أو المرتبطة بالدولتين بشكل خاص، وذلك منذ سقوط حليف تلك الادارة الاستراتيجي الشاه محمد رضا بهلوي، وانتصار الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني (قده) في العام 1979.

بعد الثورة الاسلامية في ايران، خسر الأميركيون نقطة ارتكازهم الأساسية في المنطقة، والتي كانت مع الشاه المهزوم، منطلقاً لشرذمة العرب والمسلمين، ونقطة تفتيت وإضعاف وتشتيت لأغلب الدول الخليجية والعربية الغنية، والتي من الممكن أن تلعب دوراً أساسياً في تماسك الاسلام والعرب، فيما لو توحدت وتكاتفت، أولاً بوجه العدو التاريخي للعرب والمسلمين (الكيان الصهيوني)، وثانياً في تشكيل جبهة قوية تفرض نفسها سياسياً واقتصادياً بوجه الأطماع الغربية بدولهم وبثرواتهم ...

من هنا انطلقت الاستراتيجية الأميركية نحو المنطقة، مدفوعة بهاجس الثورة الاسلامية في ايران وخطرها على مصالحهم ومصالح حلفائهم الصهاينة، وجدت في مناورة خلق الفتن والأزمات والحروب في المنطقة وخاصة في كل الأمكنة التي تؤثر سلباً على هذه الثورة، هدفاً ثابتاً ودائماً لإضعاف الأخيرة وتشتيت فعاليتها وعناصر قوتها، وهذه الاستراتيجية يمكن تحديد مراحلها ومحطات تنفيذ أهدافها كالتالي:
 
الحرب العراقية - الايرانية
 
مباشرة بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، بدأت تقريباً حرب الخليج الأولى، وبذرائع خُلِقت فجأة في رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فتجاوز اتفاقية نافذة موقعة بين ايران والعراق، كانت تنظم خلافات حدودية سابقة بين الدولتين، تتعلق بالسيادة على شط العرب والواجهة البحرية المشتركة على الخليج، وذلك ضمن المثلث الاستراتيجي بين عابدان وخورمشهر في ايران والبصرة في العراق، وقد لعبت الولايات المتحدة الاميركية دوراً رئيساً في تسعير الخلاف بداية، ولاحقا في إطالة النزاع الدموي بين الطرفين، والذي تجاوز الثماني سنوات بما فيها من خسائر هائلة في الأرواح لدى الطرفين، مع خسائر مادية هائلة قاربت الاربعمئة مليار دولار.

غزو العراق للكويت

مباشرة بعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية، وبفترة لم تتجاوز السنتين، كانت كل من الدولتين بالكاد قد انتهت من لملمة ويلات الحرب وخسائرها الضخمة، خلق صدام حسين، ذرائع واهية لم تكن تحمل أي معنى أو مضمون قانوني أو تاريخي أو سياسي، وبغض نظر واستدراج خبيث من الاميركيين، قرر غزو دولة الكويت دون سابق انذار، ضارباً عرض الحائط بكل المبادىء والأعراف والقوانين الدولية، وحدث ما حدث من دمار ومن تهجير ومن ويلات وخسائر، والأهم من ذلك أنه خلق الذريعة التي طالما انتظرها الاميركيون، وشنوا حرباً واسعة على العراق، وكانت تلك الحرب مفتاحاً للتدخل العسكري الغربي - الاميركي في المنطقة، والذي ما زال حتى الساعة، كاحتلال كامل بكل معانيه، جاثماً ثابتاً على أرض العراق.

نشوء الارهاب و"داعش"

- مع تزايد الضغوط الداخلية الوطنية على الاحتلال الاميركي، وتصاعد عمليات المقاومة ضده، إضطر الاميركيون لايجاد مخرج مناسب لانسحاب وحداتهم العسكرية، بالحد الادنى يحفظ مصالحهم من جهة، ومن جهة اخرى يؤمن حماية تلك الوحدات من عمليات المقاومة المؤلمة، والتي بسقوط الآلاف من الضباط والجنود من تلك الوحدات، تعاظمت الضغوط الداخلية ضد وجودهم في العراق، فاُجبِروا على الانسحاب، بعد أن استطاعوا انتزاع توقيع السلطات العراقية على اتفاقية أمنية عسكرية، أبقت لهم عدة قواعد عسكرية جوية.

- لم يكن هذا الوجود العسكري الاميركي، والمحدد والمقيد بالاتفاقية مع الدولة العراقية، كافياً لاعطائهم القدرة على التدخل في السياسة الداخلية لبغداد، وتوجيهها نحو أجندتهم الثابتة في تفتيت وتشتيت العرب والمسلمين، انطلاقاً من تأزيم العلاقة بين الدولتين العراقية والايرانية، وحيث رأوا قدرة السلطتين على اعادة التماسك واللحمة، وتوجيه العلاقة نحو مصلحة الأمة الأوسع والأنسب، خلقوا الارهاب الممثل بـ"داعش"، وساعدوه سراً وعلناً على ضرب الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والمؤسسات الحكومية في أغلب مناطق البلاد، ساعدهم على ذلك مناخ مستحدث من الانقسام المذهبي، عُمل عليه بتوجيه أميركي وتمويل خليجي وإعلام أخطبوطي هدام، فكانت كارثة تمدد وانتشار "داعش"، وضَعُف العراق وتمزق، وتهددت الجمهورية الاسلامية في ايران، وتأثر أمنها واقتصادها، واستُنزِف قسم كبير من جهودها ومن طاقاتها لاستيعاب وجود الارهاب الخطر.

ولاحقا، بعد صمود محور المقاومة بقيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية، بمواجهة الحرب الارهابية التي استهدفت العراق وسوريا ولبنان، وبعد أن عاد التوازن الأمني والاقتصادي والسياسي الى دول المحور، ارتأى الرئيس ترامب أن ينسحب من الاتفاق النووي مع ايران، دون أي مستندات أو وثائق تثبت مخالفة ايران للاتفاق، وذلك على عكس ما رأت أغلب الدول المعنية، وأيضاً على عكس ما ترى أجهزته الأمنية والاستخبارية، وهو يحاول اليوم عبر رزمات متتالية من العقوبات الاقتصادية القاسية والظالمة، أن يطوّع ايران ويقوض نفوذها وتأثيرها في المنطقة.

هكذا، وبعد أن اكتشف الاميركيون كما يبدو، أن مناورتهم الأخيرة في الانسحاب من الاتفاق النووي قد فشلت في تقويض ومحاصرة الجمهورية الاسلامية الايرانية، لأسباب وأسباب، خرجوا بمعادلتهم الأخيرة حول البقاء في العراق، بهدف مراقبة إيران والحد من نفوذها ومن تأثيرها، وبذلك يكون الاميركيون بقيادة ترامب، في هذه المرحلة من الاستهداف لايران عبر مراقبتها من العراق، قد توّجوا استراتيجيتهم التي بدأت بعد انتصار الثورة الاسلامية عام 1979، واستمرت مع خلقهم للتوتر وللحروب والازمات المحيطة بإيران والمؤثرة عليها، في حربي الخليج الاولى والثانية، ولاحقا في خلق ورعاية ودعم حركة الارهاب والتكفير والفوضى القاتلة.