في الوقت الذي بدأ فيه بعض "العرب" ينسجون مواقف جديدة من الدولة السورية وقيادتها , ومن أزمتها كما يحلو لهم تسميتها هروبا ً وتهربا ً من حقيقة تاّمرهم ومن جريمة شن أفظع الحروب عليها , تلك الحرب التي لم تعرف البشرية مثيلها من قساوتها وفظاعتها وسفكها للدماء وبالتخريب والتدمير الشامل ولكل ما يعنيه مفهوم "الدولة" السورية من بشر وحجر وإنسان وهوية وتاريخ وحاضر ومستقبل , مع تراجعٍ ٍ دولي وإقليمي وعربي عن مطلب تنحي الرئيس بشار الأسد, ووسط الإهتمام المفاجئ بحل الأزمة وبالرغبة الخادعة للحفاظ على وحدة واستقلال أراضيها وحياة ومستقبل شعبها, يبدو أن "الشباب" عزموا العزم وعقدوا العقد وركبوا "العقل" ووصلوا مشارف الشام ... وأرسلوا بشيرا ً ليكون زاجلهم وحمّلوه غزلهم وودهم وأكفانهم , ووقفوا وراء الباب ينتظرون الجواب ...
نعلم أنهم يشعرون بالمرارة ويجرون ذيول الخيبة , فالنصر السوري أذهل العقلاء فكيف بالعميان والمنبطحين والحاقدين .. يبدو أنهم يعتقدون أن نصر سوريا غير مرئي وأن وجودهم في صورة النصر السوري الكبير عبر السفارات والمصافحات وبعض العلاقات وبأموال إعادة الإعمار سيمنحهم قسطا ً من المجد , ويبعد سيَرهم عن كتب التاريخ وفظاعة ما فعلوه , ولربما كانوا يعتقدون أن القصة ستمر مع الزمن , وقد يراهنون – واهمين - على قصر الذاكرة والنسيان كما نسي بعض الرؤساء والحكام والملوك العرب عداوة الصهاينة, وأنه بالمال وببعض الإبتسامات ومع "بوسة" شوارب ستُطوى الصفحة.
إن متابعة ومراقبة مواقفهم لم تلحظ إعتذارا ً أو إعترافا ً صريحا ً بنهاية مشاريعهم ووقف حربهم ضد الدولة والشعب والأرض السورية, فطاعتهم وإلتزامهم بخدمة مشاريع الأمريكان لم ولن تتزحزح , وعلاقتهم بالكيان الغاصب تحولت من السرية إلى العلنية , ولازال نصفهم الوهابي يدعم ويسلح ويمول بعض الفصائل الإرهابية في إدلب , ويدعم قادة الإنفصاليين الأكراد ومن يقف في صفهم من العرب وغيرهم , أما نصفهم الإخواني فلا زال يبايع الرئيس أردوغان خليفة ًعثماني, ولا زالوا يتطلعون إلى مشاريع تقسيم سوريا وضم الشمال السوري إلى حدود السلطنة.
لا زال الوقت مبكرا ً للحكم على الوجه الجديد – القديم للعرب , وإحداثيات تمركز كلٍ منهم في خارطة مشاريع صفقة القرن والتطبيع مع العدو الإسرائيلي , والقضية الفلسطينية والمقاومة بشكل عام , ومن تشكيل الناتو العربي بأوامر ترامب , ومن العداء لإيران , وبعض العداء المغلف بالجفاء تجاه موسكو.
ولا زال من المبكر الحديث عن الجامعة العربية وعن دورها السيئ وتخطيها أو قفزها عن ميثاقها وموافقتها على تجميد عضوية سوريا, وتأمين الغطاء السياسي لتدمير ليبيا والعراق وسوريا ... ولا زال الوقت مبكرا ً لإستعادة الهوية العربية في وقتٍ لا يزال فيه القادة العرب يقبعون في حجور تحالفاتهم الوهابية , الإخوانية , الخليجية , الأمريكية , الإسرائيلية , التركية ...إلخ , على حساب الهوية العربية والإنتماء للأمة والأرض العربية , ولعودة صياغة مفهوم الأمن القومي العربي , واستعادة العمل العربي المشترك , وقد يدغدغ أحلام البعض حلم تفعيل إتفاقيات الدفاع العربي المشترك ...
إن مشهد المصافحات والزيارات الشكلية , ومشاهد إعادة فتح السفارات , وهبوط طائرات الرؤساء العرب واحدا ً تلو الاّخر , -على أهميتها -, لكنها لن تكون هدفا ً سوريا ً بحد ذاته , فسوريا تبحث عن عالمٍ عربي جديد يعترف بالهوية العربية ولا يتخلى عن بوصلته مع أول عاصفة , وتبحث عن عالمٍ عربي تحترمه دول العالم ولا تعتبره مجرد أدوات شرٍ وإرهاب وتخلفٍ وجهل ونفط وأموال مكدسة , عالم تحترمه شعوبه قبل شعوب العالم ... وهذا يعيدنا بالضرورة إلى ما رفضه العرب يوما ً, ولم يعرفوا أن ثمن الإستسلام أكبر من ثمن المقاومة , نعم سنعود إلى عالمٍ يقوده الرئيس بشار الأسد ولا يقوده صاحب عواصف الحزم والأمل والدماء والدمار على اليمن ولا من يتهاوشون على الطريدة في سوريا والعراق وليبيا , وبإختصار هو عالمٌ تقوده الزعامات ولا يقوده العبيد وأنصاف الرجال ... وهناك من سيقول أننا نعود بذلك إلى اساس الخلاف , نعم هذا صحيح , مع فارق أن المتخاذلون خاضوا حروب أوهامهم وهُزموا على أبواب دمشق , وعليهم أن يشكروها لتمسكها بالهوية العربية ولإنقاذها لما تبقى من سمعة العرب أجمعين.
إن المتغيرات الجديدة تفرض على سوريا مواجهاتٍ جديدة وبأساليب جديدة , فالحرب لم تنه بعد لكنها تأخذ أشكالا ً مختلفة , وهذه المتغيرات تتمثل بالإنتصارات السورية الميدانية , وتطهير غالبية الجغرافيا السورية من رجس الإرهاب , بالإضافة إلى تطور العدوان التركي وتهديداته واستعداداته لإطلاق عملياتٍ عسكرية جديدة من غرب الفرات إلى شرقه تحت ذريعة محاربة الإرهاب الكردي ومنعه من قامة دويلة كردية على حدوده الجنوبية وتهديدها للأمن القومي التركي , بالإضافة إلى ضبابية مواقف قادة ما تسمى "قوات سورية الديمقراطية" وقوات الحماية" من الدولة السورية حيال قرار الرئيس الأمريكي بالإنسحاب من سوريا, وبروز مواقف جديدة للفرنسيين والبريطانيين , دون أن ننسى العدوان الإسرائيلي المتكرر على سوريا لأسباب تتعلق تارة ً بأكاذيبه وأخرى بمؤازرته أعداء الشمال وكل ما من شأنه إشغال وإضعاف سوريا وإلحاق الأذى بها وبوحدة أراضيها ...
لذلك يترتب على جميع دول المنطقة والعربية خصوصا ً, أن تختار استرتيجيتها الجديدة بما يتوائم مع المرحلة الجديدة للصراع ... فإن صدق العرب في تصريحاتهم وفي رسائلهم المباشرة وغير المباشرة نحو دمشق , فلا بد من ربط الأقوال بالأفعال , وإثبات حسن النوايا , وأقله وقف الهجوم على سوريا واعترافهم بنصرها , والبدء الفوري بكل ما من شأنه دعم الدولة والقيادة والحكومة والشعب السوري بتحرير ما تبقى من أراضيها تحت نير الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي والتركي , وهذا يتطلب بالتأكيد مصالحة ً عربية شاملة , كي ينسجم العرب مع أنفسهم أولا ً, ووضع الحد لكافة الخلافات العربية - العربية...
للأسف , وبعدما قام العرب بما قاموا به خلال السنوات الماضية, والدور السيء المباشر الذي لعبوه في سفك دماء السوريين وتدمير وطنهم , لا تبدو مهمة القادة العرب خصوصا ً ممن يتطلعون إلى إعادة فتح سفاراتهم , واستعادة علاقاتهم الدبلوماسية والطبيعية مع سوريا والشعب السوري على أساس الهوية والإنتماء والحقوق وقدسية القضايا العربية , واستعادة علاقات الإخوة الحقيقية معها , ولا بد لهم من بذل الجهود المضاعفة , وإجراء مراجعاتٍ شاملة لسياستهم تجاه سوريا , وإجراء تغييراتٍ عديدة في حكوماتهم وقياداتهم خاصة ً تلك المسؤولة عن أخطاء الحسابات التي وقع فيها الحكام والملوك والأمراء ... فلا بأس أن يتغير العرب ويعودوا إلى رشدهم , فأن تصل متأخرا ً خير من ألا تصل , فالعودة إلى سوريا تستحق العناء وتمنح الواصلين كل الفخر والإعتزاز.
سوريا للعرب ... هيا تغيروا وتعالوا إلى دمشق
2018-12-28
بقلم:ميشيل كلاغاصي